ومفاد المسألة: أن رجلًا يملك أرضًا، وقد أنشأ فيها مصنعًا (كسارة)؛ لتجهيز بيع مادة من مواد البناء، ولما كان هذا المصنع قريبًا من مساكن القرية طالب أحدهم بإغلاقه؛ لما ينتج منه من أتربة ومواد تفسد الهواء، وتؤثر في الساكنين، إلا أن صاحب المصنع أصر على بقاء المصنع بحجة أنه يملك الأرض، وأن هذه الملكية تعطيه حق التصرف في أرضه كما يشاء. والسؤال: هل يحق للمالك أن يتصرف في ملكه تصرفًا مطلقًا، أو أنه مقيد فيه بما تقتضيه حقوق الآخرين مثل جيرانه؟

حكم تصرف المالك في ملكه الذي يسبب الأذى للجيران

والجواب أن لِلْمِلْكِ معنيَيْنِ: معنًى حقيقيًّا، ومعنًى مجازيًّا، فالأول يعود للمالك الحقيقي الذي أوجد المِلْكَ، وهو الله -جل وعلا-، فكل ما في الوجود مملوك له ملكًا دائمًا ومطلقًا، لا يتبدل، ولا يتغير إلا بإذنه، وفي ذلك قال الله -تعالى-: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [البقرة: 107]، وقال -تعالى-: {لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُون} [البقرة: 116]، وقال -تعالى-: {وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللّهُ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِير} [آل عمران: 189].

والآيات في هذا المعنى كثيرة، تدل كلها دلالة مطلقة على أن الله هو المالك لكل شيء، وهذا يقتضي حكمًا أن يطاع في ملكه، ولا يعصى فيه.

أما المعنى المجازي للملك فيعود لصاحبه الذي استخلفه الله فيه في قوله -تعالى-: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الأَرْضِ}([1])، وقوله -تعالى-: {هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود: 61]، وقوله -تعالى-: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد: 7].

فدل هذا على أن ملك الإنسان لما هو تحت تصرفه ملك مجازي استخلفه الله فيه، فوجب عليه ألا يستعمل هذا الاستخلاف فيما حرم الله، سواءٌ فيما هو حق له بالطاعة وعدم المعصية، أو فيما هو حق لخلقه بألا يبخسهم حقوقهم؛ استجابة لقول الله -تعالى-: {وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ} [الشعراء: 183]، واستجابة لنهي رسوله-ﷺ-في قوله: (من اقتطع شبرًا من الأرض ظلمًا طوقه الله إياه يوم القيامة من سبع أَرَضِينَ)([2])، وقوله -عليه الصلاة والسلام-: (ليس لعرق ظالم حق)([3])، والتصرف في الملك بمعناه المجازي إما أن يكون مطلقًا، وإما أن يكون مقيدًا، فإن كان التصرف فيه لا يضر بالآخرين فهو مطلق لا يقيده إلا ما تقتضيه المصلحة، وإن كان التصرف فيه يضر بالآخرين فهو مقيد برفع الضرر.

وقد تعرض الفقهاء لهذه المسألة بالكثير من التفصيل، وسنوجز بعضًا منه.

ففي المذهب الحنفي: أن “للمالك أن يتصرف في ملكه أيَّ تصرف شاء، سواءٌ كان تصرفًا يتعدى ضرره إلى غيره أو لا يتعدى، فله أن يبني في ملكه… حمامًا أو تنورًا، وله أن يقعد في بنائه حدادًا أو قصارًا، وله أن يحفر في ملكه بئرًا أو بالوعة…، وإن كان يَهِنُ من ذلك البناءُ، ويتأذى جارُه، وليس لجاره أن يمنعه حتى لو طلب جاره تحويل ذلك لم يجبر عليه؛ لأن المِلْكَ مطلق للتصرف في الأصل، والمنع منه لعارضِ تَعَلُّقِ حقِّ الغيرِ، فإذا لم يوجب التعلق لا يمنع، إلا أن الامتناع عما يؤذي الجار ديانة؛ لقول النبي -عليه الصلاة والسلام-: (والله لا يؤمن، والله لا يؤمن)، قيل: من يا رسول الله؟، قال: (الذي لا يأمن جاره بوائقه). ورواية (لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه)([4])، ولو فعل شيئًا من ذلك حتى وَهَنَ البناءُ، وسقط حائط الجار، لا يضمنه؛ لأنه لا صنع فيه في ملك الغير”([5])، هذا هو ظاهر الرواية في المذهب، والاستحسان أن الشخص لا يُمنع من تصرفه في ملكه إلا إذا كان الضرر الذي يلحق جاره ضررًا بيِّنًا، فحينئذ يُمنع من ذلك، وعلى هذا الفتوى في المذهب”([6]).

وفي مذهب الإمام مالك: لا يجوز لأحد أن يضر بجاره، ومن ذلك: من يُحدِثُ في عرصته شيئًا يضر بجيرانه، مثل: بناء الحمام، أو الفرن، أو مصنع لسبك الذهب أو الفضة، أو الكير لعمل الحداد، فقد روى ابن القاسم عن مالك أن للجيران مَنْعَه، وبالنسبة لدخان التنور فإن أمكنه قطعه مع بقاء الفرن قطع الضرر بحيث يجعل له أنبوبًا في أعلى الفرن يرتقي فيه الدخان، ولا يضر بالجار، والدخان الذي يحدث من الفرن والحمام، فيدخل على الجيران في دورهم يعد من الضرر الدائم، وما كان بهذه الصفة يجب منع إحداثه على من يستضر به إذا دلت البينة على أنه من الضرر([7]).

وفي مذهب الإمام الشافعي: أن كل مالك يتصرف في مِلْكِهِ على العادة في التصرف، وإن تضرر به جاره، أو أفضى لإتلاف ماله، كما لو سقط بسبب حفره المعتاد جدار جاره؛ إذ إن منعه من ذلك ضرر له، فإن تعدى في تصرفه بملكه ضمن ما نتج منه، سواءٌ كان ذلك قطعًا أو ظنًّا قويًّا، كما لو شهد بذلك خبيران، ومن ذلك: ما لو جعل داره بين الناس معمل نشادر، وشمه أطفال، فماتوا بسبب ذلك، ضمن لمخالفته العادة، ومن ذلك: -أيضًا- ما لو طرح في أصل حائطه فضلاتٍ عفنةً تسري في مسام الأرض، فتحدث في البناء العطب والتلف، مُنع من ذلك؛ لأنه تصرف باشر ملك غيره بما يضره([8]).

وفي مذهب الإمام أحمد: ليس للرجل أن يتصرف في ملكه تصرفًا يضر بجاره، كما لو بنى فيه حمامًا بين الدور، أو يفتح خبازًا بين العطارين، أو يجعله دكان قصارة وحدادة يهز الحيطان، ويخربها، أو كما لو حفر بئرًا إلى جانب بئر جاره، يجتذب ماءها، وهذا استدلالًا بقول رسول الله -ﷺ-: (لا ضرر، ولا ضرار)([9])، ويضمن مَنْ أحدث في ملكه ما يضر بجاره ما تلف بسبب الإحداث، ويستثنى من الضرر الدخانُ اليسير مما لا يمكن التحرز منه، وتدخله المسامحة([10]).

وعند الإمام ابن حزم: أنه لا ضرر أعظم من أن يمنع المرء من التصرف في ماله مراعاةً لنفع غيره؛ لأن هذا هو الضرر حقًّا، واستثنى من ذلك الاطلاع على الجار، أو الدخان عليه؛ لأن ذلك أذًى، وقد حرم الله -تعالى-أذى المسلم، وما عدا ذلك فلكلٍّ أن يبني في حقه ما شاء من حمام وفرن ونحو ذلك، إذا لم يأت نص بالمنع([11]).

وينبني على ما سبق أن جمهور الفقهاء متفقون على أن للمالك التصرفَ في ملكه، ولكن هذا التصرف مقيد بعدم الإضرار بغيره، وقد ورد في تحريم الضرر الكتاب والسنة، أما الكتاب: فقول الله -تعالى-: {أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِّنَ اللّهِ} [النساء: 12]، وقال في حق النساء: {وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ} [الطلاق: 6]، وقال-تعالى-: {وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لَّتَعْتَدُواْ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [البقرة: 231].

وأما السنة: فقد ورد عن رسول الله -ﷺ- قوله: (لا ضرر، ولا ضرار)([12])، وقوله -عليه الصلاة والسلام-: (من ضارَّ ضارَّ الله به، ومن شاقَّ شق الله عليه)([13])، كما ورد عنه عدة أحاديث تؤكد حق الجار، وعدم إيذائه، ومن ذلك: قوله-عليه الصلاة والسلام-: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره)([14])، وقوله -عليه الصلاة والسلام-: (ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه)([15])، وقوله -عليه الصلاة والسلام-: (والله لا يؤمن)، قالها ثلاثاً، قالوا: وما ذاك يا رسول الله؟، قال: (الجار لا يأمن جاره بوائقه)، قالوا: يا رسول الله! وما بوائقه؟، قال: (شره)([16]).

وقد روى سمرة بن جندب أنه كانت له عضد من نخل في حائط رجل من الأنصار. قال: ومع الرجل أهله، وكان سمرة بن جندب يدخل إلى نخله، فيتأذى به، ويشق عليه، فطلب إليه أن يبيعه، فأبى، فطلب إليه أن يناقله، فأبى، فأتى النبي -ﷺ-، فذكر ذلك له، فطلب إليه النبي -ﷺ-أن يبيعه، فأبى، فطلب إليه أن يناقله، فأبى. قال: فهَبْهُ لي، ولك كذا وكذا، أمر رغبه فيه، فأبى، فقال: أنت مضار. فقال رسول الله -ﷺ-للأنصاري: (اذهب، فاقلع نخله)([17]).

فهذه الأحكام في إجمالها وتفصيلها تدلُّ حكمًا على تحريم الأذى والضرر، وهذا التحريم عام في كل أمر يؤدي إلى الضرر بالغير، سواء كان هذا الضرر مباشرًا كالتعدي، أم غير مباشر كإيذاء الجار لجاره، ولو كان هذا الجار يتصرف في ملكه، وسواءٌ كان الضرر يصيب فردًا أو جماعة، أو كان حالًّا أو آجلًا، فحكمه في المنع سواءٌ.

وعلى هذا فإن إنشاء المصنع (الكسارة) يعد ضررًا لأهل القرية، فما ينتج منه من مخلفات وأتربة يؤدي إلى تلوث الهواء وإفساده، وبالتالي ينشأ عن ذلك العديد من الأمراض؛ مما يعد سببًا شرعيًّا لمنعه، ولا حجة للادعاء بملك صاحبه للأرض؛ لأن التصرف فيها مقيد أصلًا بالمنع من الإضرار بالآخرين.

وخلاصة المسألة: أن للمالك أن يتصرف في ملكه، ولكن ليس له أن يتصرف فيه تصرفًا يؤدي إلى الإضرار بغيره من جيران وغيرهم، وقد دلت أحكام الشريعة ومقاصدها على تحريم الضرر، سواءٌ كان هذا الضرر مباشرًا أم غير مباشر، وسواءٌ كان يصيب فرداً، أو جماعة، أو كان حالًّا، أو آجلًا.

وعلى هذا فإن إنشاء المصنع (الكسارة) يعد ضررًا لأهل القرية؛ لأن ما ينتج من مخلفات وأتربة يسبب تلوث الهواء، فينشأ عن ذلك العديد من الأمراض، مما يعد سببًا شرعيًّا لمنعه، ولا حجة لصاحبه للادعاء بملكيته للأرض؛ لأن التصرف فيها مقيد أصلًا بعدم الإضرار بالآخرين، وهذا مقتضى قواعد الشريعة، والأنظمة تُلزم بهذا، وتعمل به، وتأخذ على أيدي من خالفه.

والله أعلم.

 

([1]) سورة الأنعام، من الآية 165.

([2]) أخرجه مسلم في كتاب المساقاة والمزارعة، باب تحريم الظلم وغصب الأرض وغيرها، صحيح مسلم بشرح النووي ج11 ص48.

([3]) أخرجه أبو داود في كتاب الخراج والإمارة والفئ، باب إحياء الموات، برقم (3073)، سنن أبي داود ج3 ص178، وأخرجه الترمذي في كتاب الأحكام، باب ما ذكر في إحياء أرض الموات، برقم (1378)، سنن الترمذي ج3 ص 662، قال النووي في تهذيب الأسماء واللغات، (٣/٢/١٤): إسناده صحيح رجاله رجال الصحيح.

([4]) متفق عليه، أخرجه البخاري، في كتاب الأدب، باب إثم من لا يأمن جاره بوائقه، صحيح البخاري ج7 ص 78، وأخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب تحريم إيذاء الجار، صحيح مسلم بشرح النووي ج2 ص17.

([5]) بدائع الصنائع للكاساني، ج6 ص263-264، وفتح القدير للإمام ابن الهمام مع الهداية للمرغيناني، ج7 ص321-322، وانظر: درر الحكام شرح مجلة الأحكام لعلي حيدر، ج1 ص11-12.

([6])   حاشية رد المحتار لابن عابدين، ج5 ص447-449.

([7]) تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام للإمام ابن فرحون، ج2 ص251-252، والمدونة الكبرى للإمام مالك برواية سحنون، ج4 ص377-378، والقوانين الفقهية لابن جزي، ص223-224، وشرح منح الجليل على مختصر خليل لعليش، ج8 ص77-78.

([8]) نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج للرملي، ج15 ص319، والحاوي الكبير للماوردي، ج8 ص78-80.

([9]) أخرجه ابن ماجة في كتاب التجارات، باب من بنى في حقه ما يضر بجاره، برقم (2340، 2341)، سنن ابن ماجة، ج2 ص 784، حسنه السيوطي في الجامع الصغير، (٩٨٨٠).

([10]) المغني والشرح الكبير للإمام ابن قدامة، ج5 ص21-22، 51-53، وكشاف القناع عن متن الإقناع للبهوتي، ج3 ص408-410، ومطالب أولي النهى للرحيباني، ج3 ص357-360.

([11]) المحلى بالآثار، ج7 ص84-86.

([12]) أخرجه الإمام مالك في الموطأ، كتاب الأقضية، باب القضاء في المرفق، برقم (1426)، ص 529، أخرجه ابن ماجة في كتاب التجارات، باب من بنى في حقه ما يضر بجاره، برقم (2340، 2341)، سنن ابن ماجة، ج2 ص 784، حسنه السيوطي في الجامع الصغير، (٩٨٨٠).

([13]) أخرجه أبو داود في كتاب الأقضية، أبواب من القضاء، ورقمه (3635)، وسنن أبي داود ج3 ص 315، وأخرجه ابن ماجة في كتاب الأحكام، باب “من بنى في حقه ما يضر بجاره”، ورقمه (2342)، وسنن ابن ماجة ج2 ص 784-785، وأخرجه الترمذي في كتاب البر والصلة، باب ما جاء في الخيانة والغش، ورقمه (2194)، سنن الترمذي ج4 ص293، حسنه الألباني في صحيح ابن ماجه، (١٩١١).

([14]) متفق عليه، أخرجه البخاري في كتاب الأدب، باب “من كان يومن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره”، صحيح البخاري ج7 ص 78-79، وأخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب الحث على إكرام الجار والضيف، صحيح مسلم بشرح النووي ج2 ص 18.

([15]) متفق عليه، أخرجه البخاري في كتاب الأدب، باب الوصاة بالجار، صحيح البخاري ج7 ص 78، وأخرجه في كتاب البر والصلة والآداب، باب الوصية بالجار، والإحسان إليه، وأخرجه الترمذي في كتاب البر، با ما جاء في حق الجوار، برقم (1942)، سنن الترمذي ج4 ص 293.

([16]) متفق عليه، أخرجه البخاري في كتاب الأدب، باب إثم من لا يأمن جاره بوائقه، صحيح البخاري ج7 ص 78، وأخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب تحريم إيذاء الجار، بلفظ “لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه”، صحيح مسلم بشرح النووي ج2 ص17، وأخرجه أحمد في المسند ج2 ص288.

([17]) السنن الكبرى للبيهقي، كتاب إحياء الموات، باب من قضى فيما بين الناس بما فيه صلاحهم، ودفع الضرر عنهم على الاجتهاد، ج6 ص157، ضعفه الألباني في ضعيف أبي داود، (٣٦٣٦).