ومفاد المسألة سؤال عما إذا كان المسجون يعذر بترك صلاة الجمعة، وإذا كان في السجن جماعة أقل من أربعين شخصًا هل يقيمون صلاة الجمعة في سجنهم أم يصلونها ظهرًا؟

حكم ما إذا كانت صلاة الجمعة واجبة على المسجون

وقبل الجواب تنبغي الإشارة إلى أهمية صلاة الجمعة بالنسبة للمسلم، وماذا يجب عليه إذا لم يكن من أهل الأعذار.

وفرضية هذه الصلاة ثابتة بالكتاب والسنة؛ أما الكتاب: فقول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُون}([1]). والأمر بالسعي إلى ذكر الله يقتضي الوجوب، وخلافه يقتضي الجزاء.

أما السنة: فقد ورد عن رسول الله ﷺ أنه قال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فعليه الجمعة يوم الجمعة إلا على مريض أو مسافر أو امرأة أو صبي.. فمن استغنى بلهو أو تجارة استغنى الله عنه والله غني حميد)([2]).

وقد بَيَّنَ رسول الله ﷺ فضل أدائها، ومافيه من الثواب بقوله:

 

(الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات ما بينهن إذا اجتنبت الكبائر)([3]).

كما بَيَّن -عليه الصلاة والسلام- جزاء تركها بقوله: (لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات أو ليختمن الله على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين)([4]). وفي قول آخر: (من ترك ثلاث جمع تهاونًا بها طبع الله على قلبه)([5])، فمن تركها عمدًا فقد كفر استدلالًا بقول رسول الله ﷺ: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر)([6]).

وقد استُثْنِيَ من وجوبها من لا يقدر على أدائها لمرض، أو سفر، أو صغر أو ذوي طبيعة خاصة كالمرأة. وهذا الاستثناء وارد في

 

كتاب الله في قوله تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا}([7])، وقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}([8]).

وقد تعرض الفقهاء لأهل الأعذار المستثنين من وجوب الجمعة: ففي المذهب الحنفي: يشترط لافتراضها تسعة شروط ومنها (عدم الحبس) أو السجن فيصلونها ظهرًا، ويكره لهم إذا كانوا جماعة أن يصلوا الظهر في جماعة لما فيه من الإخلال بالجمعة لكونها جامعة للجماعات، والعلة في هذا عدم جواز تعدد الجمعة في المصر الواحد، أو لما فيه من معارضة الجمعة بإقامة غيرها([9]).

وفي مذهب الإمام مالك: يعذر المحبوسون ومن أشبههم بترك الجمعة، ويجوز لهم أن يصلوا الظهر في جماعة. أما “من لم يظهر عذره فيكره له أن يصلي الظهر في جماعة؛ لأن في ذلك نظرًا لأهل البدع أن يتركوا الجمعة ويصلوا الظهر خلف من يعتقدون إمامته وجواز الصلاة خلفه ويظهرون أن الصلاة فاتتهم”([10]).

وفي مذهب الإمام الشافعي: أن الحبس عذر مسقط للحضور إن منعه الحاكم لمصلحة رآها وإلا فلا، وإذا اجتمع في الحبس

 

أربعون رجلًا فأكثر فالقياس أن الجمعة تلزمهم؛ لأن إقامتها في المسجد ليست بشرط، والتعدد يجوز عند الاجتماع([11]).

وفي مذهب الإمام أحمد: يعذر المحبوس بترك الجمعة استدلالًا بقول الله تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا}([12])،([13]).

ويتبين مما سبق أن السجن عذر مسقط للجمعة عن المسجون، وعليه أن يصليها ظهرًا وقد انفرد فقهاء المذهب الشافعي بالقول بأن المسجونين إذا بلغوا أربعين شخصًا فأكثر وجبت عليهم صلاة الجمعة.. ولعل الفقهاء الذين رأوا عدم إقامة الجمعة في السجن نظروا إلى قلة العدد في السجون آنذاك، أو أنهم كانوا يحاولون تقليل عدد الأماكن التي تقام فيها صلاة الجمعة رغبة في جمع عدد أكبر من الناس في المسجد الواحد، وكان لهذا ما يبرره في الماضي حين كانت المساكن متقاربة ويسهل على الناس الاجتماع في مكان واحد.

أما إذا كانت المساكن متباعدة فيجوز إقامة الجمعة في عدة مواضع، وبهذا قال محمد صاحب أبي حنيفة([14]).

قلت: لقد تغيرت الأحوال عما كانت عليه في الماضي وأصبحت المدن تضم آلاف أو ملايين من الناس؛ فأوجب ذلك تعدد الأماكن التي تقام فيها صلاة الجمعة وقد ترتب على كثرة السكان في المدن كثرة المساجين فيها، مما ينبغي معه إقامة صلاة الجمعة في السجون سواء كان العدد فيها يبلغ أربعين أم أقل.

أما عن العدد الوارد في السؤال فقد اختلف الفقهاء في مقداره فالإمام الطبري يرى صحتها بواحد مع الإمام([15]والإمام أبو حنيفة وصاحبه محمد يريان أن أدنى العدد فيها ثلاثة سوى الإمام، ويراه أبو يوسف اثنين سوى الإمام، وقد استدلوا على ذلك بأن النبي ﷺ كان يخطب فقدمت عير تحمل الطعام فانفضوا إليها وتركوا رسول الله ﷺ قائمًا وليس معه إلا اثنا عشر رجلًا منهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي -رضي الله تعالى عنهم- وقد أقام الجمعة بهم. كما روي أن مصعب ابن عمير أقام الجمعة بالمدينة مع اثني عشر رجلًا([16]).

وفي مذهب الإمام مالك يشترط لها جماعة تتقرى([17]) بهم قرية بلا حد أولًا، وإلا فتجوز باثني عشر رجلًا غير الإمام([18]).

وعند الإمام الشافعي يشترط لإقامتها أربعون رجلًا منهم الإمام؛ لخبر كعب بن مالك قال أول من جمع بنا في المدينة أسعد ابن زرارة قبل مقدم النبي ﷺ المدينة في نقيع الخضمات وكنا أربعين، ولخبر ابن مسعود أنه ﷺ جمع بالمدينة وكانوا أربعين رجلًا، ولقول جابر “مضت السنة أن في كل ثلاثة إمامًا، وفي كل أربعين جمعة”، ولقوله ﷺ: (إذا اجتمع أربعون رجلًا عليهم الجمعة). وقوله -عليه الصلاة والسلام-: (لا جمعة إلا في أربعين)([19]).

وقد رد على ذلك الأحناف بأن الثلاثة تساوي ما وراءها في كونها

 

جمعًا فلا معنى لاشتراط الأربعين بخلاف الاثنين فإنه ليس بجمع. والقول بحديث أسعد بن زرارة ليس حجة؛ لأن الإقامة بالأربعين وقع اتفاقًا. وقد روي أن أسعد أقامها بسبعة عشر رجلًا ورسول الله ﷺ أقامها باثني عشر رجلًا، حين تركوا المسجد([20]).

وفي مذهب الإمام أحمد أن للجمعة سبعة شروط، ومنها: أن تكون في قرية، وأن يكونوا أربعين. وهذا العدد هو المشهور في المذهب الحنبلي وهو شرط لوجوبها وصحتها ذكره الإمام ابن قدامة في المغني وروي عن الإمام أحمد أنها لا تنعقد إلا بخمسين، وروي عنه أنها تنعقد بثلاثة وهو قول الإمام الأوزاعي وأبي ثور؛ لأنه يتناول اسم الجمع فانعقدت به الجماعة كالأربعين، ولأن الله تعالى قال: {إِذَا نُودِي لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ}([21]). وهذه صيغة الجمع فيدخل فيها الثلاثة([22]).

ويرى الإمام ابن حزم أنَّه إذا كان واحد مع الإمام صليا الجمعة([23]).

واختلاف الفقهاء في مسألة العدد يرجع إلى استدلال كل منهم بحجة وفقًا لمفهومه لمعنى الجمع، فحين يراه الإمام مالك فيما تعمر به قرية، وأدناه اثنا عشر رجلًا يراه الإمام أبو حنيفة في ثلاثة مع الإمام؛ لأن الثلاثة جمع، فيتحقق به توافر شرط الجماعة، وما قيل عن الإمام أحمد بجواز انعقادها بثلاثة رجال لا يخرج عن هذا المفهوم.

والإمام الشافعي وغيره ممن قال بوجوب الأربعين أخذوا بالأحاديث السابقة، ولكن هذا يرد عليه إقامة رسول الله ﷺ للجمعة باثني عشر رجلًا بعد ما خرج الناس من الصلاة لمقابلة العير، فبهذا أصبحت مسألة اشتراط العدد مسألة اجتهاد، وهو اجتهاد مرجوح لا دليل عليه ولكن هذا الاجتهاد مقيد باشتراط “الجماعة” وهو ما اتفق عليه الفقهاء.

إن صلاة الجمعة فرض فرضه الله على المسلم، وأوجب عليه أداءه وقد اختص الله يومها بفضائل عديدة: منها أن فيه ساعة يقبل فيها الدعاء، حيث ورد عن رسول الله ﷺ فيما رواه أبو هريرة أن رسول الله ﷺ ذكر يوم الجمعة فقال: (فيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يصلي يسأل الله تعالى شيئًا إلا أعطاه إياه) وزاد قُتيبة في روايته (وأشار بيده يقللها)([24]).

ومنها شعور المسلم أن هذا اليوم يوم راحة له بعد تعبه طيلة أيام أسبوعه. ومن هذه الفوائد اجتماع عدد من المسلمين في مكان واحد يستشعرون فيه خشية الله، وهم يسمعون ما يتلى عليهم من المواعظ في خطبة الجمعة بما يبصرهم وينفعهم في أمور دينهم ودنياهم، وإذا كانت هذه المواعظ مهمة لغير المسجون فهي للمسجون أكثر أهمية لمساعدته في التغلب على وضع يعيشه بسبب خطأ ارتكبه.

وخلاصة المسألة: أن السجن عذر مسقط لصلاة الجمعة، وعلى المسجون أن يصليها ظهرًا، فإن كان في السجن عدد من السجناء يبلغون الأربعين فأكثر، تلزمهم الجمعة وفقًا لمذهب الإمام الشافعي.

أما إن كانوا أقل من ذلك فلعل الصواب أن تلزمهم الجمعة في سجنهم إذا كان يطلق عليهم لفظ الجماعة، وذلك استدلالًا بما روي أن رسول الله ﷺ صلى الجمعة وليس معه إلا اثنا عشر رجلًا. والله أعلم.

 

([1]) سورة الجمعة الآية 9.

([2]) رواه الدارقطني في سننه ج2 ص3، وأخرجه الخطيب التبريزي في المشكاة، كتاب الصلاة، باب وجوب الجمعة برقم (1380)، قال الألباني في تعليقه على الحديث: (إسناده ضعيف، فيه ابن لهيعة، ومعاذ بن محمد الأنصاري. وهما ضعيفان، وأبو الزبير مدلس، وقد عنعنه)، مشكاة المصابيح، ج1 ص435، تحقيق: الألباني.

([3]) أخرجه مسلم في كتاب الجمعة، باب فضل من استمع وأنصت للخطبة، صحيح مسلم بشرح النووي، ج6 ص146.

([4]) أخرجه مسلم في كتاب الجمعة، باب التغليظ في ترك الجمعة، صحيح مسلم بشرح النووي، ج3 ص117.

([5]) أخرجه النسائي في كتاب الجمعة باب التشديد في التخلف عن الجمعة، ج3 ص88، وابن ماجة في كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها برقم (1125)، ج1 ص357، ترقيم محمد فؤاد عبدالباقي، صححه الألباني في صحيح الجامع، (٦١٤٠)..

([6]) أخرجه ابن ماجة في كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما جاء فيمن ترك الصلاة برقم (1079)، ج1 ص342، والإمام أحمد في المسند، ج5 ص346، والخطيب التبريزي في المشكاة في كتاب الصلاة برقم (574)، قال التبريزي: رواه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجة، وقد علّق الألباني عليه بقوله: (قال الترمذي: حديث حسن صحيح، وصححه الحاكم والذهبي وهو كما قالوا، وقد عزاه المنذري في الترغيب (1/194) لأبي داود، وتبعه المناوي أيضاً، ولم أجده عنده حتى الآن). مشكاة المصابيح بتحقيق الألباني، ج1 ص181، المكتب الإسلامي، صححه الألباني في صحيح الترمذي، (٢٦٢١)..

([7]) سورة البقرة من الآية 286.

([8]) سورة التغابن من الآية 16.

([9]) حاشية رد المحتار على الدر المختار لابن عابدين، ج2 ص153-154، وشرح فتح القدير لابن الهمام مع الهداية للمرغيناني، ج2 ص65، وكشف الحقائق شرح كنز الدقائق للأفغاني مع شرح الوقاية، ج1 ص82، والشروط الموجبة للجمعة في المذهب تسعة هي: الإقامة والصحة والحرية والذكورة والبلوغ والعقل وعدم الحبس وعدم الخوف وعدم المطر الشديد.

([10]) المعونة في مذهب عالم أهل المدينة للبغدادي، ج1 ص310-311، وشرح منح الجليل على مختصر خليل لعليش، ج1 ص441، وانظر الكافي في فقه أهل المدينة المالكي للقرطبي، ص72.

([11]) نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج للرملي، ج2 ص286-287، وانظر حواشي الشرواني والعبادي على تحفة المحتاج لابن حجر الهيثمي، ج2 ص413، والبجيرمي على الخطيب، ج2 ص163-164، وقليوبي وعميرة على منهاج الطالبين للنووي، ج1 ص268.

([12]) سورة البقرة من الآية 286.

([13]) انظر: كشاف القناع عن متن الإقناع للبهوتي، ج1 ص495، وانظر مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى للرحيباني، ج1 ص701، والمغني والشرح الكبير لابن قدامة، ج2 ص395.

([14]) انظر شرح الوقاية لابن مسعود هامش كشف الحقائق شرح كنز الدقائق للأفغاني، ج1 ص82.

([15]) بداية المجتهد لابن رشد، ج1 ص158.

([16]) بدائع الصنائع للكاساني، ج1 ص268، وانظر: حاشية رد المحتار على الدر المختار لابن عابدين، ج2 ص151، وشرح فتح القدير لابن الهمام، ج2 ص60-61، والاختيار لتعليل المختار للموصلي، ج1 ص83، والهداية شرح بداية المبتدي للمرغيناني، ج1 ص83.

([17]) تتقرى: أن تعمر بهم قرية.

([18]) شرح منح الجليل لعليش، ج1 ص420-421، والقوانين الفقهية لابن جزي، 55-56، وانظر عقد الجواهر الثمينة لابن شاس، ج1 ص222-223، الفواكه الدواني على رسالة أبي زيد القيرواني للنفراوي، ج1 ص266، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير للدسوقي، ج1 ص376-377، بلغة السالك لأقرب المسالك للصاوي، ج1 ص177-178، الشرح الصغير للدردير هامش بلغة السالك، ج1 ص177-178.

([19]) نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج للرملي، ج2 ص304-305، وانظر المهذب للشيرازي، ج1 ص110، مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج، ج1 ص282، حواشي الشرواني وابن قاسم العبادي على تحفة المحتاج بشرح المنهاج لابن حجر الهيثمي، ج2 ص431-433، قليوبي وعميرة، ج1 ص274-275.

([20]) بدائع الصنائع، ج1 ص268.

([21]) سورة الجمعة من الآية 9.

([22]) المغني والشرح الكبير لابن قدامة، ج2 ص172، وانظر: الإنصاف للمرداوي، ج2 ص378-379، والفروع لابن مفلح، ج2 ص99، وشرح منتهى الإرادات للبهوتي، ج1 ص294، ومطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى للرحيباني، ج1 ص763-764، وكشاف القناع عن متن الإقناع للبهوتي، ج2 ص28-29.

([23]) المحلى بالآثار لابن حزم، ج3 ص249.

([24]) متفق عليه أخرجه الإمام البخاري في كتاب الصلاة، باب الساعة التي في يوم الجمعة، صحيح البخاري، ج1 ص224، ومسلم في كتاب الجمعة، صحيح مسلم بشرح النووي، ج6 ص139-140.