ومفاد المسألة سؤال عن أنسب الأساليب التي يمكن بها إخبار المريض أو ذويه عن مرضه، ومدى خطورته، وما المعلومات العلمية الشرعية ذات العلاقة بهذا الموضوع؟.

أسلوب إبلاغ المريض أو ذويه عن مرضـه ومدى خطورته

والجواب عن هذا من وجهين:

أولهما: الوضع النفسي للمريض في أثناء مرضه.

والثاني: علاقة المريض بالطبيب الذي يعالجه من مرضه.

الوضع النفسي للمريض في أثناء مرضه:

يعاني المريض -في غالب الأحوال- من مرض أو ضعف نفسي في أثناء معاناته من المرض العضوي، وقد يصل مرضه النفسي إلى نسبة خمسين في المئة أو أكثر من مرضه العضوي، وقد تكون هذه النسبة أقل أو أكثر تبعًا لاختلاف طبائع المرضى، وقوة تحملهم أوضعفها، والمؤثرات المصاحبة لهم في مجال أسرهم أو مجتمعاتهم.

والمرض أو الضعف النفسي المصاحب للمريض مسألة طبيعية، فالإنسان بطبعه يخاف الموت، ويهابه، وقد وصف الله ذلك بالفرار في قوله -تعالى-: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ}([1])، ويشتد عنده هذا الخوف عندما يتعرض للمرض، ومع هذا الخوف يزداد عنده المرض أو الضعف النفسي، فيكون عندئذٍ في حاجه قصوى إلى التنفيس أو التسرية عنه؛ ليكون أقوى وأشد في مقاومة المرض، والصبر عليه.

وتدل الوقائع على أن المرض النفسي أصبح في الوقت الحاضر أكثر شيوعًا، بل أكثر خطرًا عما كان عليه في الماضي، ولهذا أسباب عدة ترتبط في مجملها بالواقع الذي يعيشه الإنسان المعاصر، وما في هذا الواقع من المداخلات، وتغير العادات، وسيطرة المادة، وانتشار العنف، وفساد البيئة، واختلال العلائق الاجتماعية، والتفكك الأسري وأسباب كثيرة لا مجال لذكرها.

وقد عني الإسلام بنفسية المريض بقصد التخفيف عنه، فأوجب على زائريه ومن يباشرونه في أثناء مرضه الرفق به، وإيناسه، فقد ورد عن رسول الله -ﷺ- أنه قال: «إذا دخلتم على المريض فنفسوا له في الأجل، فإن ذلك لا يرد شيئًا، وهو يطيب نفس المريض»([2])، والمقصود هنا إطماعه في الحياة، والتخفيف مما قد يعانيه في داخله، وهذا يكون بعدة أساليب، منها: الدعاء له بطول العمر، ومنها: ملاطفته بما يفيد عن تهوين مرضه، ومنها: طمأنته بأن غيره قد عانى أكثر من مرضه، فشفي منه، ونحو ذلك من العبارات التي تؤنسه، وتطيب قلبه وخواطره، كما ورد أن رسول الله -ﷺ- عاد مريضًا، فسأله عما يشتهي، فقال: أشتهي خبز بر، فقال رسول الله -ﷺ-: «من كان عنده خبز بر فليبعث إلى أخيه»، ثم قال -عليه الصلاة والسلام-: «إذا اشتهى مريض أحدكم شيئًا فليطعمه»([3]).

ولِمَا لزيارة المريض من أهمية في نفسه أكّدها رسول الله -ﷺ- فيما رواه عليٌّ -رضي الله عنه- أنه -عليه الصلاة والسلام- قال: «من أتى أخاه المسلم عائدًا مشى في خِرافةِ الجنة حتى يجلس، فإذا جلس غمرته الرحمة، فإن كان غدوةً صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يمسي، وإن كان مساءً صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يصبح»([4])، وما رواه -أيضًا- أبوهريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -ﷺ- قال: «من عاد مريضًا نادى منادٍ من السماء: طبت، وطاب ممشاك، وتبوأت من الجـنة منزلًا»([5])، وما رواه -أيضًا- أبو هـريرة أن رسول الله -ﷺ- قال: «حق المسلم على المسلم خمس»، وذكر منها: «عيادة المريض»([6])، وكان من سنته-عليه أفضل الصلاة والسلام-أنه إذا عـاد مريـضًا قال: «لا بأس، طـهور إن شاء الله»([7])، وكان يرقي المريض، فيقول: «اللهم رب الناس! مذهب الباس! اشف أنت الشافي، لا شافي إلا أنت، اشف شفاء لا يغادر سقمًا»([8]).

وفي إطار هذا التوجيه في التنفيس عن المريض ومراعاة نفسيته أورد الفقهاء كثيرًا من الأحكام.

ففي مذهب الإمام مالك: يستحب للإنسان الاعتناء بحقوق المرضى بتفقد أحوالهم بالعيادة والتمريض، وينبغي لزائر المريض الحرص على عدة آداب، منها: قلة السوال عن حاله، وقلة إظهار الشفقة عليه من ذلك المرض، ومنها: الدعاء له، ووضع يده على بعض جسده، ما لم يكن يكره ذلك([9]).

وفي المذهب: تعد عيادة المريض من فروض الكفايات عند وجود الغير، وإلا تعينت، وتكون من الرجال والنساء إذا كن من المحارم([10]).

وفي مذهب الإمام الشافعي: تعد عيادة المريض سنة مؤكدة، وتستحب عيادة جميع المرضى، لا يخص بها قريبًا من بعيد، ولا صديقًا من عدو، وإذا رأى الزائر في المريض أمارات الصحة دعا له بتعجيل العافية؛ لتقوى بذلك نفسه([11]).

وفي مذهب الإمام أحمد: تستحب عيادة المريض، وأن يليه أرفق أهله به، وأعلمهم بسياسته، وأتقاهم لربه، ويجب على الزائر أن يسأل المريض عن حاله، وينفس له في الأجل بما يطيب نفسه إدخالًا للسرور عليه؛ عملًا بقول رسول الله -ﷺ- في الحديث المتقدم ذكره: «إذا دخلتم على المريض فنفسوا له في أجله»، وينبغي أن تكون زيارة المريض في الغداة والعشي، وتكون في رمضان في ليلِهِ؛ لأن الزائر ربما يرى من المريض ما يضعفه([12]).

فهذه الأحاديث والأقوال توجب في جملتها العناية بنفسية المريض؛ للتخفيف عنه وطمأنته؛ ليكون أقدر وأشد في مقاومة ما يشكو منه، والابتعاد به عن الهواجس والمخاوف التي قد تساوره عن صعوبة مرضه، فقد ورد أن هارون الرشيد كان يعاني من تلك الهواجس في مرضه، فقال له أحد زائريه: هَوِّنْ عليك، وطَيِّبْ نفسك، فإن الصحة لا تمنع من الفناء، والعلة لا تمنع من البقاء. فقال: والله لقد طيبت نفسي، وروحت قلبي.

الوجه الثاني: علاقة المريض بالطبيب الذي يعالج مرضه:

إذا كان الرفق بالمريض مما يجب على زائريه فهو آكد وأوجب في حق الطبيب الذي يعالجه؛ لأن المريض يحلل ويصدق كل كلمة يقولها طبيبه، وكثيرًا ما يصاب بأعراض نفسية عندما يجد طبيبه يكثر التحاليل المختبرية والصور الإشعاعية، وعلى الأخص عندما تكون شكواه من ألم يسير، فيظن عندئذ أنه مصاب بمرض عضال، وهو لا يدري عنه.

وكثيرًا ما يصاب المريض بأعراض نفسية عندما يجد طبيبه يتعامل معه كما يتعامل مع شيء مادي مجرد من الروح، ومن المؤسف أن بعض الأطباء لا يتعاملون مع مرضاهم بالقدر الذي يدخل السرور عليهم كما توجب ذلك القواعد التي تعلموهـا في أثناء دراستهم للطب.

وقد أوضح عدد من المرضى أنهم يحبون أن يراجعوا الطبيب الذي يتعامل معهم باللين والرفق بصرف النظر عن اعتبارات تخصصه ومستوى علمه، وهذا بالتأكيد نتيجة الأثر النفسي الذي يتركه تعامل الطبيب مع مريضه.

والقول بالاهتمام بالأثر النفسي للمريض لا يعني بأي حال أن يطمئنه الطبيب رغم خطورة مرضه، لكن السؤال هو: كيف يتعامل الطبيب مع المريض؟، وكيف يبلغه شخصيًّا أو يبلغ ذويه إذا كان ثمة خطورة في مرضه؟، وهذا هو محل السؤال في المسألة.

قلت: الأصل أن ينفس الطبيب عن المريض، ويطمئنه، ويؤمله في الحياة؛ عملًا بالأحاديث والأقوال المشار إليها آنفًا، وعملًا بما يجب عليه مهنيًّا من الرأفة بالمريض، والرفق به، والتعامل معه بالأسلوب الذي لايؤثر في نفسيته.

ولكنه قد يواجه حالة أوحالات توجب عليه مواجهة المريض بحقيقة مرضه، ومن ذلك على سبيل المثال: كون المرض يتطلب علاجًا لا يتوافر لديه، أو كونه يتطلب علاجًا من نوع معين كما في حالات الأمراض المستعصية، أو كون المرض من الأمراض المعدية كما في حالات نقص المناعة المكتسبة (الإيدز).

ففي هذه الأحوال ونحوها تقتضي مسؤولية الطبيب الإبلاغ عن هذه الأمراض لمصلحة المريض نفسه، ومصلحة من يتعدى مرضه إليه كالزوجة في حالة نقص المناعة المكتسبة لدى الزوج، ولكن هذه المسؤولية توجب عليه مسؤوليتين أخريين:

أولهما: إيمانه بأن الموت والحياة بيد الله، وأن أي مرض مهما كانت خطورته لا يعني بالضرورة نهاية المريض، فالآجال بيد الله، فهو الذي خلق الموت والحياة، وهو الذي قدّر الآجال وحدّدها، قال -تعالى-: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ}([13])، وقال -تعالى-: {فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُون}([14])، وقال -تعالى-: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ}([15])، والإيمان بهذا يقتضي الجزم والتصديق بأن المريض قد يشفى من مرضه مهما كانت خطورته، وأن أحدًا لا يستطيع أن يقرر أن هذا المرض أو ذ اك سيؤدي إلى نهاية المريض، فإذا آمن الطبيب بهذا فسوف يزول عنه ما يعتقده عن نهاية المريض بسبب خطورة مرضه، وبالتالي سوف يتعامل معه على أساس التنفيس له في الأجل، كما تقضي بذلك أحكام الشريعة ومقاصدها.

المسؤولية الثانية: دراسة الحالة النفسية للمريض قبل إبلاغه بمرضه؛ فإذا كانت هذه الحالة تدل على قوة تحمله وتقبله لحقيقة مرضه، فيمكن عندئذ إبلاغه بها بالتدريج، وعلى أساس التنفيس له في الحياة كما سبق ذكره، وإذا كانت حالة المريض النفسية تدل على ضعفه فينبغي عندئذ إبلاغ أقرب أقربائه المباشرين له ممن تتوافر فيه الحكمة والقدرة على إبلاغه بمرضه ومدى خطورته.

وفي كل الأحوال يجب أن يكون إبلاغ المريض بمرضه مصحوبًا بإطماعه في الحياة، والتنفيس له في الأجل، ذلكم هو الأسلوب الحق الذي توجبه مقتضيات الشريعة ومقاصدها.

وخلاصة المسألة: أن قواعد الشريعة ومقاصدها تقتضي مراعاة الوضع النفسي للمريض، فعلى الطبيب الذي يعالجه أن ينفس له في الأجل، ويؤمله في الحياة، وإذا كانت مسؤوليته توجب عليه إبلاغ المريض أو ذويه بمرضه ومدى خطورته، فإن عليه مسؤليتين أخريين:

أولاهما: أن يكون مؤمنًا بأن الآجال بيد الله، وأن أحدًا لا يستطيع أن يقرر أن هذا المرض أو ذاك سيؤدي حتمًا إلى نهاية المريض، وأن عليه أن يتعامل مع المريض على هذا الأساس، فينفس له في الأجل، ويؤمل له في الحياة مهما كانت خطورة مرضه.

والثاني: دراسة الحالة النفسية للمريض قبل إبلاغه بمرضه، فإذا كانت هذه الحالة تدل على قوة تحمله فيمكن عندئذٍ إبلاغه به بالتدريج، وعلى أساس التنفيس له في الأجل، أما إذا كانت حالته النفسية لا تدل على قوة تحمله فيجب عندئذٍ إبلاغ أقرب أقربائه المباشرين له ممن تتوافر فيه الحكمة والقدرة على إبلاغه بمرضه، ومدى خطورته.

وفي كل الأحوال يجب أن يكون إبلاغ المريض بمرضه مصحوبًا بإطماعه في الحياة، والتنفيس له في الأجل. والله أعلم

 

([1]) سورة الجمعة من الآية 8.

([2]) أخرجه الترمذي في كتاب الطب، برقم (2087)، وقال: “هذا حديث غريب”، سنن الترمذي، ج4 ص359، وأخرجه ابن ماجه في كتاب الجنائز، باب ما جاء في عيادة المريض، برقم (1438)، سنن ابن ماجه، ج1 ص462، ومعنى “نفسوا” من التنفيس، وأصله التفريج. يقال: نفس الله عنه كربته أي: فرّجها، أي: طمِّعوه في طول أجله/ قال ابن حجر العسقلاني في فتح الباري لابن حجر، (١٠/١٢٧): في إسناده لين.

([3]) أخرجه ابن ماجه في كتاب الجنائز، باب ما جاء في عيادة المريض، برقم (1439)، قال محمد فؤاد عبد الباقي في تعليقه على الحديث: “في الزوائد: في إسناده صفوان بن هبيرة، ذكره ابن حبان في الثقات. وقال النفيلي: لا يتابَعُ على حديثه. قلت: وقال في تقريب التهذيب: لين الحديث”. سنن ابن ماجه، ج1 ص463.

([4]) أخرجه ابن ماجه في كتاب الجنائز، باب ما جاء في ثواب من عاد مريضاً، برقم (1442)، سنن ابن ماجه، ج1 ص463-464، ومعنى خرافة: ضبط بكسر الحاء وبفتحها في النهاية، أي: في اجتناء ثمارها، وقيل: إنّه في طريق تؤديه إلى الجنة، صححه الألباني في صحيح ابن ماجه، (١١٩١).

([5]) أخرجه ابن ماجه في كتاب الجنائز، باب ما جاء في ثواب من عاد مريضاً، برقم (1443)، سنن ابن ماجه، ج1 ص464. طبت: هو دعاء له بأن يطيب عيشه في الدنيا، حسنه الألباني في صحيح الترمذي، (٢٠٠٨): حسن.

([6]) أخرجه البخاري في كتاب الصلاة، باب في الجنائز، ومن كان آخر كلامه “لا إله إلا الله”، صحيح البخاري، ج2 ص70، وأخرجه مسلم في كتاب الآداب، باب من حق المسلم للمسلم رد السلام، صحيح مسلم بشرح النووي، ج14 ص143.

([7]) أخرجه البخاري في كتاب المرضى، باب ما يقال للمريض، وما يجيب، برقم (5662)، فتح الباري، ج10 ص126.

([8]) أخرجه مسلم في كتاب السلام، باب استحباب رقية المريض، صحيح مسلم بشرح النووي، ج14 ص181، وأخرجه أبو داود في كتاب الطب، باب كيف الرقى؟، برقم (3890)، سنن أبي داود، ج4 ص11.

([9]) أسهل المدارك في شرح إرشاد السالك في فقه إمام الأئمة مالك للكشناوي ج3 ص373.

([10]) الفواكه الدواني على رسالة أبي زيد القيرواني للنفراوي ج2 ص32- 321.

([11]) الحاوي الكبير للماوردي ج3 ص163-164، وانظر: إحياء علوم الدين للغزالي ج2 ص192 -193، والمجموع للنووي ج 5 ص109-113.

([12]) المغني والشرح الكبير لابن قدامة ج2 ص303 -305، وانظر: الإنصاف للمرداوي ج2 ص463.

([13]) سورة الملك من الآية 2.

([14]) سورة النحل من الآية 61.

([15]) سورة لقمان من الآية 34.