ومفاد المسألة: سؤال تقول فيه إحدى الأخوات: إذا كان رجل يقوم بمهمة لبلاده-كما لوكان “عينًا” لها في بلد غير مسلم-، واضطرته ظروف مهمته أن يرتكب محظورًا-خاصة شرب الخمر-إذا قدمت إليه، هل يدخل فعله هذا تحت حكم الضرورة؟.

المعيار الشرعي لمسألة الضرورة، ومدى انطباقها على بعض الحالات

قبل الجواب على سؤال الأخت ينبغي أن نعرف أولًا معنى الضرورة وأحكامها، ثم نرى ثانيًا ما إذا كان الفعل الذي ورد في السؤال يدخل في حكم الضرورة.

تعريف الضرورة: في اللغة تعرف الضرورة بمعنى الضرة، والضرار: المضارة، يقال: وليس عليك ضرر ولا ضرورة، وقد اضطر الإنسان الشيء أي: أُلْجِئَ إليه، وهي اسم المصدر من الاضطرار، تقول: حملتني الضرورة على كذا وكذا، وقد اضطر فلان إلى كذا وكذا.

وتقول: ضاره مضارة وضررًا بمعنى ضره، واضطره بمعنى ألجأه إليه، وليس له منه بد([1]).

وقد جاء حكم الضرورة في كتاب الله في قوله -تعالى-: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيم} [البقرة:173].

وقد بين الله في هذه الآية عددًا من المحرمات، وهي: الميتة، والدم، ولحم الخنزير، وما أُهل به لغير الله، ثم استثنى من ذلك حالة المضطر، وهو هنا من ألجأته الضرورة إلى تناول شيء من هذه المحرمات حفظًا لنفسه، ودرءًا لها من الهلاك.

وقد بنى الفقهاء على هذا الحكم في الآية الكريمة تعريف الضرورة والاضطرار، فعند الإمام القرطبي([2]): أن الاضطرار يكون إما بإكراه من ظالم، أو بجوع في مخمصة، وإن الذي عليه الجمهور من الفقهاء والعلماء في معنى الآية هو: من صيره العدم والغرث-وهو الجوع-إلى ذلك، وقيل: معناه: بمعنى أُكره وغُلِب على أكل هذه المحرمات، كالرجل يأخذه العدو، فيكرهونه على أكل لحم الخنزير وغيره من معصية الله -تعالى-([3]).

وقد قيد الله الإباحة للمضطر بشرطين:

أولهما: أن يكون هذا (غير باغ) أي: غير راغب في الحرام بقصد اللذة أو الشهوة.

وثاني الشرطين: أن يكون “غير عاد” أي: غير مجاوز حد الاضطرار، وهو ما يسد رمق المضطر؛ لأن الإباحة مبنية عدمًا ووجودًا على الضرورة، وهذه تقدر بقدرها – كما سنرى -.

وفي مذهب الإمام أبي حنيفة: أن الضرورة تكون في حال الخوف على النفس أو العضو، ولا ضرورة عند عدم الخوف([4])، وأسس المتأخرون من الأحناف قاعدة “الضرورات تبيح المحظورات”، فجاز بذلك أكل الميتة عند الجوع، وإساغة اللقمة بالخمر، والتلفظ بكلمة الكفر عند الإكراه، وقالوا: إن هذا لا يعني أن الضرورة تبيح كل محظور، بل يجب أن يكون المحظور دون الضرورة، فإن كان أكثر منها فلا يصبح عندئذ مباحًا، ومثال ذلك: ما لو هدد شخص آخر بالقتل، وأجبره على قتل آخر، فلا يجوز للمكره عندئذ أن يوقع القتل؛ لأن الضرورة هنا مساوية للمحظور، بل إن قتل المكره أخف ضررًا من أن يقتل شخصًا آخر([5]).

وفي مذهب الإمام مالك: تعرف الضرورة بالخوف من هلاك النفس علمًا أو ظنًا([6]).

وفي مذهب الإمام أحمد: يكون في حال الضرورة من يخشى على نفسه، سواءٌ كان من جوع، أو يخاف إن ترك الأكل عجز عن المشي، وانقطع عن الرفقة فيهلك، أو يعجز عن الركوب فيهلك([7]).

وإباحة المحظور للضرورة مقيدة بقدرها، فالمضطر إلى أكل الميتة مقيد بما يسد رمقه، والطبيب مقيد بألا ينظر إلى العورة إلا بقدر الحاجة إلى معرفة المرض، والمضطر إلى اغتصاب مال الغير لدفع جوعه مقيد بما يدفع هذا الجوع فحسب([8]).

هذا من حيث العموم بالنسبة لأحكام الضرورة، وقد أوردناها بإيجاز، أما بالنسبة لشرب الخمر، وما إذا كان يدخل تحت حكم الضرورة.

ففي مذهب الإمام أبي حنيفة: إذا أُكره على شربه بحبس، أو ضرب، أو قيد لم يحل له، إلا أن يكره بما يخاف منه على نفسه أو على عضو من أعضائه، فإذا كان الإكراه بشيء يسير لا يخاف منه تلف النفس أو العضو لم يحل له الإقدام على ذلك.

هذا في حال الإكراه وفي حال العطش إذا خاف الهلاك منه، وعنده خمر شرب منه بقدر ما يدفع العطش إن علم أنه يدفعه([9]).

وفي مذهب الإمام مالك: يباح من الخمر ما يدفع الغصة بطعام أو غيره عند عدم ما يسيغها به غيرها، ولكن لا يباح شربها لجوع أو عطش، وقيل: تباح. وقد سئل الإمام مالك -رضي الله عنه- عن الخمر إذا اضطر إليها أيشربها؟ قال: لا، ولن تزيده إلا شرًّا([10]).

وفي مذهب الإمام الشافعي: تحرم الخمر للتداوي، والعطش، واختار إمام الحرمين([11]) والغزالي([12]) جوازها للعطش، والمشهور عن الإمام الشافعي والأصحاب أنها لا تسكن العطش، بل تزيده، وفي المذهب: أنه لو غص بلقمة، ولم يجد شيئًا يسيغها به إلا الخمر، فله إساغتها به بلا خلاف، وقد نص على ذلك الإمام الشافعي، واتفق عليه الأصحاب وغيرهم، ومنهم من قال: يجب عليه ذلك؛ لأن السلامة من الموت بالإساغة قطعية([13]).

وفي مذهب الإمام أحمد: يجوز الأكل من المحرم مطلقًا إذا اضطر إلى أكله على الصحيح من المذهب، وعليه جماهير الأصحاب([14]).

وينبني على ما سبق أن شرب الخمر مباح للمكره- بفتح الراء- بلا خلاف في ذلك، على أن يكون الإكراه مما يؤدي إلى تلف النفس أو العضو؛ استدلالًا بقول الله -تعالى- في حكم المكره على الكفر: {مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106]، فإذا كان هذا في حال الكفر فهو في حال الخمر أولى؛ لأن شربها أخف من الكفر.

ومع الخلاف بين الفقهاء في مدى إباحة الخمر في حال الجوع والعطش، فإنه لا خلاف بينهم في إباحتها إذا كانت لدفع ضرر حالٍّ يفضي إلى هلاك النفس، كما هو الحال في الغصة بالطعام أو خلافه، وفي كل حالات الاضطرار يبقى الحكم مقيدًا بقدر الضرورة، وحفظ النفس، ودرء الهلاك عنها.

ويترتب على ما ذكر أن حالة الرجل (العين) في السؤال لا تدخل في حكم الضرورة، فلا يبدو أنه مكره على شرب الخمر، أو مضطر إليها لحماية نفسه، بل إن الأمر قد يكون مضرًّا بمهمته؛ لأن الخمر تسكر شاربها، فإذا سكر فقد وعيه وعقله، واضطرب سلوكه، والمفترض في (العين) أنه يحتفظ بوعيه وعقله حتى لا ينكشف أمره، وهذا هو ما يتبادر إلى الذهن، حيث لا يبدو من السؤال غير هذا.

وخلاصة المسألة: أن الله -سبحانه وتعالى-أباح بعض المحرمات من الطعام والشراب للمضطر بما يدرأ به الهلاك عن نفسه، وقد قيد هذه الإباحة بشرطين:

أولهما: أن يكون المضطر غير راغب في الحرام.

وثانيهما: أن يكون غير مجاوز حد الاضطرار.

وتقيد الضرورة بقدرها، فالمضطر إلى أكل الميتة مقيد بما يسد رمقه، ونظر الطبيب إلى العورة مقيد بالحاجة إلى معرفة المرض، كما أن الضرورة مقيدة بكون المحظور دون الضرورة، فلا يقتل شخصًا آخر لأنه أُكره على ذلك؛ لكون الضرورة هنا مساوية للمحظور، والخمر من المحرمات، وشربها يباح للمكره بلا خلاف في ذلك، على أن يكون الإكراه مما يؤدي إلى تلف النفس أو العضو، كما أنه لا خلاف في إباحتها إذا كانت تدفع ضررًا حالًّا يفضي إلى هلاك النفس كما هو الحال في الغصة بالطعام.

ويترتب على ذلك أن حال الرجل (العين) في السؤال لا تدخل في حكم الضرورة؛ حيث لا يبدو أنه مكره على شربها، ولا يدفع بها ضررًا حالًّا يؤدي إلى هلاك نفسه. والله أعلم.

 

([1]) لسان العرب لابن منظور ج4 ص483-484، والمصباح المنير للفيومي ج2 ص360.

([2]) القرطبي: محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجي الأندلسي، أبو عبد الله، من كبار المفسرين، صالح متعبد، من أهل قرطبة، من كتبه: (الجامع لأحكام القرآن)، و(التذكار في أفضل الأذكار)، توفي سنة 671هـ انظر: الأعلام للزركلي ج5 ص 322.

([3]) جامع الأحكام الفقهية للقرطبي من تفسيره ج 3 ص 245.

([4]) نتائج الأفكار في كشف الرموز والأسرار لقاضي زاده ج9 ص 239-240، وانظر: شرح العناية على الهداية للبابرتي ج9 ص239، وكشف الحقائق شرح كنز الدقائق لعبد الحكيم الأفغاني ج2 ص182.

([5]) درر الحكام شرح مجلة الأحكام لعلي حيدر، الكتاب الأول البيوع ص33-34، والأشباه والنظائر لابن نجيم ص 85-86، والأشباه والنظائر في قواعد وفروع فقه الشافعية للسيوطي ص 84-85.

([6]) شرح منح الجليل على مختصر خليل لعليش ج2 ص455، وحاشية الدسوقي للدسوقي على الشرح الكبير للدردير ج2 ص115، والقوانين الفقهية لابن جزي ص116.

([7]) المغني والشرح الكبير لابن قدامة ج11 ص74، وانظر: مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى للرحيباني ج6 ص318، وكشاف القناع عن متن الإقناع للبهوتي ج6 ص195.

([8]) درر الحكام شرح مجلة الأحكام لعلي حيدر ج1 ص34، والأشباه والنظائر لابن نجيم ص86، وشرح القواعد الفقهية للزرقاء ص 187-188.

([9]) نتائج الأفكار في كشف الرموز والأسرار لقاضي زاده ج9 ص239-240، وحاشية رد المحتار على الدر المختار لابن عابدين ج 6 ص 238-239، وبدائع الصنائع في ترتيب الشرائع للكاساني ج7 ص176، وكشف الحقائق شرح كنز الدقائق لعبد الحكيم الأفغاني ج 2 ص 181-182.

([10]) شرح منح الجليل على مختصر خليل لعليش ج2 ص455-457، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير للدردير ج2 ص115-116، والقوانين الفقهية لابن جزي ص 116.

([11]) إمام الحرمين: عبد الملك بن عبد الله بن أبي يعقوب بن عبد الله الجويني، الفقيه الشافعي، الملقب ضياء الدين، المعروف بإمام الحرمين، أعلم المتأخرين من أصحاب الإمام الشافعي، له مصنفات كثيرة، منها: (غياث الأمم والْتِيَاثُ الظُّلَمِ)، و(العقيدة النظامية في الأركان الإسلامية)، و(الورقات)، ولد سنة 419هـ، وتوفي سنة 478هـ. انظر: وفيات الأعيان لابن خلكان ج 3 ص 167-170.

([12]) الغزالي: محمد بن محمد بن محمد الغزالي الطوسي، أبو حامد، حجة الإسلام، فيلسوف، متصوف، له نحو مائتي مصنف، منها: (إحياء علوم الدين)، و(الاقتصاد في الاعتقاد)، و(المستصفي من علم الأصول)، و(الوجيز)، ولد سنة 450هـ- وتوفي سنة 505هـ، انظر: وفيات الأعيان لابن خلكان ج4 ص 216-219.

([13]) المجموع شرح المهذب للنووي ج 9 ص 50-52، ونهاية المحتاج إلى شرح المنهاج للرملي ج 8 ص 159، وحواشي الشرواني والعبادي على تحفة المحتاج لابن حجر الهيثمي ج 9 ص 390-391.

([14]) الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف للمرداوي ج1 ص369، وانظـر: المغني والشــرح الكبير لابن قدامة ج11 ص73-74، وكشاف القناع عن متن الإقناع للبهوتي ج 6 ص 195-196، ومطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى للرحيباني ج6 ص318-319، وشرح منتهى الإرادات للبهوتي ج 3 ص 400.