والسؤال هو عما إذا كان حكم القاضي يُحل له ما يعتقد أنه ليس من حقه.
والجواب عن هذا: أن الحقوق ملك لأصحابها وفقا للأسباب المشروعة التي نالوها بها، ومن تعدى على هذه الحقوق فقد ظلم أصحابها، والظلم أمر حرمه الله على نفسه، فقال في محكم كتابه العزيز: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [النساء:40]، وقال -تعالى-: {وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:49]، وإذا كان هذا في حق الله فهو في حق عباده آكد وأوجب، وفي الحديث القدسي: «يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرما، فلا تظالموا»([1]).
وما دام صاحب الحق يختص به عقلا وشرعا فإن هذا الاختصاص يظل قائما، ما لم يتنازل عنه بفعل من الأفعال المباحة كالبيع أو الهبة، أو التصدق، أو نحو ذلك.
وينبني على هذا أن قضاء القاضي لا يُحل حراما، ولا يُحرمُ حلالا، وإنما يحاول معرفة صاحب الحق عندما يحتكم إليه الخصوم، وهو في هذه المحاولة قد يصيب فيحكم لأحدهم بحقه، وقد يخطئ فيحكم لذلك بغير حقه، فإن أصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر واحد، ويَحكم هذا سلامةُ قصدِه، وما يتبين له من وقائع القضايا وملابساتها، وفي ذلك روي عن رسول الله -ﷺ- أنه قال: «إنكم تختصمون إليَّ، ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض، فمن قضيت له بحق أخيه شيئا بقوله، فإنما أقطع له قطعة من النار فلا يأخذها»([2]).
وفي المسألة صدر حكم قضائي لصالح أحد الخصمين، ولكنه يعرف أن هذا الحكم يعطيه حقا لا يستحقه، ولما كان هو أعرف بمداخلاته، وعلاقاته مع خصمه، فلا يحل له ديانة ما حكم له به قضاء.
وفي المذهب الحنفي خلاف في هذه المسألة: حول نفاذ الحكم ظاهرا وباطنا (أو قضاء وديانة)، فالإمام أبو حنيفة يرى أن الحكم ينفذ باطنا عندما يجري في الأمور القابلة للإنشاء بسبب كالبيع والإجارة والنكاح، ولكنه لا ينفذ باطنا (أي لا يحل) في الأمور غير القابلة للإنشاء كالإرث والنسب.
فلو ادعى أحد على آخر بأنه قد اشترى منه فرسا بقيمته الحقيقية -عشرة دنانير مثلا-، وأنكر المدعى عليه البيع، فأثبت المدعي دعواه بشهود زور، وحكم له القاضي بالفرس، فأخذه، ودفع عشرة الدنانير وكانت هي القيمة الحقيقية للفرس؛ حلت للمدعي، ولو ادعى رجل على امرأة أنها زوجته، وأثبت دعواه بشهود زور، وحكم له القاضي بزوجته منها، حل له الاستمتاع بها، كما حل لها تمكينه من نفسها.
وعند الأئمة: أبي يوسف ومحمد، وزفر، والأئمة الثلاثة -كما سنرى- ينفذون الأحكام التي تقع بناء على شهادات شهود زور ظاهرا (قضاء)، إلا أنها لا تنفذ باطنا (ديانة)، وهذا ما عليه الفتوى في المذهب الحنفي.
وينبني عليه أنه لا يحل ديانة للمدعي شراءَ الفرسِ أخذُها، ولا يحل ديانة للمدعي الزواج من المرأة، والاستمتاع بها، كما لا يحل لها تمكينه من نفسها؛ لأن شهادة الزور، وإن كانت حجة ظاهرا إلا أنها ليست حجة باطنا، والقضاء والحكم ينفذ بقدر مقدار الحجة…، أي: أن القضاء والحكم مظهر، ولم يكن مثبتا لأن المحكوم به كان قبل القضاء ثابتا، وإنما أظهره الحكم فقط([3]).
وفي مذهب الإمام مالك: حكم الحاكم لا يحل حراما، ولا يحرم حلالا على من علمه في باطن الأمر؛ لأن القاضي يحكم بما ظهر له، ولا ينقل الباطل عند من علمه عما هو عليه من تحليل أو تحريم([4]).
والقضاء وإن لم ينقض لا يتغير به الحكم في الباطن، بل هو على المكلف على ما كان قبل القضاء، وينبني على هذا أنه “لا يحل لمن أقام شهود زور على نكاح امرأة، فحكم له القاضي -لاعتقاده عدالتهم- بنكاحها، وإباحة وطئها، أن يطأها ولا أن يبقى على نكاحها”([5]).
وفي مذهب الإمام الشافعي: الحكم الذي يستفيده القاضي بالولاية فيما باطن الأمر فيه يخالف ظاهره، ينفذ في الظاهر، ولا ينفذ في الباطن، فإذا حكم القاضي بشهادة كاذبين، وكان ظاهرهما العدالة، فإن ذلك لا يفيد الحل فيما حكم فيه؛ بدليل ما روي عن رسول الله -ﷺ-: «لعل بعضكم ألحن بحجته من بعض، فأقضي له بنحو ما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه بشيء فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار»([6]).
وفي مذهب الإمام أحمد: حكم الحاكم لا يزيل الشيء عن صفته؛ للحديث السابق؛ لأنه حكم بشهادة زور، هذه الشهادة لا تحل له ما هو محرم عليه، فمن حكم له ببينة زور بزوجية امرأة فإنه لا تحل له باطنا، ويلزمها حكمه في الظاهر؛ لعدم ما يدفعه، وعليها أن تمتنع منه إذا قدرت، فإن أكرهها فالإثم عليه وحده، ولا شيء عليها؛ لأنها مكرهة([7]).
وعند الإمام ابن حزم: حكم القاضي لا يحل ما كان حراما، ولا يحرم ما كان حلالا قبل قضائه، إنما هو منفذ على الممتنع فقط، لا مزية له سوى هذا.
وقد انتقد أبو محمد رأي الإمام أبي حنيفة في مسألة شهادة الزور، واعتبر أن ذلك من الطوامِّ، وبعد أن ذكر قول رسول الله -ﷺ-: «إنكم تختصمون إليَّ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض..»، قال أبو محمد: “إذا كان حكمه -عليه الصلاة والسلام- وقضاؤه لا يحل لأحد ما كان عليه حراما فكيف القول في قضاء أحد بعده”([8]).
وخلاصة ما سبق: أن الحقوق ملك لأصحابها وفقا للأسباب المشروعة التي نالوها بها، ومن تعدى على هذه الحقوق بأي وسيلة غير مشروعة فقد ظلم أصحابها، والاختصاص بالحق يظل قائما ما لم يتنازل عنه صاحبه بفعل من الأفعال المباحة كالبيع أو الهبة أو الصدقة.
وإذا صدر حكم قضائي لصالح أحد من الخصوم -وهو يعرف أنه لا يستحق ما حكم له به، كما لو كان هذا الحكم مبنيا على شهادة زور، فإن هذا الحكم لا يحل له أخذ حق غيره بدون رضاه، وجمهور العلماء -خلافا للإمام أبي حنيفة- على أن هذا الحكم ينفذ قضاء، ولا ينفذ ديانة؛ لأن القاضي يحكم بما يظهر له.
ومن أخذ غير حقه بقي عليه إثمه بدليل قول رسول الله -ﷺ-: «إنكم تختصمون إليَّ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، وإنما أنا بشر، فمن قضيت له من مال أخيه شيئا بغير حق فإنما أقطع له قطعة من النار»([9]).
وينبني على هذا أنه لا يحل للخصم في المسألة أن يأخذ مال شريكه بدون رضاه، وسيظل هذا الحق معلقا بذمته ما لم يرده إليه أو يستسمحه، فيعفو عنه، وحكم القاضي له لا يفيده بشيء من ناحية الديانة. والله أعلم.
([1]) أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم، صحيح مسلم بشرح النووي، ج16 ص131-132.
([2]) متفق عليه، أخرجه البخاري في كتاب الشهادات، باب من أقام البينة بعد اليمين، برقم (2680)، فتح الباري، ج5 ص340، وأخرجه مسلم في كتاب الأقضية، باب وجوب الحكم بشاهد ويمين، صحيح مسلم بشرح النووي، ج12 ص4-5.
([3]) انظر في هذا: درر الحكام شرح مجلة الأحكام لعلي حيدر، ج4 ص520، 604-607، وبدائع الصنائع في ترتيب الشرائع للكاساني، ج7 ص15-16، وحاشية رد المحتار على الدر المختار لابن عابدين، ج5 ص405-406، وفتح القدير لابن الهمام، ج7 ص306-307، والهداية شرح بداية المبتدي للمرغيناني هامش فتح القدير، ج7 ص306-307، وشرح العناية على الهداية للبابرتي، ج7 ص306-307.
([4]) انظر: التاج والإكليل لمختصر خليل للمواق هامش مواهب الجليل للحطاب، ج6 ص138-139.
([5]) عقد الجواهر الثمينة لابن شاس، ج3 ص118، وانظر: شرح منح الجليل للشيخ عليش، ج8 ص353-356، وأوجز المسالك على موطأ الإمام مالك للكاندهلوي، ج12، ص93-94.
([6]) الحديث: أخرجه البخاري، (٧١٦٩)، أخرجه مسلم (١٧١٣) باختلاف يسير، وينظر: نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج للرملي، ج8 ص258-259، وانظر: المجموع شرح المهذب للنووي، ج20 ص151، ومغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج للشربيني، ج4 ص397، ومتن المنهاج للنووي، ج4 ص397، هامش مغني المحتاج.
([7]) انظر: المغني والشرح الكبير لابن قدامة، ج11، ص407-409، وكشاف القناع عن متن الإقناع للبهوتي، ج6 ص358، وشرح منتهى الإرادات للبهوتي، ج3 ص500-501، ومطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى للرحيباني، ج6 ص533-534، وكتاب الفروع لابن مفلح، ج6 ص490-492.
([8]) المحلى بالآثار لابن حزم، ج8 ص516.
([9]) الحديث: أخرجه البخاري، (٧١٦٩)، أخرجه مسلم (١٧١٣) باختلاف يسير.