ومفاد المسألة أن سائق سيارة كان يقود سيارته في خفة وطيش بالغين، متجاوزا بذلك حدود السرعة المقررة بموجب الأنظمة، وبينما هو على تلك الحال انحرفت السيارة إلى جانب الطريق؛ مما أدى إلى قتل شخص كان يمر فيه، فهل يكفي – كما يقول السؤال – لعقاب هذا السائق مجرد دفعه الدية أو التعويض، أو أن هناك عقابا آخر يمكن تطبيقه عليه؟.

حكم السائق الذي تجاوز السرعة المحددة مما أدى إلى قتل شخص

والجواب من حيث العموم: أن المكلف ملزم بضبط سلوكه، وتقدير نتائج فعله وتصرفه؛ حتى لا يحدث لغيره ضررا؛ لأن كل فعل ترتب عليه ضرر لغيره يعد مسؤولا عنه من وجهين:

الأول: الديانة: وهذا يعني أن من آذى غيره بقول أو فعل دون سبب -سواء كان الفاعل مباشرا أم متسببا-، فقـد احتمل إثما، واكتسب خطيئة؛ عملا بقول الله -تعالى-: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا} [الأحزاب:58]، ويدخل تحت هذا الحكم أفعال كثيرة كالغيبة، والنميمة، وشهادة الزور، والإفك، وقد سأل رسول الله -ﷺ- أصحابه فيما روته عائشة -رضي الله عنها-: «أَيُّ الربا أَرْبَى عند الله»؟. فقالوا: الله ورسوله أعلم. فقال -عليه الصلاة والسلام-: «إن أربى الربا عند الله استحلال عرض امرئ مسلم» ثم قرأ الآية([1]).

الوجه الثاني: القضاء: فكل من آذى غيره بقول أو فعل دون سبب، وسواء كان الفاعل مباشرا أم متسببا؛ فقد سبب له ضررا، ومن ثم وجب عليه جبر هذا الضرر؛ عملا بقول الله -تعالى-: {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} [النجم:39]. وقوله -عز وجل-: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَة} [المدثر:38].

والفعل المشار إليه في المسألة نوع من الأذى، خاصة إذا كان الفاعل قد تجاوز في سلوكه ما كان يجب عليه من الالتزام بالسرعة المحددة حين يقود سيارته.

وأيا كانت سرعة السيارة، والسبب في انحرافها، فإن الفعل يظل جناية خطأ، وعقوبة هذه الجناية محكومة ومقدرة بقول الله -تعالى-: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَئًا وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ} [النساء:92].

وللفقهاء أقوال كثيرة في أنواع هذا الفعل وصفاته، ففي جناية الدابة -وهي هنا تقابل جناية السيارة قياسا-:

جاء في مذهب الإمام أبي حنيفة: إذا كان الراكب يسير في الطريق العامة، فوطئت دابته رجلا بيدها أو رجلها، فقتلته؛ فقد تحقق معنى الخطأ، وحصوله على سبيل المباشرة؛ ‏«‏لأن ثقل الراكب على الدابة والدابة آلة له، فكان القتل الحاصل بثقلها مضافا إلى الراكب، فكان قتلا مباشرا…، والأصل أن السير والسوق والقود في طريق العامة مأذون فيه بشرط سلامة العاقبة، فما لم تسلم عاقبته لم يكن مأذونا فيه، فالمتولد منه يكون مضمونا، إلا إذا كان مما لا يمكن الاحتراز منه بسد باب الاستطراق على العامة، ولا سبيل إليه، والوطء والكدم والصدم والخبط في السير والسوق والقود مما يمكن الاحتراز منه بحفظ الدابة، وذود الناس…‏»‏‏([2]).

وفي مذهب الإمام مالك: جناية الدابة من الجراح والأنفس وسائر الدماء جناية خطأ إذا كان معها سائق أو قائد أو راكب، ويضمن هؤلاء هذه الجناية؛ لكون ذلك تفريطا منهم في إمساكها..([3]).

وفي مذهب الإمام الشافعي: من حجب دابة -ولو مستأجرا أو مستعيرا أو غاصبا- ضمن ما أتلفته من النفس والمال، سواء كان سائقَها أم راكبَها أم قائدَها؛ لأنها في يده، وعليه تعهدها وحفظها([4]).

وفي مذهب الإمام أحمد: ما جنته الدابة بيدها من نفس أو جرح أو مال ضمنه راكبها، وكذلك إن ساقها أو قادها؛ وذلك لإمكانه حفظها عن الجناية إذا كان راكبها أو يده عليها([5]).

وعند الإمام ابن حزم: يضمن الفارس ما وطئته دابته بيد أو رجل، فإذا حملها السائق بضرب أو نخس أو زجر على شيء ما، فإن عمد فعليه القود والضمان، وإن لم يعمد فهو قاتل خطأ، فإن لم يحملها على شيء فلا ضمان عليه([6]).

هذه مجمل أقوال الفقهاء بإيجاز في مسؤولية راكب الدابة، وتنطبق هذه المسؤولية -كما ذكرنا آنفا- بأوصافها ونتائجها على سائق السيارة حين يقود سيارته، فيحدث ضررا لغيره، فجنايته عندئذٍ جناية خطأ، يترتب عليه بسببها دفع الدية عن النفس، والتعويض عن المال، والأرش في الجروح، ويتعدد هذا بتعدد الأضرار التي تصيب الجسم، فقد يزيد التعويض أضعاف المرات عن الدية([7]).

ولكن ما الحكم بالنسبة لسائق السيارة حين يقود سيارته في طيش كما ورد في المسألة؟.

والجواب: أن فعله هذا يعد جناية خطأ طالما أنه لم يكن عامدا لما فعل.

فهذا السائق لم يكن قاصدا قتل الشخص الذي كان يسير في الطريق العام، وإنما وقع الخطأ حين انحرفت السيارة عن مسارها، فانتفى بذلك قصد العمد منه، فلم يجب عليه عندئذٍ غير الدية.

ومسألة طيشه وخفته وتجاوزه للسرعة المقررة وهو يقود سيارته تعد مخالفاتٍ أخرى، وعقوبتها تحدد في أنظمة المرور وغالبا ما تكون إما بسحب رخصة القيادة منه، أو إلزامه بغرامة، أو إيقاع عقوبة السجن عليه، أو بهذه العقوبات مجتمعة، وهذه مما تدخل في مسائل “التعازير” في الشريعة الإسلامية المشروعة للتأديب والزجر عن الجرائم التي لم يرد فيها نصوص في الشرع الإسلامي، فإن لم يكن في الأنظمة عقوبة أو عقوبات لفعل السائق في المسألة فللقاضي أن يختار ما يراه لعقوبته حسب واقع المخالفة، وما تقتضيه مصلحة الأمة في هذه الأحوال.

وخلاصة المسألة: أن الجاني في المسألة مكلف فقط بدفع دية المقتول خطأ؛ لانتفاء قصد العمد عن فعله، أما بالنسبة لطيشه وتجاوزه السرعة المحددة فتطبق عليه أنظمة المرور في مثل هذه الحال، إما بسحب رخصة القيادة منه، أو تغريمه، أو سجنه، فإن لم يكن فيها عقوبة أو عقوبات محددة فعلى القاضي أن يختار ما يراه لعقوبته حسب حال المخالفة، وما تقتضيه مصلحة الأمة من حفظ الأنفس والأموال. والله أعلم.

 

([1])  الدر المنثور للسيوطي ج6ص658، وأورده المنذري في الترغيب والترهيب، باب «من أربى الربا استطالة الرجل في عرض أخيه»، برقم (7)، وقال: “‏رواه أبو يعلى، ورواته رواة الصحيح‏”. ج3 ص504-505.

([2])  بدائع الصنائع للكاساني ج7ص271-272، وانظر: مجمع الضمانات للبغدادي ص85، ونتائج الأفكار في كشف الرموز والأسرار، لقاضي زاده على الهداية للمرغيناني ج10ص325-328، وحاشية رد المحتار على الدر المختار، لابن عابدين ج6ص602-604، وحاشية الطحطاوي على الدر المختار، للطحطاوي ج4ص294، والاختيار لتعليل المختار، لابن مودود الموصلي ج5ص47-48، والجامع الصغير لمحمد بن الحسن الشيباني، مع شرحه النافع الكبير، لعبد الحي اللكنوي ص515-516.

([3])  الكافي في فقه أهل المدينة المالكي للقرطبي ص605-606، والمعونة على مذهب عالم المدينة للبغدادي ج3ص134-135، وبداية المجتهد ونهاية المقتصد، لابن رشد ج2ص417، والتلقين في الفقه المالكي لعبد الوهاب البغدادي،ج2، ص486.

([4])  شرح المنهج لزكريا الأنصاري مع حاشية سليمان الجمل ج5ص175، ونهاية المحتاج إلى شرح المنهاج للرملي ج8ص38-41، وكفاية الأخيار في حل غاية الاختصار للحسيني الحصني ج2ص196، ومغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج للشربيني الخطيب ج4ص204، وبجيرمي على الخطيب لسليمان البيجرمي ج4 ص188-189.

([5])  المغني والشرح الكبير لابن قدامة ج10ص358-359، وانظر: مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى للرحيباني ج4ص86-88، وكشاف القناع عن متن الإقناع للبهوتي ج4ص126-127، وشرح منتهى الإرادات للبهوتي ج2ص429-430، والمبدع في شرح المقنع لابن مفلح ج5ص198، والإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام أحمد بن حنبل للمرداوي، ج6ص236-237، وحاشية الروض المربع شرح زاد المستقنع لابن قاسم النجدي، ط3، 1405هـ.

([6])   الإيصال في المحلى بالآثار لابن حزم، ج1 ص201-204.

([7])   ومثل ذلك: ما لو كان التلف لعدد من أعضاء الجسم كالأنف والعين والأذن واليد والرجل، فيكون لكل عضو تلف ديته المقدرة.