والجواب: أن عمل العامل بالنسبة لمدة العمل محكوم بمسألتين:
المسألة الأولى: أن تكون هذه المدة معينة أصلًا في العقد، وهذا فيما يتعلق بالأجير الخاص، كالعامل في متجر التاجر، أو الموظف في الإدارة أو المؤسسة، أو الخادم في المنزل، ومن على شاكلتهم، ويسميه الفقهاء (أجير الواحد)، خلافًا لـ(الأجير المشترك) الذي يقوم بالعمل لأكثر من واحد.
وينبغي تعيين المدة على ما يمكن عقلًا أو عرفًا أو تنظيمًا، فلا تعين المدة بمدة الحياة، أو بحدوث الشيخوخة أو المرض، أو نحو ذلك مما لا يتفق مع حق الإنسان في التصرف، ولكن تحدد
بسنوات معينة، كما هو الحال في تحديد سنوات عمل الموظف أو العامل إذا بلغ عمره ستين أو سبعين سنة، أو نحو ذلك، مع حقه في الاستقالة من العمل متى شاء؛ وفق ما هو منظم ومعروف في هذه الأحوال.
وعند الفقهاء أن بيان المدة شرط في صحة الإجارة:
ففي مذهب الإمام أبي حنيفة: أن من استأجر إنسانًا ليبيع له، ويشتري، ولم يبين المدة، لم يجز؛ وذلك لجهالة قدر منفعة البيع والشراء، ولو بَيَّنَ المدة، بأن استأجره شهرًا ليبيع له، ويشتري جاز؛ لأن قدر المنفعة صار معلومًا([1])، المهم أن تكون المدة معلومة ولو طالت إذا كانت بحيث يعيش إليها المتعاقدان؛ لأن الحاجة التي جوزت الإجارة لها قد تمس إلى ذلك، وأما إن كانت بحيث لا يعيش إليها أحد العاقدين فقد منعه البعض؛ “لأن الظن في ذلك عدم البقاء إلى تلك المدة، والظن مثل التيقن في حق الأحكام، فصارت الإجارة مؤبدةً معنًى، والتأبيد يبطلها”، وقد جوزه البعض الآخر؛ لأن العبرة بصيغة المتعاقدين، واقتضائه التوقيت، ولا اعتبار لموتهما أو أحدهما قبل انتهاء المدة([2]).
وفي مذهب الإمام مالك: أنه -رحمه الله -سُئِلَ عمن استأجر أجيرًا لمدة خمس عشرة سنة، فقال: “هذا كثير لا يصلح، ولكن لا بأس أن يستأجر عامًا، وينقده إجارته”([3]).
وفي مذهب الإمام أحمد: يشترط أن تكون المدة في عقد الإجارة معلومة، فإذا استُؤجِرَ الأجير الخاص لخدمة أو عمل فيستحق المستأجر نفعه في جميع المدة المقدر نفعه بها، باستثناء زمن الصلوات في أوقاتها بسننها المؤكدات كما سنرى([4]).
المسألة الثانية: أن تكون ساعات العمل محددة، ومعلومية المدة في العقد تقتضي تحديد ساعات العمل، فليس من المعقول أن يعمل العامل كل الوقت، فواجبه في أداء العبادة يقتضي تفرغه لها في وقتها المعلوم، وفي ذلك قال الله -تعالى-: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا} [النساء: 103] أي: مفروضًا في الأوقات، وهذا الفرض عامٌّ، لا يتعلق بوقته حق لأحد سوى حق الله، وهذا الحق أولى وأعظم وآكد من أي حق سواه، فلهذا لا يحق لرب العمل منع العامل من الصلوات المفروضة في المساجد، وكذلك صلاة العيدين، وعلى رب العمل عدم إنقاص أجره، ولا عبرة في ذلك لما يتفقان عليه، فلو اتفقا على أن يعمل العامل في زمن الصلوات، أو يؤخرها عن وقتها، فالشرط باطل، والعقد صحيح([5]).
وواجب العامل في عدم إجهاد نفسه يقتضي منه راحتها، وعدم تكليفها ما لا تطيق؛ لتعلق ذلك بصحته، وما تقتضيه من وجوب الحفظ والعناية؛ امتثالًا لقول الله -تعالى-: {لَا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، وواجب العامل ومسؤوليته عن أسرته يقتضيان منه تخصيص جزء من وقته لرعايتها، والقيام عليها؛ امتثالًا لقول رسول الله -ﷺ-: (كلكم راعٍ، وكلكم مسؤول عن رعيته….، الرجل راعٍ على أهل بيته، وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية على أهل بيت زوجها…)([6]).
وهكذا في كل أمر يكون فيه العامل مسؤولًا عنه شرعًا أو عقلًا.
ويتم تحديد ساعات العمل بوسيلتين: إما قواعد مكتوبة تبين عدد هذه الساعات، وابتداءَها وانتهاءَها كما هو الحال اليوم في أنظمة العمل، وإما العرف السائد في مكان العمل.
وقد ورد في مجلة الأحكام العدلية أنه “لو استأجر أحدٌ أجيرًا على أن يعمل يومًا، يعمل من طلوع الشمس إلى العصر أو الغروب على وفق عرف البلدة في خصوص العمل”([7]).
ويتبع عرف البلدة فيما لو لم يعين العاقدان وقت ابتداء العمل وانتهائه، فإن اتفقا على العمل في اليوم الفلاني من الظهر إلى العصر لزم العمل بموجب ذلك، ولا يتبع فيه عرف البلدة وعادتها([8]).
وخلاصة ما سبق: أن عقد العمل يجب أن يتضمن بيان المدة التي يراد أن يعمل فيها العامل، كيوم أو شهر أو سنة أو سنوات أو نحو ذلك، وإلا عد في العقد جهالة، كما يجب أن يتضمن بيان ساعات العمل في اليوم ابتداءً وانتهاءً، وتتبع في ذلك القواعد والنظم التي تبين ذلك عادة، أو وفقًا للعرف السائد في مكان العمل، وعلى هذا فإن عدم تمكين العامل من الراحة يُعدُ ظلمًا له، ولا عبرة في ذلك برضائه أو مساعدة رب العمل له.
والله أعلم.
([1]) بدائع الصنائع للإمام الكاساني ج4 ص184.
([2]) انظر: شرح العناية على الهداية للإمام البابرتي مع نتائج الأفكار لقاضي زاده، ج9ص63-64، وشرح فتح القدير لابن الهمام ج9ص63.
([3]) مواهب الجليل لشرح مختصر خليل للحطاب ج5 ص409-410، وشرح منح الجليل لعليش ج7 ص461-464.
([4]) كشاف القناع عن متن الإقناع للإمام البهوتي ج4 ص5-6، والمغنى والشرح الكبير ج6ص8-9، وشرح منتهى الإرادات ج3 ص 363-364، ومجلة الأحكام الشرعية لأحمد بن عبد الله القاري، ص233.
([5]) انظر: حاشية رد المحتار على الدر المختار لابن عابدين ج6ص 70، ط2، ونهاية المحتاج إلى شرح المنهاج للرملي ج5 ص 282، وقليوبي وعميرة على منهاج الطالبين، ج3، ص74، والموسوعة الفقهية ج1 ص289.
([6]) أخرجه البخاري في كتاب الأحكام، باب قول الله -تعالى-: ﴿أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم﴾، برقم (7138)، فتح الباري ج13 ص 119.
([7]) انظر درر الحكام شرح مجلة الأحكام لعلي حيدر، تعريب فهمي الحسيني ج4، ص482.