ومفاد المسألة: أن ورثة شخص من أبناء وبنات وغيرهم تراضوا فيما بينهم على قسمة إرثهم من مورثهم بالتساوي، بحيث لا يزيد أحد منهم على أحد، وحجتهم في ذلك-كما يقول السائل-: زهد بعضهم، ومحبته لإخوانه، ورغبته في تعزيز التآلف والتآخي بينهم. والسؤال عما إذا كان فعلهم هذا جائزًا شرعًا أو لا.

حكم اتفاق الورثة على قسمة إرثهم بالتساوي

والجواب عن ذلك: أن الله -تعالى- قد علم، ويعلم بعلمه المطلق حاجة خلقه في أمور دنياهم وآخراهم، فأنزل لهم الأحكام، ووضع لهم القواعد، وفرض لهم الفرائض، ثم ألزمهم بما أنزله عليهم، وما وضعه لهم، وما فرضه عليهم، فأصبحوا بذلك مكلفين غير مختارين، وفي ذلك قال-تعالى-: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا} [الأحزاب: 36].

وقد وضع الله قواعد الإرث، وعين نصيب كل واحد من الورثة تعيين فرض وإلزام، فقال-تعالى-: {لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا} [النساء: 7]، كما عين أنصبة الوارثين من أولاد ونساء وآباء وأمهات وإخوة وأزواج، فقال -تعالى-: {يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} إلى قوله -تعالى-: {فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ} [النساء: 11]، وقال -تعالى-: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ} [النساء: 12]، وأفتى الله -تعالى- في من مات، وليس له ولد ولا والد، فقال-عز وجل-: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ} [النساء: 176].

والإنسان بطبعه ميال إلى التفكير، وادعاء المعرفة، فيتصور أن هذا الأمر أحسن من ذاك، ثم يدلل على تفكيره وادعائه بالعديد من العلل، ومن ذلك: مسألة المواريث، فقد كان العرب في الجاهلية لا يورثون النساء ولا الضعفاء، فيصرفون إرثهم إلى ساداتهم وأقويائهم، فأبطل الله ذلك بنص القرآن، ففي قوله -تعالى-: {نَصِيبًا مَّفْرُوضًا}، وفي قوله -تعالى-: {فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ} حكم قطعي بأنه لا خيار للإنسان في مسألة الإرث وتوزيعه؛ لأن الله -تعالى-علم بعلمه المطلق أن هذا التوزيع أحكم وأفضل للورثة ومورثهم؛ لأنه أعلم بحاجاتهم وأمورهم ومصالحهم. هذا في القرآن.

أما في السنة: فقد روي أن رسول الله -ﷺ- قال: (إن الله -عز وجل-قد قسم لكل إنسان قسمه من الميراث)([1]).

قال الزيلعي: “ولم يفوض الله تقديره- أي: الميراث- إلى ملك مقرب، ولا نبي مرسل، بخلاف سائر الأحكام كالصلاة والزكاة والحج وغيرها، فإن النصوص فيها مجملة، كقوله -تعالى-: {أَقِيمُواْ الصَّلاَةَ}، {آتُواْ الزَّكَاةَ}، {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ}، وإنما السنة بينتها”([2]).

وقد أوضح الإمام الشافعي أن آيات المواريث كلها “تدل على أن الله -عز وجل-انتهى بمن سمى له فريضة إلى شيء، فلا ينبغي لأحد أن يزيد من انتهى الله به إلى شيء غير ما انتهى به، ولا ينقصه، فبذلك قلنا: لا يجوز رد المواريث”([3]).

وفي مذهب الإمام أحمد: أن أسباب الملك نوعان: اختياري، وهو ما يملك رده كالشراء والهبة ونحو ذلك، وقهري وهو ما لا يملك الإنسان رده، وهو الإرث([4]).

وخلاصة ما سبق: أنه لا يحل لأحد أن يُغير في أحكام الله في المواريث، فيتفق على خلافها، فمن فعل ذلك فقد خرج على هذه الأحكام، وعلى الورثة في المسألة أن يقسموا إرثهم وفق الأنصبة الشرعية، وبعد أن يعرف كل ذي حق حقه يمكنه أن يتبرع لأخيه بما يريد، فيُعد فعله حينئذ تبرعًا جادت به نفسه.

والله أعلم.

 

([1]) أخرجه ابن ماجة في كتاب الوصايا، باب “لا وصية لوارث”، رقم الحديث (2712)، سنن ابن ماجة ج2 ص905، وأخرجه النسائي في كتاب الوصايا، باب إبطال الوصية للوارث، سنن النسائي، ج6 ص247، وأخرجه الدارقطني في سننه في كتاب الوصايا، برقم (13)، ج4 ص 152-153، صححه الألباني في صحيح النسائي، (٣٦٤٤).

([2]) حاشية رد المحتار على الدر المختار للإمام ابن عابدين، ج6 ص 757-758، وانظر: حاشية الطحطاوي على الدر المختار ج4 ص 365.

([3]) الأم للإمام الشافعي، ج4 ص 76، دار المعرفة، بيروت، وانظر: المجموع للنووي ج16 ص49-50، ونهاية المحتاج إلى شرح المنهاج للرملي ج6 ص 14.

([4]) كشاف القناع عن متن الإقناع للبهوتي، ج4 ص 403، وانظر: حاشية الروض المربع شرح زاد المستقنع، لعبد الرحمن بن محمد بن قاسم، ج6 ص 87، ومطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى، لمصطفى السيوطي الرحيباني ج4 ص542.