والجواب: أن مصانع الأدوية تضع مع كل دواء تنتجه ورقة تبين فيها التركيب الكيماوي للدواء Composition، وخواصه ومفعوله Properties and effects، وطبيعة حركته في الجسم Pharmaco kinetics، كما تبين الأسباب الموجبة لاستعماله Indications بناء على نتائج التجارب التي تستغرق أحيانًا عدة سنوات، بالإضافة إلى بيان الكمية (الجرعة) التي ينبغي للمريض تناولها حسب سنه، مع بيان المدة اللازمة لاستعماله.
ومن أهم ما تتضمنه التعليمات التي يضعها المصنع: بيان موانع استعماله Use restrictions، وتنص هذه الموانع على عدم استعماله للمرضى الذين يشكون -مثلًا- من قصور في الكلى، أو خلل في وظائف الكبد، أو وجود أعراض مرضية لديهم في العينين أو الأذنين، أو وجود حساسية لديهم من بعض الأدوية التي قد يكون في تركيبها الكيماوي موادُّ تعرِّضُ الجسم للاضطراب كالطفح، أو الحرقان، أو نحو ذلك مما يعرفه الأطباء دون غيرهم.
والمؤكد -بل البدهي- أن المصنع لا يضع هذه النصوص عبثًا، بل يقصد منها البيان والإيضاح للأطباء والمرضى عن طبيعة الدواء، وما هو مؤكد من تأثيره على بعض الأمراض، وما هو محتمل من تأثيره على بعضها الأخر.
وهو بهذا يتبرأ من المسؤولية؛ لكونه قد بَيَّنَ للأطباء والمرضى حقيقة الدواء وطبيعته، وعليهم حينئذ أن يتحملوا المسؤولية وحدهم عندما يتعمدون أو يخطئون في استعماله، وليس معنى هذا أن الطبيب يتخلى عن معالجة المرضى بحجة أن هذا الدواء يتضمن موانع من استعماله، بل إن عليه أن يبحث عن دواء آخر لا يؤثر على المريض إذا كان عنده مرض آخر غير الذي جاءه يشكو منه، فإذا كان هذا الدواء لا يناسب هذا المريض؛ لوجود موانع فيه، فإن هناك دواءً آخَرَ لا توجد فيه موانع، وهكذا.
والسؤال هو: ما مدى حق المصنع في التبرؤ من العيوب في دوائه؟، وما واجب الأطباء في هذا الأمر؟، وما مدى مسئوليتهم عنه؟.
لقد بحث الفقهاء مسألة شرط البراءة من العيب، ومدى جوازه:
ففي المذهب الحنفي: يعد شرط البراءة من العيب شرطًا صحيحًا، فالعلم بالعيب رضا به، والإبراء إسقاط، فإذا أبرأ المشتري البائع فقد أسقط حق نفسه، فصح الإسقاط، والبراءة من العيب إما أن تكون عامة بحيث يقول البائع: بعت كذا على أني بريء من العيوب، أو من كل عيب، وإما أن تكون البراءة خاصة، بأن يقول البائع: إنه بريء من عيبِ كذا، ويسميه، ولكن لا يجوز له أن يقول: إنه بريء من كل عيب يحدث بعد البيع، فإن فعل فالشرط فاسد([1]).
وفي المذهب المالكي: يجوز شرط البراءة من العيب على المشهور في المذهب، ووجه الجواز ما ورد “من حكم عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان -رضي الله عنهما- بإمضاء البيع المشترط فيه البراءة، ومن كون الضرورة قد تمس إلى ذلك، وتدعو إليه الحاجة والمصلحة، فعُفِيَ عنه كما عُفِيَ عن عقود تضمنت غررًا؛ للضرورة الداعية إلى العفو عن ذلك”([2]).
وفي المذهب قول آخر بعدم الانتفاع بالبراءة مطلقًا؛ لوجه الغرر فيه، فإذا اشترط البائع على المشتري ألا يرد عليه بعيب يوجد في محل البيع فإن ذلك يتضمن شراءً على مبيع غير معلوم ولا محاط به، وبيع ما لا تعرف حقيقته لا يُختلف في منعه، كبيع الإنسان لما في نهره من حيتان. وفي قول آخر في المذهب يجوز شرط البراءة من العيب مع تخصيصه ببعض المبيعات([3]).
وفي مذهب الإمام الشافعي: إذا شرط البائع البراءة من العيب ففيه ثلاثة أقوال:
أولها: أنه يبرأ من كل عيب رضي به المشتري، فبرئ منه البائع.
وثانيها: أنه لا يبرأ من شيء من العيوب؛ لأنه شرط يرتفق به أحد المتبايعين، فلم يصح مع الجهالة.
وثالثها: أنه لا يبرأ إلا من عيب واحد، هو العيب الباطن الذي لا يعلم به البائع، وهذا قول الإمام الشافعي([4]).
وفي مذهب الإمام أحمد: اختلفت الرواية عن الإمام أحمد حول شرط البراءة من العيب، فروي عنه أنه لا يبرأ إلا أن يعلم المشتري بالعيب، كما هو قول الإمام الشافعي.
والرواية الثانية: أن البائع يبرأ من كل عيب لم يعلمه، ولا يبرأ من عيب علمه. وفي المذهب أن شرط البراءة من العيب لا يفسد البيع؛ لأن ابن عمر باع بشرط البراءة من العيب، فأجمعوا على صحته، ولكن لا يمنع الرد بوجود الشرط، ويكون وجوده كعدمه([5])، فإذا باع البائع “سلعة، وشرط على المشتري البراءة من كل عيب بها، أو شرط البراءة من عيب كذا، أو باع بشرط البراءة من الحمل إن كان، أو باع بشرط البراءة مما يحدث بعد العقد وقبل التسليم، فالشرط الفاسد لا يبرأ البائع به، سواءٌ كان العيب ظاهرًا، ولم يعلمه المشتري، أم كان باطنًا. ولكن إذا سمى البائع العيب، وأوقف البائعُ المشتريَ عليه، وأبرأه منه، برئ؛ لأنه قد علم بالعيب، ورضي به، ومثل ذلك: ما لو أسقطه بعد العقد؛ لأنه أسقطه بعد ثبوته له”([6]).
ومما سبق يتبين أن من الفقهاء من يرى جواز شرط البراءة من العيب مطلقًا، ومنهم من يراه مع تقييده بكون العيب خفيًّا لا يعلمه المشتري، ومنهم من يرى أن هذا الشرط لا يفسد البيع، ولكنه لا يمنع رد المبيع المعيب، أي: أن وجود هذا الشرط كعدمه.
قلت: وقد لا تنطبق طبيعة هذا الشرط كليةً على التحذير الذي تضعه مصانع الأدوية عن العيوب التي توجد في أدويتها لفئة من المرضى، ومع ذلك فإن إعلان هذه المصانع عن هذه العيوب يقترب من هذا الشرط، فمصنع الأودية يقول لمن يشتري إنتاجه من هذا أو ذاك الدواء: إنه يضر من لديه كذا وكذا من الأمراض، وبالتالي يحذره من استعماله؛ لكي ينفي عنه المسؤولية بحكم هذا التحذير.
يمكن القول بجواز هذا التحذير، وانتفاء المسئولية عن المصنع؛ بدليل ما فعله رسول الله -ﷺ- حين كان يتفقد أسواق المدينة، فلما أدخل يده في طعام معدٍّ للبيع وجد به بللًا، فقال لصاحبه: (ما هذا)؟، فقال: أصابته السماء يا رسول الله!، فقال-عليه الصلاة والسلام-: (أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس)([7])، ومعنى ذلك: أنه -عليه الصلاة والسلام- أمر البائع أن يبين للناس حقيقة طعامه المعد للبيع؛ لكي يكونوا على علم به حين يشترونه، فتنتفي عنه بالتالي صفة الغش.
ولكن المسئولية لا تنتفي عن فعل الطبيب، فالمفترض حكمًا أنه يعرف ما في هذا الدواء أو ذاك من أخطار على المريض الذي يعاني من مرض آخر لا يتناسب هذا الدواء مع مرضه، وهذا يعني أنه يترتب عليه حكما قبل وصف الدواء سؤال المريض عن وضعه الصحي، أي: معرفة ما عنده من أمراض خلاف المرض الذي جاءه يشكو منه، وإلا كان مسؤولًا عما يسببه الدواء الذي وصفه من مضاعفات وأضرار.
وينبني على هذا أن نصح الطبيب للمريض في المسألة بعدم الاهتمام بتعليمات مصنع الأودية يعد عملًا خاطئًا تترتب عليه بحكم القواعد العامة مسؤولية تجاه المريض إذا تعرض لضرر، إضافة إلى مسؤوليته عن وصف دواء رغم ما فيه من تحذير.
وخلاصة المسألة: أن التحذير الذي تضعه مصانع الأدوية يقترب في غايته من شرط البراءة من العيب المعروف في الفقه، ويمكن القول بجواز هذا التحذير قياسًا على قول بعض الفقهاء بجواز شرط البراءة من العيب، وبالتالي انتفاء المسئولية عن المصنع ما دام قد بيَّن ما في الدواء من أضرار للشخص الذي يعاني من مرض أو أمراض معينة، ولكن المسؤولية لا تنتفي عن الطبيب؛ لأن المفترض حكمًا أنه يعرف ما في هذا الدواء أو ذاك من أخطار على المريض الذي يعاني من مرض آخر، وبالتالي فإن نصحه للمريض بعدم الاهتمام بتعليمات مصنع الأودية عمل خاطئ تترتب عليه مسؤولية تجاه المريض، إضافة إلى مسؤوليته عن وصف دواء للمريض رغم ما فيه من تحذير.
والله أعلم.
([1]) بدائع الصنائع للكاساني ج5ص276-279، وفتح القدير لابن الهمام ج6ص396-399، ودرر الحكام شرح مجلة الأحكام لعلي حيدر، الكتاب الأول 295-296، تعريب: فهمي الحسيني، والجوهرة النيرة على مختصر القدوري للحداد ج1ص243، وحاشية رد المحتار على الدر المختار لابن عابدين ج5ص42-43، وكشف الحقائق شرح كنز الدقائق لعبد الحكيم الأفغاني ج2ص16-17.
([2]) عقد الجواهر الثمينة في مذهب عالم أهل المدينة، لابن شاس ج2ص479-480.
([3]) عقد الجواهر الثمينة، ج2 ص 479-480، وانظر: شرح منح الجليل على مختصر خليل لعليش ج5ص166-168، ومواهب الجليل لشرح مختصر خليل للحطاب ج4ص439-440، وبداية المجتهد ونهاية المقتصد، لابن رشد ج2ص184، وشرح الزرقاني على مختصر خليل للزرقاني، ج5ص137، وبلغة السالك لأقرب المسالك للصاوي على الشرح الصغير للدردير ج2ص68-69، والقوانين الفقهية لابن جزي ص175.
([4]) المجموع شرح المهذب للنووي مع فتح العزيز شرح الوجيز للرافعي، والتلخيص الحبير في تخريج الرافعي الكبير ج12ص355-356، ونهاية المحتاج إلى شرح المنهاج للرملي ج4ص36-38، والأم للإمام الشافعي ج6ص194، وحواشي الشرواني وابن قاسم العبادي على تحفة المحتاج بشرح المنهاج لابن حجر الهيثمي ج4ص361-362، وكفاية الأخيار في حل غاية الاختصار لمحمد الحسيني ج1ص253-254، والسراج الوهاج للغمراوي على متن المنهاج للنووي ص187.
([5]) المغني والشرح الكبير لابن قدامة ج4ص258-259، وانظر: مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى للرحيباني ج3ص80، والإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام أحمد بن حنبل للمرداوي ج4ص359-360.
وقد جاء في المادة 429 من مجلة الأحكام الشرعية للقاري: “إذا اشترط البائع البراءة من عيب معين، أو من كل عيب بطل الشرط، وصح البيع، سواءٌ العيوب الظاهرة أو الباطنة، والجروح التي لا يعرف غورها، لكن لو برأه المشتري بعد البيع صح”. مجلة الأحكام الشرعية، تحقيق الدكتور عبد الوهاب إبراهيم أبو سليمان، والدكتور محمد إبراهيم أحمد علي.
([6]) انظر: كشاف القناع عن متن الإقناع للبهوتي ج3ص196-197، وشرح منتهى الإرادات للبهوتي ج2ص165-166.
([7]) صحيح مسلم بشرح النووي ج2ص109، أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب قوله -ﷺ-: (من غشنا فليس منا).