ومفاد المسألة سؤال تقول فيه الأخت السائلة: امرأة تتقاضى منحة شهرية من دولة غير مسلمة بسبب أن زوجها المتوفى كان يعمل في تلك الدولة، وقد توفيت المرأة، ولم يبعث أبناؤها شهادة الوفاة إلى الجهة التي تصرف المنحة لوالدتهم، وما زالت هذه المنحة تصل لهم بانتظام على أساس أن المرأة لا تزال على قيد الحياة، وقد ترددوا في إرسال شهادة الوفاة بحجة أن الذين يدفعون المنحة غير مسلمين، ثم إن أباهم الذي تصرف المنحة عن عمله في تلك الدولة استشهد في الحرب التي قامت ضد تلك الدولة بوصفها كانت مستعمرة لبلاده.

حكم مال غير المسلم وماذا يجب على المسلم نحوه

وتستطرد الأخت السائلة، فتقول: ومهما أخذ أبناؤه من مال فلن يعوضهم عن حرمانهم من نعمة الأبوة.

ويبدو من سؤال الأخت الكريمة أن الإخوة المترددين في الإبلاغ عن وفاة أمهم متأثرون بظروفهم العائلية، فقد فقدوا أباهم بسبب الحرب مع تلك الدولة، واستعمارها لبلادهم، كما فقدوا أمهم، وربما أنهم لا يلوون على شيء من حطام الدنيا إلا تلك المنحة التي يخشون فقدها في حال الإبلاغ عن وفاة أمهم، ومع قسوة هذه الظروف -كما يبدو- أصبحوا مترددين في سكوتهم، ومدى شرعيته، فهم يبحثون عن الحكم الشرعي في ذلك، وحالهم في هذا حال المسلم الحق الذي يريد أن يكون مطعمه من حلال، ومشربه من حلال، وملبسه من حلال؛ التزامًا بأحكام دينه وقواعد شريعته.

والإجابة عن هذا السؤال تستلزم معرفة حكم مال غير المسلم، وماذا يجب على المسلم نحوه.

فالأصل في ديننا تحريم أكل المال بغير حق؛ عملًا بقول الله -تعالى-: {وَلَا تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُون} [البقرة: 188]، وقوله -تعالى- في وصـف الذين آمنــوا بأفـواههـم، ولم تؤمـن قلوبهم، فلم يطهرها الله بما غرسوه فيها من الكذب، وتحريف الحكم عن مواضعه: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} [المائدة: 42]، والأصل في ديننا تحريم الغدر، فقد ورد عن رسول الله -ﷺ-: (إن الغادر ينْصِبُ الله لــه لواء يوم القيامة، فيقال: ألا هذه غدرة فلان)([1])، وكان -عليه الصلاة والسلام- يوصي أمراء الجيوش قائلًا لهم، ومؤكدًا عليهم: (لا تغلوا، ولا تغدروا)([2]).

والأصـل في ديننا تحريم الخيانة؛ عمـلًا بقـول الله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَا تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُون} [الأنفال: 27]، وقــول رسولــه -عليه الصلاة والسلام-: (آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان)([3])، كما أن الأصل في ديننا وجوب أداء الأمانة إلى أصحابها؛ عمـلًا بقول الله -تعالى-: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58]، وقول رسول الله -ﷺ-: (أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك)([4]).

وفي مذهب الإمام أبي حنيفة: أن المسلم إذا دخل دار الحرب تاجرًا فلا يحل له التعرض بشيء من أموالهم؛ لأنه قد ضمن لهم بالاستئمان، فإن تعرض لهم فيكون ذلك غدرًا، والغدر حرام بالإجماع، فإنْ غَدَرَ التاجرُ، وأخذ شيئًا، وخرج به، فيكون ملكه له محظورًا؛ لعدم ورود الاستيلاء على مال مباح عند عدم الإحراز، إلا أنه بسبب محرم، فأورث خبثًا فيه، فيجب التصدق به([5]).

وفي مذهب الإمام مالك: يحرم على الأسير أن يخون من ائتمنه، سواءٌ كان الائتمان يتعلق بالآسِرِ، كأنْ يقول له: أمَّناك على كذا من نفس أو مال، أو أعطاه شيئًا ليصنعه له، أو كان يتعلق بالأسير نفسـه، كما لو أمنه الآسر على نفسـه، فــلا يجوز له الهرب، ولو كان يتمكن منه([6]).

وفي مذهب الإمام الشافعي: أن المسلم إذا دخل دار الحرب بأمان، فأخذ منهم مالًا، أو اقترضه، وعاد إلى دار الإسلام، ثم جاء صاحب المال إلى دار الإسلام بأمان، وجب على المسلم ردُّ ما أخذ أو اقترضه؛ لأن الأمان يوجب الضمان([7]).

وفي مذهب الإمام أحمد: أن من دخل دار الحرب بأمان حرم عليه خيانتهم؛ لأنهم أعطوه الأمان بشرط عدم خيانتهم، وأمنه إياهم من نفسه، وإن لم يكن ذلك مذكورًا في اللفظ فهو معلوم في المعنى؛ لأن الخيانة غدر، ولا يصلح في ديننا الغدر، وقد قال النبي -ﷺ-: (المسلمون عند شروطهم)([8])، فإن خانهم، أو سرق منهم، أو اقترض شيئًا، وجب عليه رد ما أخذ إلى أربابه، فإن جاء أربابه إلى دار الإسلام بأمان أو إيمان رده عليهم، والإ بعث به إليهم؛ لأنه أخذه على وجه حرم عليه أخذه، فلزمه رد ما أخذ، كما لو أخذه من مال مسلم([9]).

وفي قول آخر: “وإن أخذ مسلم من حربي في دار الحرب مالًا مضاربة أو وديعة، ودخــل به دار الإسلام، فهو-أي: المـال-في أمان بمقتضى العقد المذكور، وإن أخذه-أي: أخذ المسلم مال حربي- في دار الحرب ببيع في الذمة، أو قرض، فالثمن في ذمته بمقتضى العقد، عليه أداؤه إليه؛ لعموم: (أد الأمانة إلى من ائتمنك)([10]).

قلت: لقد حرم الإسلام أكل أموال الناس بغير حق، وحرم الغدر بهم أو خيانتهم؛ لما تفضي إليه هذه الأفعال من الظلم والفتن، وفساد الأحوال، والإخلال بالعلائق بينهم، وتحريم هذه الأفعال تحريم غاية، وتحريم وسيلة، وهذا يقتضي أن ما يحرم على المسلم فعله بنفسه يحرم عليه أن يفعله مع المسلم وغير المسلم، فتحريم الربا عليه -مثلاً- يقتضي منه ألا يبيحه لغيره، أو يشجعه عليه.

وتحريم الكذب يقتضي منه ألا يبيحه لغيره، أو يدفعه إليه، وهكذا يوجب الإسلام على المسلم أن يكون صادقًا في تعامله أيًّا كان المتعامل معه، مسلمًا أو غير مسلم، كما يوجب عليه أن يكون أمينًا في تعامله، أيًّا كان المتعامل معه، مسلما أو غيره؛ لأن أحكام الإسلام شاملة لكل البشر في أي زمان أو مكان؛ استدلالًا بقول الله -تعالى-: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف: 158]، وقوله -تعالى-: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُون} [سبأ: 28].

وقد أكد الإسلام الوفاء بالعقود في قوله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1]، وجعل العدل معيار التعامل بين الناس، بصرف النظر عن بغض قوم لآخرين، وفي هذا قال الله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُون} [المائدة: 8].

وتطبيق هذه الأحكام في غاياتها ومقاصدها يوجب على الإخوة في السؤال أن يتعاملوا مع الذين أشاروا إلى أنهم غير مسلمين كمـا لو كانوا يتعاملون مع مسلمين، من حيث تحريم أكل أموالهم بغير حـق، وتحريم خيانتهـم أو الكذب عليهم؛ لأن هذه الأفعال مما حرمه الإسلام في التعامل، سواء كان هذا مع المسلمين أم غير المسلمين، هذا إضافة إلى أن العلاقة بين بلد إخواننا في السؤال-وهم جزء منه-والبلد غير المسلم الذي يصرف المنحة لأمهم ليست علاقة حرب، وإنما علاقة سلم وأمان، تحكمــه إما عهـود ومواثيق ثنائية (معاهدات أو اتفاقيات)، أو تحكمها عقود ومواثيق دولية (ميثاق الأمم المتحدة، والمواثيق الدولية الأخرى)، وهذا كله يقتضي منهم الإبلاغ عن وفاة أمهم؛ لأن ابتغاء الحلال، ووجوب الصدق، وأداء الأمانة، أحكام شرعية، يجب على المسلم الالتزام بها في سلوكه ومعاملاته، فإن فقدوا ما كان يعطى لأمهم بموجب قوانين تلك الدولة فإن دينهم أغلى من المادة مهما كثرت، والله لا يضيع خلقه.

وخلاصة المسألة: أن الأصل في شريعة الإسلام تحريم أكل المال بغير حق، وتحريم الغدر والخيانة؛ لما تفضي إليه هذه الأفعال من الظلم، والفتن، وفساد الأحوال، والإخلال بالعلائق بين الناس، وتحريم هذه الأفعال تحريم غاية، وتحريم وسيلة، أي: أنها محرمة في ذاتها ووسائلها، وهذا يقتضي القول بأن ما يحرم على المسلم فعله بنفسه يحرم عليه أن يفعله مع المسلم وغير المسلم.

كما أن شريعة الإسلام توجب على المسلم أن يكون صادقًا في تعامله، أيًّا كان المتعامل معه مسلمًا أو غير مسلم، كما أنها توجب الوفاء بالعقود والعهود، وهذا كله يقتضي من الإخوة في السؤال الإبلاغ عن وفاة أمهم، فإن فقدوا ما كان يعطى لها فإن دينهم أغلى من المادة مهما كثرت.

والله أعلم.

 

 

([1])  أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الجهاد والسير، باب تحريم الغدر، ج12 ص43، شرح النووي لصحيح مسلم، ج12 ص 42-43.

([2])   رواه مسلم في صحيحه في كتاب الجهاد والسير، باب تأمير الإمام الأمراء على المبعوث، شرح النووي على صحيح مسلم ج12 ص37.

([3]) رواه مسلم في صحيحه في كتاب الإيمان، باب نقصان الإيمان بالمعاصي في خصال المنافق، شرح النووي ج2 ص 46.

([4])   أخرجه أبو داود في كتاب البيوع، باب في الرجل يأخذ حقه من تحت يده، برقم (3535)، سنن أبي داود ج3 ص290، قال الألباني في صحيح أبي داود، (٣٥٣٥): حسن صحيح.

([5]) فتح القدير لابن الهمام على الهداية للمرغيناني، وشرح العناية للبابرتي ج6 ص17-18، وحاشية رد المحتار على الدر المختار لابن عابدين ج4 ص166-167، وبدائع الصنائع في ترتيب الشرائع للكاساني ج7 ص111، وحاشية الطحطاوي على الدر المختار للطحطاوي ج2ص457-458.

([6])  بلغة السالك إلى أقرب المسالك إلى مذهب الإمام مالك للصاوي ج1 ص357، والشرح الصغير للدردير بهامش بلغة السالك ج1 ص357، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير للدسوقي ج2 ص179، وشرح منح الجليل على مختصر خليل لعليش ج3 ص154.

([7])  المهذب في فقه الإمام الشافعي للشيرازي، ج2 ص264، والمجموع للنووي، ج19ص452-453، ونهاية المحتاج إلى شرح المنهاج للرملي، ج8 ص98، وانظر: مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج للشربيني ج4ص253.

([8])  أخرجه أبو داود في كتاب الأقضية، باب الصلح برقم (3594)، ج3 ص304، صححه الألباني في غاية المرام، (٣٣٤).

([9]) المغني والشرح الكبير لابن قدامة ج10 ص 515-516، والإنصاف للمرداوي ج4 ص 208، والفروع لابن مفلح ج6 ص251، ومطالب أولي النهي في شرح غاية المنتهى للرحيباني ج2 ص581-582، والمبدع في شرح المقنع لابن مفلح ج3 ص395، وشرح منتهى الإرادات للبهوتي ج2 ص124.

([10]) كشاف القناع عن متن الإقناع للبهوتي ج3 ص109، والحديث سبق تخريجه وصححه الألباني في إرواء الغليل، (١٥٤٤)..