والجواب: أن الأصل الشرعي ألا يكتسب الإنسان إلا مالًا حلالًا منزهًا أولًا من حقوق الله، وعدم الاجتراء عليها؛ لما في ذلك من عصيان لأوامره وإتيان لنواهيه، فالامتناع عن أداء الزكاة مثلًا فيه جحود لحق الله فيما أمر به من أدائها لمستحقيها ممن عينهم، ووصفهم في كتابه العزيز في قوله-تعالى-: {إنَّمَا الصَّدَقَاتُ للْفُقَرَاء وَالْمَسَاكين وَالْعَاملينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَة قُلُوبُهُمْ وَفي الرّقَاب وَالْغَارمينَ وَفي سَبيل اللّه وَابْن السَّبيل فَريضَةً مّنَ اللّه وَاللّهُ عَليمٌ حَكيم} [التوبة: 60].
وأكل الربا فيه محاربة لله ورسوله، وليس شيءٌ أشدَّ معصيةً من أن يكون الآكل له موصوفًا بهذا الوصف في قول الله -تعالى-: {فَإن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بحَرْبٍ مّنَ اللّه وَرَسُوله وَإن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالكُمْ لَا تَظْلمُونَ وَلَا تُظْلَمُون} [البقرة: 279].
كما أن الأصل الشرعي أن يكون كسب الإنسان منزها ثانيًا من حقوق الآدميين، وعدم الاجتراء عليها بالغش أو الخيانة أو السرقة أو الغصب، أو أكلها بأي صورة من الصور المحرمة؛ لما في ذلك من عدم الانتهاء لنهي الله في قوله-تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُواْ لَا تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالْبَاطل إلَّا أَن تَكُونَ تجَارَةً عَن تَرَاضٍ مّنكُمْ وَلَا تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إنَّ اللّهَ كَانَ بكُمْ رَحيمًا} [النساء: 29].
أي: أن هذين الأصلين الشرعيين يقتضيان وجوبًا أن يكون مطعم الإنسان ومشربه وملبسه من حلال؛ طاعةً لأمر الله -تعالى-في قوله-عز وجل-: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ ممَّا في الأَرْض حَلَالًا طَيّبًا وَلَا تَتَّبعُواْ خُطُوَات الشَّيْطَان إنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبين} [البقرة: 168]، ومع أن هذه الآية نزلت -كما يقول ابن عباس -رضي الله عنهما- في قوم من ثقيف وغيرهم، حرموا على أنفسهم السوائب والوصائل والبحائر([1])، إلا أنها عامة في حكمها في وجوب الأكل من الحلال الخالي من حقوق الله وحقوق الآدميين، وقد أَتْبَعَ اللهُ الحكم بالأمر بالأكل من الحلال، والتأكيد عليه، بالنهي عن اتِّبَاعِ خطوات الشيطان، وقد فسر ذلك الإمام الرازي بقوله: “كأنه قيل لمن أبيح له الأكل على الوصف المذكور: احذر أن تتعداه إلى ما يدعوك إليه الشيطان، وزجر المكلف بهذا الكلام عن تخطي الحلال إلى الشبه، كما زجره عن تخطيه إلى الحرام؛ لأن الشيطان إنما يلقي إلى المرء ما يجري مجرى الشبه، فيزين بذلك ما لا يحل له، فزجر الله -تعالى-عن ذلك، ثم بين العلة في هذا التحذير، وهو كونه عدوًّا مبينًا متظاهرًا بالعداوة”([2]).
قلت: وهذه مقدمة موجزة للإجابة عن السؤال عن مسألة الحلال وشبه الحرام، خاصة في هذا الزمان الذي تعددت فيه وسائل جمع المال، وما يصاحب هذه الوسائل من مداخلات وشُبه كثيرة، يقف منها المتبصر موقف الحائر، خاصة عندما يشهد الشره والتدافع على جمع المال دون مراعاة للأسس الشرعية، وربما كان هذا هو ما شعر به الابن محل المسألة حين أنكر على أبيه ما كان يفعله، ثم توقف عن أخذ نصيبه من تركته، وقد تطرق الفقهاء لهذه المسألة، ففرقوا بين ما إذا كان المال المحرم قائمًا بعينه، وبين ما إذا كان هذا المال مختلطًا ومجتمعًا مـن الحرام.
ففـي المذهب الحنفي: “إذا علم الوارث أن كسب مورثه حرام يحل له، ولكن إذا علم المالك بعينه فلا شك في حرمته، ووجوب رده عليه”([3]).
فمثلًا: لو مات رجل، ويعلم وارثه أن أباه كان يكسب ماله من حيث لا يحل له، ولكنه لا يعلم الطالب بعينه؛ لكي يرد عليه، حَلَّ له الإرث، ولكن الأفضل أن يتورع، ويتصدق بنية خصماء أبيه، كما أنه لا يحل له إذا علم “عين الغصب”، وإن لم يعلم المالك([4]).
وفي مذهب الإمام مالك: لا يرث الورثة المال الحرام، ولا تجوز فيه وصايا المورث؛ لأن التباعات هي أحق بماله من ورثته ومن أهل وصاياه؛ لكونها ديونًا عليه، ولا ميراث لأحد إلا بعد أداء الدين؛ عملًا بقول الله -عز وجل-: {من بَعْد وَصيَّةٍ يُوصي بهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 11]، “فإن جهل الوارث أهل التباعات، ويئس من معرفتهم، تصدق بالمال عنهم، فإن كان الورثة فقراء ساغ لهم أن يأخذوه على سبيل الصدقة عن أهل التباعات، لا على سبيل الميراث عن مورثهم”([5]).
وفي مذهب الإمام الشافعي: من ورث مالًا، ولم يعلم من أين اكتسبه مورثه؟ أمن حلال أم من حرام؟، ولم يكن هناك علامة، فهو حلال باتفاق العلماء، أما إن علم أن فيه حرامًا، وشك في قدره، أخرج مقدار الحرام بعد التحري عنه، فإن لم يعلم ذلك، ولكن علم أن مورثه كان يتولى أعمالًا فيها شبهة، يحتمل أنه لم يكن يأخذ عن عمله شيئًا، أو أنه قد أخذ، ولكن لم يبق لديه منها شيء؛ لطول المدة، فهذه شبهة يحسن التورع عنها، ولا يجب، أما إن علم أن بعض ماله كان من الظلم، فيلزمه إخراج ذلك القدر بالاجتهاد.
وإخراج الحرام أو مقدار ما يخرج منه يكون على أحوال ثلاثة:
الحالة الأولى: أن يكون للمال مالك معين، فهذا يجب الصرف إليه أو إلى وارثه، وإن كان غائبًا فينتظر حضوره، أو الإيصال إليه، وإن كانت للمال زيادة ومنفعة فتجمع إلى وقت حضوره.
الحالة الثانية: أن يكون المال لمالك غير معين، وقع اليأس من الوقوف عليه، ولا يعرف أنه مات عن وارث أم لا؟، فهذا يوقف حتى يتبين الأمر فيه، وقد يصعب رده؛ لكثرة ملاكه، كالغلول من الغنيمة، فهذا يتصدق به عنهم.
الحالة الثالثة: أن يكون المال من الأموال المرصدة لمصالح المسلمين، فهذا يصرف للمساجد وغيرها من مصالحهم، كالقناطر والطرقات([6]).
وفي مذهب الإمام أحمد: إذا اختلط المال الحلال بالحرام فيخرج قدر الحرام بالميزان، فيدفعه إلى صاحبه، وقدر الحلال له، فإن لم يعرفه، وتعذرت معرفته، تصدق به عنه([7]).
وينبني على هذا أن الوارث إذا كان يعرف أن مال مورثه قد اختلط الحلال فيه بالحرام وجب عليه إخراج قدر ما يعرفه من الحرام فيه، ورده إلى صاحبه أو أصحابه، فإن لم يعرفهم تصدق به عنهم.
أما إن كان المال كله حرامًا فلا يجوز للوارث أخذه؛ استدلالًا بما روي أن أبا طلحة سأل رسول الله -ﷺ-عن أيتام ورثوا خمرًا، فقال له -عليه الصلاة والسلام-: (أهرقها)، فقال أبو طلحة: أفلا أجعلها خَلًّا؟، فقال -عليه الصلاة والسلام-: (لا)([8])،([9])، فدل هذا على أن المال إذا كان من أصل حرام لم يحل للوارث أخذه.
وينبني على ما سبق أن الابن في المسألة إذا كان يعلم أن أباه قد اكتسب مالًا من حرام، وكان الابن يعرف هذا المال بعينه، فيجب عليه وعلى الورثة الآخرين رده إلى صاحبه أو أصحابه.
فإن كان المال الحرام غير معروف بذاته؛ لاختلاطه بغيره من أموال حلال، فيجب التحري عن القدر الحرام منه، ورده إلى صاحبه أو أصحابه إن كانوا معروفين، أو إلى ورثتهم، فإن لم يعرفوا فيتصدق به عنهم، وهذا إذا كان المال غير محرم في ذاته، فإن كان من خمر أو مخدرات أو نحوهما مما هو محرم أصلًا فيجب إتلافه.
وخلاصة المسألة: أن الأصل الشرعي ألا يكتسب الإنسان إلا مالًا حلالًا خاليًا من حقوق الله وحقوق الآدميين، وهذا الأصل يقتضي أن يكون مطعم الإنسان ومشربه وملبسه من حلال، وكما يجب على المكلف أن يطعم أولاده من حلال، ويجب عليه ألا يورثهم إلا من حلال، فإذا كان الابن المشار إليه في المسألة يعلم أن أباه قد اكتسب مالًا من حرام، وكان يعرف هذا المال بعينه، فيجب عليه رده إلى صاحبه، فإن كان المال الحرام غير معين بذاته فيجب رده إلى صاحبه، أو إلى ورثته، فإن لم يعرفوا فيتصدق به عنهم.
فإن كان المال محرمًا في ذاته كالخمر أو المخدرات، أو نحو ذلك مما هو محرم أصلًا فيجب إتلافه.
والله أعلم.
([1]) تفسير الفخر الرازي للإمام الرازي ج5ص2.
([2]) تفسير الفخر الرازي ج5 ص2 – 5.
([3]) حاشية رد المحتار على الدر المختار لابن عابدين، ج5 ص99.
([4]) حاشية رد المحتار على الدر المختار لابن عابدين، ج5 ص99.
([5]) فتاوى ابن رشد لأبي الوليد محمد بن أحمد بن رشد، ج1ص642-643، وانظر: المعيار المعرب والجامع المغرب للونشريسي، ج6 ص147.
([6]) إحياء علوم الدين للغزالي ج2ص120-121.
([7]) فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية ج29 ص308.
([8]) أخرجه أبو داود في كتاب الأشربة، باب ما جاء في الخمر تخلل، برقم (3675)، ج3 ص326، صححه الألباني في صحيح أبي داود، (٣٦٧٥).