ومفاد المسألة سؤال عن حكم رجل أفطر في شهر رمضان متعمدا فلم يصم أياما منه دون أن يكون له عذر من مرض أو سفر أو نحوه؟

حكم من أفطر متعمدا في شهر رمضان.

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله محمد، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:

فالجواب: أن صيام شهر رمضان بأيامه المعدودات ركن من أركان الإسلام، وصيامه مفروض على المسلم فرض عين وتكليف، ولا يستثنى منه إلا أهل الأعذار كالمسن الذي لا يتحمل الصيام، والمريض، والمسافر ومن في حكمهم.

والأصل في فرض الصيام الكتاب والسنة والإجماع.

أما الكتاب: فقول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون} [البقرة: 183]. وقوله تعالى: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 185].

أما السنة: فقد ورد عن رسول الله ﷺ أنه قال: (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت)([1]).

وجاء رجل إلى رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله، أخبرني ماذا فرض الله علي من الصيام فقال: (شهر رمضان إلا أن تتطوع شيئا)([2]).

أما الإجماع: فقد أجمع المسلمون على صيام شهر رمضان بأيامه المعدودة، ومن ترك صيامه عمدا وجحودا، فقد نقض ركنا من أركان الإسلام وأصبح في حكم المرتد. وقد صام المسلمون شهر رمضان؛ امتثالا لأمر ربهم حيث كتبه عليهم، ولم يكن لأحد رخصة في ترك صيامه إلا إذا كان ذا عذر يمنعه من صيامه.

وترك صوم يوم أو أيام من شهر رمضان دون عذر مع الإقرار بفرضيته، كبيرة من كبائر الذنوب، ويعد فاعله مخالفا لأمر الله، ومقدما أمر دنياه على دينه، وفي هذا إثم عظيم([3]).

وقد ورد في الحديث أن رسول الله ﷺ قال: (من أفطر يوما من رمضان من غير رخصة ولا مرض لم يقضه عنه صوم الدهر كله وإن صامه)([4]).

ومن فعل ذلك يترتب عليه أمران:

الأمر الأول: التوبة بشروطها المعروفة، ومنها: الإقلاع عن الذنب والعزيمة على أن لا يعود، فإذا تحققت شروط التوبة فعسى الله أن يتوب على التائب ليكون في عداد الذين قال الله فيهم: {إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} [الفرقان: 70].

الأمر الثاني: ما يلزم المفطر المتعمد من القضاء عند جميع العلماء، والكفارة إذا أفطر بالجماع عندهم، كذلك وبغيره من المفطرات عند بعضهم.

ففي مذهب الإمام أبي حنيفة: يلزم من فسد صومه حكمان: أحدهما: وجوب القضاء. والثاني: وجوب الكفارة، فالقضاء يثبت بمطلق الإفساد سواء كان عمدا أو خطأ، وسواء كان بعذر أو بغير عذر؛ لأن القضاء يجب جبرا للفائت ليقوم مقامه. وأما وجوب الكفارة فيتعلق بإفساد مخصوص وهو الإفطار الكامل بوجود الأكل أو الشرب أو الجماع صورة ومعنى متعمدا من غير عذر مبيح ولا مرخص ولا شبهة إباحة([5]).

وفي مذهب الإمام مالك: من صام رمضان فليس له أن يخرج منه إلا بعذر من الله، فإن أفطر متعمدا بجماعٍ، أو أكل أو شرب بفم فقط، كانت عليه الكفارة مع القضاء([6]).

الدليل على القول بالكفارة عند الإمامين أبي حنيفة، ومالك وأصحابهما حديث الأعرابي الذي جاء إلى رسول الله ﷺ قائلا: هلكت يا رسول الله. قال: (وما أهلكك؟) قال: وقعت على امرأتي في رمضان، قال: (هل تجد ما تعتق به رقبة؟) قال: لا. قال: (فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟) قال: لا. قال: (فهل تجد ما تطعم به ستين مسكينا؟) قال: لا. ثم جلس فأتى النبي ﷺ بفرق فيه تمر. فقال: (تصدق بهذا). فقال الرجل: على أفقر مني يا رسول الله؟ فوالله ما بين لابتيها أهل بيت أفقر من أهل بيتي. قال: فضحك النبي ﷺ حتى بدت أنيابه ثم قال: (فأطعمه أهلك)([7]).

وفي مذهب الإمام الشافعي: لا تجب الكفارة إلا في الجماع؛ لأن الأصل عدم الكفارة إلا فيما ورد به الشرع، وقد ورد هذا في الجماع وما سواه ليس في معناه؛ لأن الجماع أشد وأغلظ([8]).

وفي مذهب الإمام أحمد: من أكل أو شرب أو أدخل إلى جوفه شيئا من أي موضع كان، وهو عامد ذاكر لصومه فعليه القضاء بلا كفارة إذا كان صومه واجبا، ومن جامع في الفرج فعليه القضاء والكفارة، إذا كان في شهر رمضان([9]).

وعند الإمام ابن حزم([10]): لا يجب القضاء إلا في تعمد القيء لما صح فيه عن رسول الله ﷺ، أما تعمد الأكل والشرب، أو الوطء  فلم يتأت فيه نص بإيجاب القضاء([11]).

ومن النصوص السابقة يتبين أن الإمامين أبي حنيفة ومالك وآخرين يرون أن من أفطر في رمضان متعمدا يلزمه القضاء، كما تلزمه الكفارة، بينما يرى الإمامان الشافعي وأحمد أن الكفارة لا تلزم إلا في حال الإفطار بالجماع، أما الإمام ابن حزم فلا يرى في الفطر المتعمد قضاء إلا في القيء.

قلت: ولعل الصواب -والله أعلم- أن القضاء يلزم من أفطر في رمضان متعمدا، سواء كان فطره من جماع أو أكل أو شرب أو خلافه، ذلكم أن القضاء يعد جبرا لما فات الصائم من أيام شهر رمضان، وهذه الأيام معروفة يقينا بدخوله وخروجه، وقد أخبر الله عنها في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون} [البقرة: 183]، {أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ….} [البقرة: 184]. فإذا تعمد المكلف بصيام شهر رمضان إفطار يوم أو أيام منه، فقد نقص صيامه المعدود، ولا يجبر العدد المنقوص إلا عدد مثله.

أما الكفارة على المفطر المتعمد فلعل الصواب ما ورد في مذهبي الإمامين أبي حنيفة ومالك من وجوبها على من أفطر متعمدا من غير عذر أظهر الأقوال في هذه المسألة لما يتضمنه من حماية حرمة هذا الشهر العظيم؛ وذلك استدلالا بالسنة والمعقول، أما السنة فقد سبقت الإشارة إلى قصة الأعرابي الذي وقع على امرأته في نهار رمضان فأمره رسول الله ﷺ بالكفارة([12]).

أما المعقول فإن المفطر المتعمد قد ارتكب ذنبا حين خالف أمر الله فلم يصم كل أيام شهر رمضان المعدودات، وللتكفير عن الذنب وجوه عديدة منها الكفارة لما لها من الآثار الحسنة سواء كانت في حق العباد كإطعام المساكين، أو كانت في حق الله كالصيام تقربا إليه.

هذا من وجه ومن وجه آخر، فإنه إذا كان على الحامل والمرضع المرخص لهما بالفطر، القضاء والكفارة، وهما معذورتان بحكم الخشية على وليديهما، فإن الكفارة على المفطر المتعمد من باب أولى وألزم؛ لانعدام العذر في فعله.

وخلاصة المسألة: أن من الفقهاء من يرى أن على المفطر المتعمد القضاء والكفارة، ومنهم من يرى أن عليه القضاء دون الكفارة إلا في حال الجماع، ومنهم من لا يوجب عليه القضاء إلا في القيء. ولعل الصواب -والله أعلم- أن على المفطر المتعمد في شهر رمضان القضاء جبرا لما فاته، كما أن عليه الكفارة -كما في مذهبي الإمامين أبي حنيفة ومالك- وذلك استدلالا بالسنة والمعقول؛ أما السنة ففيها مسألة الأعرابي الذي جاء إلى رسول الله ﷺ فقال: هلكت يا رسول الله، فقال له: (وما أهلكك؟) قال: وقعت على امرأتي؛ فأمره عليه الصلاة والسلام بالكفارة. أما المعقول فإن المفطر المتعمد قد ارتكب ذنبا حين خالف أمر الله، والتكفير عن الذنب له وجوه عديدة منها الكفارة، وذلك لآثارها الحسنة في حق الله كالصيام تقربا إليه، وآثارها الحسنة للعباد كإطعام المساكين.

والله -تعالى- أعلم.

 

([1]) سبق تخريجه.

([2]) أخرجه الإمام البخاري في كتاب الصوم، باب وجوب صوم رمضان، برقم (1891)، فتح الباري، ج4 ص123.

([3]) انظر: المغني والشرح الكبير، ج3 ص51.

([4]) أخرجه أبو داود في كتاب الصيام، باب التغليظ فيمن أفطر عمدا، برقم (2396)، وأخرجه الترمذي في كتاب الصوم، باب ما جاء في الإفطار متعمدا، برقم (723)، سنن الترمذي، ج3 ص101، وفيه أبو المطوس، قال الترمذي: «سمعت محمدا -يعني البخاري- أبو المطوس اسمه يزيد بن المطوس، ولا أعرف له غير هذا الحديث».

([5]) انظر بدائع الصنائع للكاساني، ج2 ص497-498، وشرح فتح القدير لابن الهمام، ج2 ص338-339، وحاشية رد المحتار على الدر المختار لابن عابدين، ج3 ص409-411.

([6]) المدونة الكبرى للإمام مالك بن أنس برواية سحنون، ج1 ص172-174، وشرح منح الجليل لعليش، ج2 ص135-137، وبلغة السالك لأقرب المسالك إلى مذهب الإمام مالك للصاوي، ج1 ص248-249، وبداية المجتهد ونهاية المقتصد لابن رشد، ج1 ص302-303.

([7]) أخرجه الإمام البخاري في كتاب الصيام، باب إذا جامع في رمضان ولم يكن له شيء فتُصدق عليه فلْيُكفره، برقم (1936)، فتح الباري، ج4 ص193.

([8]) الأم للإمام الشافعي، ج2 ص100-101، وانظر المهذب في فقه الإمام الشافعي للشيرازي، ج1 ص183، ونهاية المحتاج إلى شرح المنهاج للرملي، ج3 ص187.

([9]) المغني والشرح الكبير لابن قدامة، ج3 ص35، 54، وانظر مطالب أولي النهى للرحيباني، ج2 ص208، وكشاف القناع عن متن الإقناع للبهوتي، ج2 ص333.

([10]) ابن حزم: علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الظاهري، أبو محمد أحمد أئمة الإسلام، كان من صدور الباحثين، فقيها، حافظا يستنبط الأحكام من الكتاب والسنة، له مصنفات كثيرة منها: «الفصل في الملل والأهواء والنحل»، و«المحلى»، و«حجة الوداع»، ولد سنة (384هـ) وتوفي سنة (456هـ)، انظر الأعلام للزركلي، ج4 ص254 -255.

([11]) المحلى بالآثار للإمام ابن حزم، ج4 ص302-308.

([12]) صحيح البخاري، ج2 ص236، صحيح مسلم بشرح النووي، ج7 ص224-226، السنن الكبرى للبيهقي، ج4 ص221.