والجواب عن هذا: أنه إذا ثبت عدم صدق صاحب المحل فيما ذكره فيُعَدُّ فعله هذا من باب الغش، حيث أسبغ على السيارة صفة السوم، بينما لم تكن كذلك؛ مما جعل المشتري يرغب في شرائها مستدلًّا بمعرفة من قيل: إنه سبق أن سامها.
والغش من الأمور المحرمة؛ لما فيه من فساد التعامل بين الناس، وإشاعة البغضاء بينهم؛ مما يفضي إلى الفساد في الأرض، ولهذا قال فيه رسول الله -ﷺ-: (من غَشَّ فليس منا)([1]).
كما يعد فعل صاحب المحل من باب “خيانة الأمانة”، فقد ائتمنه المشتري حين سأله عن قيمة السيارة، فأجابه إجابة كاذبة؛ حيث كان من المفترض فيه شرعًا عدم خيانة السائل في سؤاله، واستجابة لقول الله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُواْ لَا تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُون} [الأنفال: 27]، واستجابة لقول رسول الله -ﷺ-: (أَدِّ الأمانة إلى من ائتمنك)([2])، كما كان من المفترض فيه شرعًا عدم الكذب؛ لكي لا يكون في عداد المنافقين الذين وصفهم رسول الله -ﷺ- بقوله: (آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان)([3])، وقد تعرض الفقهاء لهذه المسألة في “بيع المرابحة”([4]).
ففي مذهب الإمام أبي حنيفة: قد تظهر الخيانة في “صفة الثمن في المرابحة”، كما لو اشترى شيئًا نسيئةً، ثم باعه مرابحة على الثمن الأول، ولم يبين أنه اشتراه نسيئة، ثم علم المشتري، فله الخيار بالإجماع، إن شاء أخذه، وإن شاء رده؛ لأن المرابحة عقد بُنِي على الأمانة، فاعتمد المشتري على البائع، وائتمنه في الخبر عن الثمن الأول، فكانت الأمانة مطلوبة في هذا العقد، “فكانت صيانته عن الخيانة مشروطةً دلالةً، ففواتها يوجب الخيار، كفوات السلامة عن العيب”([5]).
وقد تظهر الخيانة في “قدر الثمن في المرابحة”، كما لو قال: اشتريت بعشرة، وبعتك بربح (كذا)، ثم تبين أنه اشتراه بتسعة، فعند الإمام أبي حنيفة يحق للمشتري الخيار، إن شاء أخذه بجميع الثمن، وإن شاء يترك. وعند أبي يوسف لا خيار له، ولكن يحط من الثمن قدر الخيانة([6]).
وجاء في مجلة الأحكام العدلية ما يأتي: “إذا ظهر في المرابحة خيانة البائع فالمشتري مخير، إن شاء ترك المبيع؛ لأن رضاء المشتري قد زال، وإن شاء قبِلهُ بجميع الثمن المسمى، ويقال لهذا: “خيار الخيانة”، والخيانة تكون أولًا في مقدار رأس المال، كأن يضم البائع إلى رأس المال مصرفًا لا يجوز ضمه إليه، أو أن يبين مثلًا ما لم يكلفه تسعة ريالات، فيبيعه مرابحة باثني عشر ريالاً، ثم يتحقق بعد ذلك أنه كلفه ثمانية ريالات فقط، فللمشتري إن شاء ترك المبيع، وإن شاء قبله بكل الثمن المسمى”([7]).
وفي مذهب الإمام مالك: إذا وقعت المرابحة محتوية على الكذب-سواءٌ أكان بالزيادة في الثمن، أم بالغش، أم بكتمان العيب -فهي شبيهة بالبيع الفاسد.
وقد سئل الإمام مالك عمن اشترى سلعة بالمرابحة، ثم تبين أن البائع زاد عليه، أو كذب، فقال: إن كان لم يتلفها فللمشتري الخيار، إن شاء أخذها بجميع الثمن، وإن شاء تركها..([8]).
“فإن فاتت السلعة قُوِّمَتْ، فإن كانت قيمتُها أقلَّ من رأس المال ومن الربح لم ينقص من ذلك، وإن كانت قيمتها أكثر مما ابتاعها به المبتاع وربحه لم يزد على ذلك؛ لأنه قد رضي بذلك أولاً”.
وفي المذهب: أن الخيار للمشتري ليس مطلقًا، فإذا كذب البائع في الإخبار بالثمن بزيادة، بأن قال: خمسون -وهو أربعون- لزم البيعُ المشتريَ إن حطه، أي: أسقط البائع الكذب أي: القدر الذي زاده، وهو عشرة، فإن لم يحطَّه يخير بين التمسك والرد([9]).
وفي مذهب الإمام الشافعي: إذا قال البائع: اشتريت هذا الشيء بمائة، وأبيعه مرابحة، فبان أنه اشتراه بتسعين ببينة أو إقرار، فالأظهر أنه يحط الزيادةَ وربحَها؛ لأنه تمليك باعتبار الثمن الأول، ولا خيار للمشتري؛ لأنه رضي بالأكثر، فرضاه بالأقل أولى، كما أنه لاخيار للبائع؛ لتدليسه. وفي قول آخر: يثبت الخيار؛ لأنه قد يكون للمشتري غرض في الشراء بذلك المبلغ..”([10]).
وفي مذهب الإمام أحمد: من باع شيئًا بيع مرابحة، فعلم المشتري أن البائع زاد في رأس ماله؛ رجع عليه بالزيادة، وحطها من الربح، وللمشتري الخيار بين أخذ المبيع برأس ماله وحصته من الربح، وبين تركه؛ لأن المشتري لا يأمن الخيانة في هذا الثمن، ولأنه ربما كان له غرض في هذا الشراء بذلك الثمن بعينه. وفي قول آخر في المذهب: لا خيار له([11]).
وقياسًا على ما سبق من أقوال الفقهاء في مسألة الخيانة في المرابحة يعد البائع في المسألة قد خان أمانته؛ لأنه لم يصدق في جوابه عن سؤال المشتري، فلهذا حق له الخيار في إمساك السيارة أوردها.
وفي حال إمساكها ينبغي النظر في قيمتها الحقيقية وقت الشراء، فإن كانت هذه القيمة أقلَّ من القيمة المسماة في العقد (أي: المبلغ الذي دفعه المشتري زيادة على قول البائع)، فللمشتري الحق في الحط من هذه القيمة بقدر الخيانة.
فإن اختار رد السيارة رغم الحط من قيمتها فله ذلك؛ نظرًا لخيانة البائع له، وفي هذه الحالة يجب عليه دفع أجرة المثل عن المدة التي استعمل السيارة فيها.
وخلاصة المسألة: أنه إذا ثبت عدم صدق صاحب المحل فيما ذكره عن سوم السيارة، فيعد فعله هذا من باب “خيانة الأمانة”؛ لأنه لم يصدق في جوابه عن سؤال المشتري، فحق لهذا الخيار في إمساك السيارة، أو ردها، وفي حال إمساكها ينبغي النظر في قيمتها الحقيقية وقت الشراء، فإن كانت هذه القيمة أقل من القيمة المسماة في العقد، فللمشتري الحق في الحط من هذه القيمة بقدر الخيانة، فإن اختار رد السيارة رغم الحط من قيمتها فله ذلك؛ نظرًا لخيانة البائع له، وفي هذه الحالة يجب عليه دفع أجرة المثل عن المدة التي استعمل السيارة فيها.
والله أعلم.
([1]) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان برقم (164)، وأخرجه ابن ماجة في كتاب التجارات، باب النهي عن الغش برقم (2224)، وأخرجه الترمذي في كتاب البيوع، باب ما جاء في كراهية الغش في البيوع، برقم (1315)، سنن الترمذي ج3 ص 606.
([2]) أخرجه الحاكم في المستدرك ج2 ص 11-12، وأخرجه الدارمي في سننه ج2 ص264، صححه الألباني في إرواء الغليل، (١٥٤٤).
([3]) متفق عليه، أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب علامة المنافق، برقم (33، 34)، فتح الباري ج1 ص111.
([4]) المرابحة: أن يبيع بربح، فيقول: رأس مالي في هذا الشيء مائة، وأبيعك إياه بربح عشرة أو خمسة عشر.
([5]) كتاب بدائع الصنائع للكاساني ج5 ص225-226، وانظر: شرح فتح القدير لابن الهمام ج6ص500-501، وشرح العناية على الهداية للبابرتي ج6ص500، والهداية شرح بداية المبتدى للمرغيناني ج6ص500.
([6]) بدائع الصنائع ج5 ص225-226، والاختيار لتعليل المختار، لمودود الموصلي ج2ص29، واللباب في شرح الكتاب للغنيمي ج2ص34.
([7]) درر الحكام شرح مجلة الأحكام العدلية لعلي حيدر، الكتاب الأول، البيوع ص321-322.
([8]) المدونة الكبرى رواية الإمام سحنون ج3 ص250-251، وانظر: حاشية الدسوقي على الشرح الكبير للدسوقي على شرح الدردير ج3 ص168-170، ومواهب الجليل للحطاب ج4 ص491.
([9]) شرح منح الجليل على مختصر خليل لعليش ج5 ص279-280، وشرح الزرقاني على مختصر خليل ج5 ص181، وبلغة السالك لأقرب المسالك للصاوي على الشرح الصغير للدردير ج2 ص80-81، وأسهل المدارك شرح إرشاد السالك للكشناوي ج2 ص283-284.
([10]) نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج للرملي ج4ص116-117، وانظر: المجموع شرح المهذب للنووي ج13ص111-113، والأم للإمام الشافعي ج3ص93، ومغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج للشربيني الخطيب على متن المنهاج للنووي ج2ص79، وفتح الوهاب بشرح منهج الطلاب للأنصاري ج2ص179.
([11]) المغني والشرح والكبير لابن قدامة ج4ص259-260، وانظر: كشاف القناع عن متن الإقناع للبهوتي ج3ص231-232، ومطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى للرحيباني ج3ص128-129، والمبدع في شرح المقنع لابن مفلح ج4ص104.