ومفاد المسألة: أن هناك مداخلات ومعاملات مالية بين السائل وصاحبه، وقد ترتب للسائل في ذمة صاحبه -كما يقول- مبلغ من المال، فطلب منه أن يكتب له سندًا يذكر فيه مديونيته بالمبلغ، وتعهده بوفائه، وبناء على هذا أرسل إليه رسالة خطية يذكر فيها مديونيته بالمبلغ، وتعهده بوفائه متى قدر عليه، وقد انتظر السائل-كما يقول-مدة من الزمن، إلا أن صاحبه لم يوفه حقه، ولما طلب منه السداد أنكر الدين، وأنكر بالتالي رسالته. ويسأل السائل عما يلزم صاحبه في ذلك؟.

مـدى صحة الرسالة التي أقر فيها المدين بدينه، ثم أنكرها

والجواب: أن الرسالة التي أشار إليها السائل تعد إقرارًا مكتوبًا من صاحبها بما في ذمته للسائل من حقوق، والإقرار المكتوب مثل الإقرار الملفوظ، بل قد يكون الأول أشد في الثبوت، وأقوى في الدلالة، وقد ندب الله إلى الكتابة في آية الدين في قوله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282].

وقيل: إنَّ كَتْبَ الدَّيْنِ واجب فُرِض بهذه الآية، وممن قال بذلك: الطبري، وقال الشعبي: كانوا يرون أن قوله -تعالى-: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا} [البقرة: 283] ناسخ لأمره بالكتب، وروي هذا القول عن أبي سعيد الخدري، والجمهور على أن “الأمر بالكتب ندْبٌ إلى حفظ الأموال، وإزالة الريب، وإذا كان الغريم تقيًّا فما يضره الكتاب، وإن كان غير ذلك فالكتاب ثقاف في دينه، وحاجة صاحب الحق”([1]).

وفي المذهب الحنفي: يرى الإمام ابن عابدين أن الإقرار كما يكون باللسان يكون بالبنان، فإذا أملى المدين على إنسان؛ ليكتب حقًّا عليه فذاك إقرار بالبنان، وإذا قال لقوم: اشهدوا أن لفلان عليَّ كذا وكذا، فذاك إقرار باللسان، وإذا ادعى أن الدائن كتب على قرطاس بخطه أن الدين الذي لي على فلان بن فلان أبرأتُه عنه، صح، وسقط الدين؛ لأن الكتابة المرسومة المعنونة كالنطق به..، ولا فرق بين أن تكون الكتابة بطلب الدائن أو لا([2]).

وجاء في المادة (1606) من مجلة الأحكام العدلية أن “الإقرار بالكتابة كالإقرار باللسان”([3]).

كما جاء في المادة (1609) أنه “إذا كتب أحد سندًا، أو استكتبه من كاتب، وأعطاه لآخر موقعًا بإمضائه، أو مختومًا، فإذا كان مرسومًا -أي: حرر موافقًا للرسم والعادة- فيكون إقرارًا بالكتابة، ويكون معتبرًا ومرعيًّا كتقريره الشفاهي، والوصولات المعتادة وإعطاؤها هي من هذا القبيل”([4]).

وفي مذهب الإمام مالك: يؤاخذ الشخص بإقراره كتابة، ولو كان هذا الإقرار من أخرس([5]).

وفي مذهب الإمام الشافعي: يعتمد خط المقر([6]).

وفي مذهب الإمام أحمد: أن الكتابة في حكم النطق([7]).

وبما أن الإقرار بحقوق العباد أمر يتعلق بالمقر وسلوكه فقد يرجع المقر عن إقراره لسبب من الأسباب، منها: عجزه عن الوفاء بهذه الحقوق، كما لو كان غنيًّا عند إقراره، ثم أصبح فقيرًا، فأراد الخلاص من مطالبة الدائن له، بصرف النظر عن مسألة الحِلِّ والحرمة في سلوكه، ومنها شكه في سلامة تصرفه حال إقراره، كما لو كان واقعًا تحت ضغط أو نحوه، ومنها ندمه على إقراره إذا كان هذا الإقرار يتعلق بعطية أو نحوها، وهكذا.

وللفقهاء أقوال كثيرة في مسألة الرجوع عن الإقرار:

منها قول ابن جزي: “فإن أقر بحق لمخلوق لم ينفعه الرجوع، وإن أقر بحق الله -تعالى-كالزنا وشرب الخمر، فإن رجع إلى شبهة قُبِل منه، وإن رجع إلى غير شبهة ففيه قولان: قيل: يقبل منه وفاقًا لهما (يعني أبا حنيفة والشافعي)، وقيل: لا يقبل وفاقًا للحسن البصري”([8]).

ومن هذه الأقوال قول الإمام القرافي: “إن .. الأصل في الإقرار اللزوم من البر والفاجر؛ لأنه على خلاف الطبع، وضابط ما لا يجوز الرجوع عنه: هو ما ليس فيه عذر عادي، وضابط ما يجوز الرجوع عنه: أن يكون له في الرجوع عنه عذر عادي”([9]).

والرجوع عن الإقرار المكتوب قد يكون بإنكار ما فيه أصلًا، وقد يكون بادعاء تحريف أو تزوير فيه، وقد ورد في مجلة الأحكام العدلية أنه إذا أنكر مَنْ كَتَبَ أو استكتب سندًا ممضى بإمضائه، أو مختومًا بختمه، فلا يعتد بإنكاره إذا كان خطه وختمه مشهورين، أما إن كان خطه وختمه غير مشهورين فيستكتب، ويعرض خطه على أهل الخبرة، فإن أخبروا أن ذلك خطه فيؤمر بالوفاء، وفي كل الأحوال ينبغي أن يكون السند خاليًا من شائبة التزوير وشبهة التصنيع([10]).

والرسالة في السؤال بمثابة السند، فإن كانت ممضاة بإمضاء صاحب السؤال أو بختمه، أو كان اسمه مطبوعًا عليها، وهو معروف بهذا الإمضاء أو الختم، ولم يتبين من الرسالة أن فيها شبهة تزوير أو نحوها، فتعد في هذه الحال بينة صالحة للقضاء؛ لإلزامه بالوفاء وفق ما يتبين له-أي: القضاء-من ملابسات.

وخلاصة المسألة: أن الرسالة التي أشار إليها السائل تعد إقرارًا مكتوبًا بالدين، والإقرار المكتوب كالإقرار الملفوظ، فإذا أنكر صاحبها نسبتها له فينبغي التأكد من أنه كتبها بخطه، أو استكتبها، ثم أمضاها أو ختمها، كما ينبغي التأكد من عدم تزويرها، أو نحو ذلك مما يؤثر في صحتها، فإن كانت بخطه المشهور أو بختمه أو إمضائه، ولم يكن فيها تزوير أصبحت بينة صالحة لإلزامه بالوفاء، وتبقى المسألة مسألة قضائية يحكم فيها وفق وقائعها وملابساتها.

والله أعلم.

 

([1]) انظر في هذا: الجامع لأحكام القرآن للإمام القرطبي ج3 ص 383، وثقاف: فطنة وذكاء، انظر: لسان العرب لابن منظور ج9 ص 19، وجامع البيان عن تأويـل آي القرآن للطبري ج3 ص 118-119، والمحلى بالآثار لابن حزم ج6 ص 351- 352، والمجموع شرح المهذب للنووي ج13 ص99.

([2]) حاشية رد المحتار على الدر المختار لابن عابدين ج5 ص 600 – 601، وحاشية قرة عيون الأخيار تكملة رد المحتار، لمحمد علاء الدين أفندي ج8 ص 136 – 137.

([3]) درر الحكام شرح مجلة الأحكام لعلي حيدر، تعريب: فهمي الحسيني، ج4 ص 137.

([4]) درر الحكام شرح مجلة الأحكام ص 139.

([5]) شرح منح الجليل على مختصر خليل، للشيخ محمد عليش ج6 ص 422.

([6]) نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج للرملي ج8 ص 354.

([7]) انظر: شرح منتهى الإرادات للبهوتي ج3 ص 569، وكشاف القناع عن متن الإقناع للبهوتي ج6 ص 452، وانظر: مجلة الأحكام الشرعيه، للشيخ أحمد القاري ص514.

([8]) القوانين الفقهية لابن جزي ص 208.

([9]) الفروق للقرافي ج4 ص 38.

([10]) انظر المادة (1610) من مجلة الأحكام العدلية ج4 ص 140 – 141.