ويقول: إن السبب فيما أصاب نباته وأشجاره من ضرر يعود إلى ما أحدثه جاره، فما الحكم في ذلك؟.
والجواب: أن من القواعد الشرعية عدم حق أحد في الإضرار بغيره؛ عملا بقول رسول الله -ﷺ-: «المسلم أخو المسلم، لا يظلمه..»([1])، وقوله -ﷺ-: «لاضرر، ولا ضرار»([2])، وقوله: «لا يأخذن أحدكم متاع صاحبه لاعبا ولا جادا، وإن أخذ عصا صاحبه فليردها عليه»([3])، وقوله -عليه الصلاة والسلام-: «من كسر شيئا فهو له، وعليه مثله»([4]).
والضرر قد يكون مقصودا من فاعله، فيسمى عمدا، وقد يكون غير مقصود، فيسمى خطأ، ويستدل على معرفة هذا من ذاك تبعا لطبيعة الفعل ومظاهره، وما يمكن معرفته من مقاصده، وأغراضه، ويكون جزاء كل منهما حسب طبيعته.
وقد ينتج الخطأ من تباين المصالح بين أصحابها فيظن هذا أن ما يفعله حق له دون أن يشعر بما يسببه ذلك من ضرر لغيره، ويظن الآخر أن ما فعله الأول قد أضر به، فيشكو من هذا الضرر، وقد يكون لكل منهما وجهة نظر، فيصيب أحدهما، ويخطىء الآخر، ويبقى ميزان العدل هو الأساس في الحكم لهذا أو الحكم على ذاك.
وقضية الجارين -محل المسألة- واحدة من الحوادث التي تقع دائما بين المتجاورين؛ نظرا لتداخل المصالح بينهما، فصاحب “الاستراحة” يدعي حقه في ماء بئره، وأنه لا يجوز لأحد أن ينقص منه بأي وسيلة، وصاحب البئر المحدثة يدعي أنه لم يفعل شيئا يؤاخذ عليه؛ لأنه حفر في أرضه، ولم يكن في نيته أن يَنْقُصَ ماء جاره، فإذا حدث هذا فليس من حق أحد أن يعترض عليه، أو ينسب له خطأ وهكذا.
وفي الفقه حلول متعددة لهذه القضية وأمثالها:
ففي المذهب الحنفي: أن القياس في مثل هذا أن يفعل المالك ما بدا له مطلقا؛ لأنه يتصرف في خالص ملكه، ولكن يترك القياس في موضع يتعدى ضرره إلى غيره إذا كان الضرر بينا، وهو ما يكون سببا للهدم، أو يخرج عن الانتفاع بالكلية، أي: ما يمنع الحوائج الأصلية كسد الضوء بالكلية([5]).
وفي مذهب الإمام مالك قال عياض([6]): إن “حريم البئر ما اتصل بها من الأرض التي من حقها ألا يحدث فيها مايضر بها ظاهرا كالبناء والغراس، أو باطنا كحفر بئر يُنشف ماءها أو يذهبه..”([7])، “ومن أراد أن يحفر بئرا في ملك نفسه، ويخاف منه الإضرار بجاره؛ لم يكن له ذلك، وقيل: إن كان له مندوحة عنه فليس له ذلك، وإن لم يكن له مندوحة عنه فله ذلك”([8]). وقال أشهب([9]): “ما احتفره الرجل في ملكه مما يضر بجاره فليس له ذلك إن كان يجد من ذلك بدا، ولم يضطر إليه، فأما إن كان به إلى ذلك ضرورة، ولم يجد عنه مندوحة؛ فله أن يحفره في حقه وإن أضر بجاره؛ لأنه يضر به منعه، كما أضر بجاره حفره، فهو أولى أن يمنع جاره أن يضر به في منعه له من الحفر في حقه؛ لأنه ماله”([10]).
وقد ذكر ابن شاس([11]) أن البئر “ليس لها حريم محدود؛ لاختلاف الأرض بالرخاوة والصلابة، ولكن حريمها ما لا ضرر معه عليها، وهو مقدار ما لا يضر بمائها، ولا يضيق مناخ إبلها، ولا مرابض مواشيها عند الورد، ولأهل البئر منع من أراد أن يحفر أو يبني بئرا في ذلك الحريم”([12]).
وفي مذهب الإمام الشافعي: لكل واحد من الملاك أن يتصرف في ملكه على العادة في التصرف وإن تضرر به جاره…، فلو حفر فيه بالوعة أفسدت بئر ماء جاره، أو بئرا أنقصت ماءها لم يضمن، ما لم يكن قد خالف العادة في توسيع البئر، أو تقريبها من الجدار، أو لكون الأرض خوارة تنهار إذا لم تطو، فلو لم يطوها فيضمن في هذه كلها، ويمنع منها لتقصيره([13]).
وفي مذهب الإمام أحمد: من كانت له بئر فيها ماء، فحفر آخر بئرا بالقرب منها، فينسرق إليها ماء البئر الأولى، فليس له ذلك، سواء كان الذي حفر البئر الثانية في ملكه (كما هو الحال في رجلين متجاورين في دارين، حفر أحدهما بئرا في داره، ثم حفر الآخر بئرا أعمق منها، فسرى إليها ماء الأولى)، أو كانتا في أرض موات، فسبق أحدهما، فحفر فيها بئرا، ثم جاء الآخر، فحفر بالقرب منها بئرا تجتذب ماء الأولى.
والعلة في عدم الجواز: أن الجار أحدث ضررا لجاره؛ فلم يجز له ذلك، كما هو الحال في الدق الذي يهز حيطانه ويخربها، أو إلقاء التراب عليها مما يضر به، مما هو منهي عنه؛ عملا بقول رسول الله -ﷺ-: «لا ضرر، ولا ضرار»([14]).
ويتبين مما سبق أن لقضية التداخل بين الجارين في هذه المسألة ونحوها وجهين متلازمين:
الأول: حق المالك في التصرف في ملكه.
والوجه الثاني: عدم حق أحد في الإضرار بغيره.
الأمر الذي يقتضي “الموازنة” بين ما لهذا وذاك من حق، ومن ثم تغليب حق أحدهما على الآخر، وتعرف الموازنة من خلال طبيعة الإحداث، “فإذا كان إحداث الجار يسبب ضررا لجاره وجبت الحماية لهذا الأخير، ولو كان الأول يتصرف في ملكه؛ لأن تصرفه يجلب له مصلحة، وضرر جاره يجلب له مفسدة، “ودرء المفاسد أولى من جلب المنافع”([15])؛ لما يترتب على المفاسد من الأذى والتعدي على الحقوق، وهذا منهي عنه بعموم قول الله -تعالى-: {وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِين} [البقرة:190]، وقوله -تعالى-: {وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا} [الأعراف: 56]، كما أنه منهي عنه بعموم قول رسول الله -ﷺ-: «لا ضرر، ولاضرار»([16])، وقوله -عليه الصلاة والسلام-: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذِ جاره»([17]).
وينبني على هذا أنه إذا ثبت أن البئر المحدثة قد تسببت في جذب الماء من بئر الجار الآخر جاز لهذا طلب منع الإحداث لعلة الضرر، ويعرف السبب من خلال الخبرة الفنية في هذا الأمر.
وخلاصة المسألة: أن من المبادئ الشرعية عدم حق أحد في الإضرار بغيره، فإذا كان إحداث الجار يسبب ضررا لجاره وجب حماية هذا، ولو كان الأول يتصرف في ملكه؛ لأن تصرفه يجلب له مصلحة، وضرر جاره يجلب له مفسده، ودرء المفاسد أولى من جلب المنافع؛ لما يترتب على المفاسد من الأذى والتعدي على الحقوق مما هو منهي عنه بعموم كلام الله وسنة رسوله -ﷺ-.
فإذا ثبت أن البئر المحدثة من الجار قد تسببت في جذب الماء من بئر الجار الآخر جاز لهذا طلب منع الإحداث، ويعرف السبب في الضرر من خلال الخبرة الفنية في هذا الأمر. والله أعلم.
([1]) أخرجه البخاري (٢٤٤٢)، ومسلم (٢٥٨٠)، أخرجه الترمذي في كتاب البر والصلة، باب ما جاء في شفقة المسلم على المسلم، برقم (1927)، ج4 ص286-287، وأخرجه أبو داود في كتاب الأدب، باب المؤاخاة، برقم (4893)، ج4 ص273.
([2]) أخرجه ابن ماجة في كتاب الأحكام، باب من بنى في حقه ما يضر بجاره، برقم (2340)، ج2 ص784، صححه الألباني في السلسلة الصحيحة، (٢٥٠)..
([3]) أخرجه أبو داود في كتاب الأدب، باب من يأخذ الشيء على المزاح، برقم (5003)، ج4 ص301، وأخرجه الترمذي في كتاب الفتن، باب ما جاء لا يحل لمسلم أن يُروع مسلما، برقم (2160)، ج4 ص402، حسنه الألباني في صحيح الجامع، (٧٥٧٨).
([4]) أورده الدارمي في سننه، باب من كسر شيئا فعليه مثله، ج2ص264، صححه شعيب الأرنؤوط في تخريج سنن الدارقطني، (٤٣٠١).
([5]) حاشية رد المحتار على الدر المختار لابن عابدين ج5ص447-449، وشرح فتح القدير لابن الهمام ج7ص325-326، وجامع الفصولين لابن قاضي سماوة ج2ص267، ط1، والاختيار لتعليل المختار لابن مودود الموصلي ج3ص68.
([6]) عياض: هو عياض بن موسى بن عياض بن عمرون اليحصبي السبتي، أبو الفضل، ولد سنة 476هـ وتوفي 544هـ، عالم أهل المغرب، وإمام أهل الحديث في وقته، ولي قضاء سبتة ومولده فيها، ثم قضاء غرناطة. له تصانيف منها: (ترتيب المدارك وتقريب المسالك في معرفة أعلام مذهب الإمام مالك) و(شرح صحيح مسلم)، انظر: الأعلام للزركلي ج5ص99، وفيات الأعيان لابن خلكان ج3ص483.
([7]) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير للدردير ج4ص67، وانظر: الكواكب الدرية في فقه المالكية لمحمد جمعه عبدالله ج3ص309-310، وبلغة السالك لأقرب المسالك إلى مذهب الإمام مالك للصاوي على الشرح الصغير للدردير ج2ص294.
([8]) التلقين في الفقه المالكي للبغدادي ج1ص432.
([9]) أشهب: هو أشهب بن عبد العزيز بن داود القيسي العامري الجعدي، أبو عمرو، فقيه الديار المصرية في عصره. كان صاحب الإمام مالك. قال الإمام الشافعي-رضي الله عنه-: ما رأيت أفقه من أشهب لولا طيش فيه. كانت ولادته بمصر سنة 145هـ، وتوفي 204هـ، انظر: الأعلام للزركلي ج1ص333، ووفيات الأعيان لابن خلكان ج1ص238.
([10]) عقد الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة لابن شاس ج3ص12-13.
([11]) ابن شاس: عبد الله بن نجم بن شاس بن نزار الجذامي السعدي، أبو محمد، فقيه مالكي، من كبارهم. كان مدرسا بمصر، له (عقد الجواهر الثمينة في مذهب عالم أهل المدينة)، توفي سنة 616هـ، انظر: الأعلام للزركلي ج4ص142، ووفيات الأعيان لابن خلكان ج3ص61.
([12]) عقد الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة ج3 ص12-13، وانظر: التفريع لابن الجلاب ج2ص291، وأسهل المدارك شرح إرشاد السالك للكشناوي ج3ص54.
([13]) نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج للرملي ج5ص337-338، وانظر: المجموع شرح المهذب للنووي ج15ص219، ومغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج للشربيني الخطيب ج2ص364، وكفاية الأخيار في حل غاية الاختصار للحسيني ج1ص318.
([14]) المغني والشرح الكبير لابن قدامة ج6ص183، وانظر: كشاف القناع عن متن الإقناع للبهوتي ج3ص408-409، وفتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ج3ص16-17، ومطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى للرحيباني ج4ص188-189، والحديث أخرجه ابن ماجة في كتاب التجارات، باب من بنى في حقه ما يضر بجاره، برقم (2340)، ج2 ص784، صححه الألباني في السلسلة الصحيحة، (٢٥٠)..
([15]) درر الحكام شرح مجلة الأحكام لعلي حيدر ج1ص37.
([17]) أخرجه البخاري في كتاب الأدب، باب «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذِ جاره»، صحيح البخاري، ج7 ص78-79.