الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله محمد، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
والجواب على هذا فيما يلي:
أهمية النية في العبادات: إن للنية أهمية كبرى في عبادة المسلم، وعلاقته بربه فإن كانت هذه النية خالصة لله التزاما بأوامره واجتنابا لنواهيه، فقد تحقق معنى العبادة والرجاء في صحتها وهذا هو معنى قول الله تعالى: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110]. أما إن كانت النية غير خالصة لله ارتد العمل على صاحبه، وكان جزاؤه عليه من جنسه. وقد بين هذا رسول الله ﷺ في قوله: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه)([1]). كما روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (يبعث الناس على نياتهم)([2]).
وفي مذهب الإمام أبي حنيفة أن النية شرطت في العبادات بالإجماع، فلا تشترط في الوضوء والغسل ومسح الخفين وإزالة النجاسة الخفيفة عن الثوب والبدن والمكان والأواني للصحة ولكنها تشترط في التيمم. وفي النية أقوال كثيرة في المذهب معروفة في مظانها([3]).
وفي مذهب الإمام الشافعي يقول الإمام السيوطي([4]): «إن المقصود الأهم منها تمييز العبادات من العادات، وتمييز رتب العبادات بعضها من بعض، كالوضوء والغسل يتردد بين التنظف والتبرد والعبادة، والإمساك عن المفطرات قد يكون للتدواي والحمية أو لعدم الحاجة إليه، والجلوس في المسجد قد يكون للاستراحة، ودفع المال للغير قد يكون هبة أو صلة لغرض دنيوي وقد يكون قربة كالزكاة والصدقة والكفارة.. فشرعت النية لتمييز القرب من غيرها»([5]).
وفي مذهب الإمام أحمد أن العبادة لا تكون إلا منوية؛ لأنها قربة إلى الله تعالى وطاعة له وامتثال لأمره، ولا يحصل ذلك بغير نية، فصفتها في الطهارة -مثلا- أن يقصد بطهارته استباحة شيء لا يستباح إلا بها كالصلاة والطواف، فلو نوى بالطهارة التبرد والأكل والبيع ونحو ذلك، ولم ينو الطهارة الشرعية لم يرتفع حدثه؛ لأنه لم ينو الطهارة، ولا ما يتضمن نيتها فلم يحصل له شيء كالذي لم يقصد شيئا([6]).
حكم النية في صحة صوم شهر رمضان المبارك وما إذا كانت شرطا لازما لصحة الصوم:
لقد ورد في مذهب الإمام أبي حنيفة أن النية تعد شرطا لصحة الصيام استدلالا بقول رسول الله ﷺ: (لا عمل لمن؛ لا نية له)([7])، ولأن صوم رمضان عبادة، والعبادة اسم لفعل يأتيه العبد باختياره خالصا لله تعالى ولا يتحقق الإخلاص والاختيار بدون النية. وخالف في ذلك الإمام زفر([8]) فعنده أن صيام رمضان جائز في حق المقيم بدون نية، واستدل بقول الله تعالى: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185]، ففي هذه الآية أمر بصوم شهر رمضان مطلقا عن شرط النية؛ لأن النية إنما تشترط للتعيين والحاجة إلى التعيين عند المزاحمة ولا مزاحمة؛ لأن الوقت لا يحتمل إلا صوما واحدا في حق المقيم، وهو صوم رمضان فلا حاجة إذا إلى التعيين بالنية([9]).
وفي مذهب الإمام مالك أن النية شرط في صحة كل صوم سواء كان فرضا أو نفلا أو قضاء، أو نذرا معينا، ومستحقا في الذمة([10]).
وفي مذهب الإمام الشافعي أن النية من فرائض الصوم، ولا يصح إلا بنية؛ عملا بما مر آنفا من قول رسول الله ﷺ: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى)، ولأن الصوم عبادة محضة فلم يصح من غير نية مثله مثل الصلاة([11]).
وفي مذهب الإمام أحمد لا يصح صوم إلا بنية سواء كان الصوم فرضا أو نفلا؛ لأن الصيام عبادة محضة فافتقر إلى النية كالصلاة([12]).
وعند الإمام ابن حزم لا يجزئ صيام شهر رمضان أو غيره إلا بنية، فمن تعمد تركها بطل صومه([13]).
وعلى هذا فإن جمهور العلماء متفقون على أن النية تعد شرطا لازما لصحة الصيام خلافا للإمام زفر الذي يرى أن صيام شهر رمضان لا يحتاج إلى نية -كما مر ذكره-.
هل النية تجب في كل يوم من أيام رمضان أم أنها تجب مرة واحدة في بدايته؟
ففي مذهب الإمام أبي حنيفة يشترط لكل يوم من أيام رمضان نية على حدة؛ لأن صوم كل يوم من أيامه عبادة لا تتعلق باليوم الآخر منه، بدليل أن ما يفسد أحدهما لا يفسد الآخر([14]).
وفي مذهب الإمام مالك إذا نوى لجميع شهر رمضان من أول ليلة أجزأه ذلك؛ لأنه «نية لصوم في زمان يصلح جنسه لنية الصوم، لا يتخلل النية والعمل المنوي زمان نهار فطر، فأشبه إذا نوى اليوم الأول من ليلته وقت المغرب أو العشاء الآخرة»([15]).
وفي مذهب الإمام الشافعي تجب النية لكل يوم من أيام رمضان؛ لأن صوم كل يوم عبادة منفردة تبدأ من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، ولا يفسد اليوم بفساد ما قبله فلم تكفه إذا نية واحدة كالصلاة([16]).
وفي مذهب الإمام أحمد تعتبر النية لكل يوم. وفي رواية عن الإمام أحمد أنه تجزئه نية واحدة لجميع الشهر، إذا نوى صوم جميعه؛ لأنه نوى في زمن يصلح جنسه لنية الصوم([17]).
قلت: ولعل الصواب إن شاء الله أن تكون النية لكل يوم من أيام رمضان؛ لأن الصائم وإن كان يريد صوم جميع أيام رمضان، إلا أن نيته تنصرف عملا إلى صيام كل يوم بعينه، فهو -مثلا- عندما يتسحر تنصرف نيته إلى أنه سيصوم اليوم الذي استقبله. وعندما يفطر تنصرف نيته إلى أنه قد أفطر لذلك اليوم، ويستقبل يوما آخر وهكذا. لهذا يمكن القول: إن كل يوم من أيام رمضان مستقل بواجباته عن اليوم الآخر. كما أن كل يوم منه مستقل بصحة صومه أو فساده عن اليوم الآخر، فاقتضى هذا أن تكون النية لازمة لكل يوم من أيامه.
وقت النية:
في مذهب الإمام أبي حنيفة أن وقت النية من طلوع الفجر إن أمكنه ذلك، أو من الليل، فإن نوى بعد طلوعه فلا يجوز إذا كان الصوم دينا أما إن كان صيام رمضان أو صيام تطوع فيجوز([18]).
وفي مذهب الإمام مالك لا تجزئ النية بعد الفجر سواء كان الصيام فرضا أو نفلا بدليل ما روته حفصة رضي الله عنها أن رسول الله ﷺ قال: (لا صيام لمن لم يجمع الصيام قبل الفجر)([19]). وهذا يقتضي العموم في الصوم([20]).
والراجح في مذهب الإمام الشافعي أنه لا يصح صوم رمضان ولا غيره إلا بنية من الليل؛ استدلالا بحديث حفصة المتقدم ذكره([21]).
وفي مذهب الإمام أحمد على الصائم أن ينوي الصيام من الليل معينا([22]).
قلت: ولعل الصواب إن شاء الله ما ورد في المذاهب الثلاثة -خلافا للإمام أبي حنيفة بجواز النية لصوم رمضان بعد الفجر- بأن النية تبيت من الليل استدلالا بحديث حفصة -رضي الله عنها- ولأن في تبييت النية من الليل استشعارا وعزما على أن الصائم سيصوم اليوم الذي يستقبله ابتغاء وجه الله. ولما كان الصيام يبدأ من طلوع الفجر عملا بقول الله تعالى: {وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187]. فقد اقتضى هذا الحكم أن تكون النية قبل العمل لا بعده.
وخلاصة ما سبق: أن النية شرط لازم في صحة الأعمال، ومن ذلك الصيام سواء كان فرضا أو نفلا؛ لأنه عبادة محضة تفتقر إلى النية مثله في ذلك مثل الصلاة وسائر العبادات، فمن تعمد ترك النية لم يصح صومه. وتجب في كل يوم من أيام رمضان؛ لأن كل يوم من أيامه مستقل بواجباته، وصحة صومه أو فساده عن اليوم الآخر. أما وقتها فهو من الليل استدلالا بقول رسول الله ﷺ: (من لم يُجْمِع الصيام قبل الفجر فلا صيام له)([23]).
والله -تعالى- أعلم.
([1]) أخرجه الإمام البخاري في كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله ﷺ، برقم (1)، فتح الباري، ج1 ص15.
([2]) أخرجه الإمام أحمد في المسند، ج2 ص392، صححه الألباني في صحيح الجامع، (٨٠١٤).
([3]) الأشباه والنظائر لابن نجيم، ص19-26، وانظر درر الحكام شرح مجلة الأحكام لعلي حيدر، ج1 ص17-18.
([4]) السيوطي: عبد الرحمن بن أبي بكر بن محمد بن سابق الدين الخضري السيوطي جلال الدين، إمام حافظ له نحو ستمائة مصنف، منها الكتاب الكبير والرسالة الصغيرة، من كتبه: «الإتقان في علوم القرآن» و «الأشباه والنظائر» و «تفسير الجلالين». ولد سنة 849هـ، وتوفي سنة 911هـ، انظر: الأعلام للزركلي، ج3 ص301-302.
([5]) الأشباه والنظائر في قواعد فقه الشافعية وفروعه للسيوطي، ص12-20، وانظر الحاوي الكبير للماوردي، ج2 ص100-103.
([6]) المغني والشرح الكبير لابن قدامة، ج1 ص92-93، ومطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى للرحيباني، ج1 ص394-404، والمبدع في شرح المقنع لابن مفلح، ج1 ص116-118.
([7]) رواه البيهقي في السنن الكبرى، ج1 ص41، قال ابن حجر العسقلاني في التلخيص الحبير، (١/٢٣٤): في إسناده جهالة.
([8]) زفر: هو الإمام زفر بن الهذيل بن قيس العنبري، من تميم، فقيه كبير من أصحاب الإمام أبي حنيفة، أقام بالبصرة وولي قضاءها، وتوفي بها، ولد سنة 110هـ وتوفي سنة 158هـ. انظر: الأعلام للزركلي، ج3 ص45.
([9]) بدائع الصنائع للكاساني، ج2 ص83-84، وانظر حاشية رد المحتار لابن عابدين، ج2 ص377-378، وشرح فتح القدير لابن الهمام، ج2 ص303، والاختيار لتعليل المختار لابن مودود الموصلي، ج1 ص126.
([10]) المعونة على مذهب عالم المدينة للبغدادي، ج1 ص456، وانظر شرح منح الجليل على مختصر خليل لعليش، ج2 ص127، والشرح الكبير للدردير مع حاشية الدسوقي، ج1 ص520، والتلقين في الفقه المالكي للبغدادي، ج1 ص177، وبلغة السالك لأقرب المسالك للصاوي، ج1 ص244.
([11]) كفاية الأخيار في حل غاية الاختصار لأبي بكر بن محمد الحسيني، ج1 ص305، وانظر المهذب في فقه الإمام الشافعي للشيرازي، ج1 ص180، ونهاية المحتاج للرملي، ج3 ص158، وحواشي الشرواني وابن قاسم العبادي على تحفة المحتاج بشرح المنهاج لابن حجر الهيثمي، ج3 ص386، وحاشية الجمل على شرح المنهج، ج2 ص310.
([12]) المغني والشرح الكبير لابن قدامة، ج3 ص22، وانظر المبدع في شرح المقنع لابن مفلح، ج3 ص18، وكشاف القناع عن متن الإقناع للبهوتي، ج2 ص314، والإحكام شرح أصول الأحكام لابن قاسم، ج2 ص228، ومطالب أولي النهى للرحيباني، ج2 ص185.
([13]) المحلى بالآثار، ج4 ص285.
([14]) بدائع الصنائع، ج2 ص85، وحاشية رد المحتار، ج2 ص377-378، وشرح فتح القدير، ج2 ص303، والاختيار لتعليل المختار، ج1 ص127، واللباب في شرح الكتاب للغنيمي، ج1 ص163، والجوهرة النيرة على مختصر القدوري للحداد، ج1 ص166-167.
([15]) المعونة في مذهب عالم المدينة، ج1 ص458، وانظر: التلقين، ج1 ص178، وبلغة السالك، ج1 ص245.
([16]) المهذب في فقه الإمام الشافعي، ج1 ص180، وانظر: كفاية الأخيار في حل غاية الاختصار، ج1 ص305، ونهاية المحتاج إلى شرح المنهاج، ج3 ص158، وحواشي الشرواني وابن القاسم، ج3 ص387، وحاشية الجمل، ج2 ص311.
([17]) المغني والشرح الكبير، ج3 ص22، وانظر: كشاف القناع عن متن الإقناع للبهوتي، ج2 ص314، والإنصاف للمرداوي، ج3 ص293-295، والإحكام شرح أصول الأحكام، ج2 ص228، ومطالب أولي النهى، ج2 ص185.
([18]) بدائع الصنائع ج2 ص85، وحاشية رد المحتار، ج2 ص377-378، وشرح فتح القدير، ج2 ص303، والاختيار لتعليل المختار، ج1 ص127، واللباب في شرح الكتاب للغنيمي، ج1 ص163، والجوهرة النيرة على مختصر القدوري للحداد، ج1 ص166-167.
([19]) أخرجه النسائي في كتاب الصيام، باب النية في الصيام، ج4 ص197، ورواه الدارقطني في سننه، ج2 ص173، صححه الألباني في صحيح النسائي، (٢٣٣٨).
([20]) المعونة في مذهب عالم أهل المدينة، ج1 ص456، وانظر: التلقين، ج1 ص178، وبلغة السالك، ج1 ص245.
([21]) المهذب في فقه الإمام الشافعي، ج1 ص180، وانظر: كفاية الأخيار في حل غاية الاختصار، ج1 ص305، ونهاية المحتاج إلى شرح المنهاج، ج3 ص158، وحواشي الشرواني وابن القاسم، ج3 ص387، وحاشية الجمل، ج2 ص311.
([22]) المغني والشرح الكبير، ج3 ص25-26، وانظر: كشاف القناع عن متن الإقناع للبهوتي، ج2 ص315، والإنصاف للمرداوي، ج3 ص293-295، والإحكام شرح أصول الأحكام، ج2 ص229-230، ومطالب أولي النهى، ج2 ص185.
([23]) أخرجه الترمذي في كتاب الصوم، باب ما جاء لا صيام لمن لم يعْزِمْ من الليل، برقم (730)، سنن الترمذي، ج3 ص108، صححه الألباني في صحيح الترمذي، (٧٣٠).