والجواب: أن الله -سبحانه وتعالى- لما أوجب عبادته على خلقه خص بذلك ذوي الأهلية منهم، فخرج من هذا التكليف من فقد أهليته بجنون أو إغماء أو نحو ذلك، كما خرج منه من لم تبلغ أهليته مرحلة القدرة كالصغير، أو من ضعفت قدرته كالمسن العاجز، والأصل في هذا الكتاب والسنة.
أما الكتاب: فقول الله -تعالى-: {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، وقوله -عز وجل-: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]، وأما السنة فقول رسول الله -ﷺ-: «رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، والصغير حتى يكبر، والمجنون حتى يفيق)([1]).
ولعل حالة فقد الذاكرة فقدًا كليًّا تشبه حالة الجنون؛ لجامع
العلة بينهما، وهي اختلال العقل بما يؤدي إلى عدم إدراك صاحبه لما يفعل، وسنورد جزءًا يسيرًا مما أورده الفقهاء عن حكم الصلاة والزكاة والصيام بالنسبة للمجنون، ومن ثم قياس فاقد الذاكرة عليه.
ففي مذهب الإمام أبي حنيفة: أن من جن، أو أغمي عليه، أو نام فقد عجز عن فعل الخطاب بالصوم وعن أدائه؛ لأن الصوم الشرعي هو الإمساك لله-تعالى-بنية، وهؤلاء ليسوا من أهلها، فعندئذ ليسوا من أهل الأداء، ولا من أهل الوجوب.
ففي مسألة الصلاة يعد المجنون غير مكلف بأدائها إلا إذا أفاق بعد خمس صلوات، فعليه قضاؤها، فإن زاد جنونه عن ذلك فلا يقضي؛ لأنه أصبح في حالة تكرار، كما أن الزكاة لا تجب في ماله؛ لأنه غير مكلف بأنواع العبادات؛ استدلالًا بحديث «رفع القلم عن ثلاثة» -كما تقدم-، ولا يجب عليه الصوم إن كان جنونه لكامل شهر رمضان، فإن أفاق في جزء منه ففيه خلاف([2]).
وفي مذهب الإمام مالك: لا تجب عليه الصلاة، وتجب الزكاة في ماله، ويخرجها عنه وليه، ولا يصح صومه([3]).
وفي مذهب الإمام الشافعي: لا تجب على المجنون صلاة كما لا يجب عليه قضاء ما فاته منها إذا استغرق جنونه جميع الوقت، وتجب الزكاة في ماله، ويخرجها عنه وليه، ولا يجب عليه الصوم، فإن أفاق خلال شهر رمضان لم يجب عليه قضاء ما فاته من صيامه([4]).
وفي مذهب الإمام أحمد: ليس على المجنون صلاة، ولا يقضيها إذا أفاق، وتجب الزكاة في ماله، ويخرجها الولي، ولا يجب عليه الصوم([5]).
ويتبين مما سبق من أقوال الأئمة الأربعة أن من زال عقله بجنون لا يلزمه شيء من العبادات، ما عدا الزكاة، فيخرجها عنه وليه من ماله خلافًا لمذهب الإمام أبي حنيفة الذي لا يرى وجوبها عليه؛ لأنها من العبادات التي سقطت عنه.
ومن فقد ذاكرته كلية يعد بمثابة من زال عقله؛ لأنه لم يعد يميز الأشياء على حقيقتها، فيتصرف مثل من زال عقله، أو كالصبي غير المميز، فارتفع عنه بذلك التكليف في العبادات من طهارة وصلاة وصيام.
أما الزكاة فتجب في ماله؛ لأنه لا يفعلها بنفسه كالصلاة والصيام، وإنما يخرجها عنه وليه، وهي وإن كانت عبادة لله، فهي حق للمستحقين لها من خلقه، وحقوق الخلق يجب أن تؤدى لهم، ولا تبرأ ذمة من وجبت عليه إلا بأدائها عملًا بقول الله -تعالى-: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا} [التوبة:103]، وعملًا بأمر رسول الله -ﷺ- لمعاذ بن جبل لما بعثه إلى اليمن أن يأخذ الزكاة من الأغنياء في قوله -عليه الصلاة والسلام-: «فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله -عز وجل- افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم، تؤخذ من أغنيائهم، وترد في فقرائهم، فإن هم أطاعوك لذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم؛ فإنها ليس بينها وبين الله -عز وجل-حجاب»([6]).
وخلاصة المسألة: أن من فقد ذاكرته كلية يعد بمثابة من زال عقله بجنون، أو كالصبي غير المميز، فلا تلزمه صلاة ولا صيام، أما الزكاة فتجب في ماله، ويخرجها عنه وليه. والله أعلم.
([1]) أخرجه النسائي في كتاب الطلاق، باب من لا يقع طلاقه من الأزواج، سنن النسائي، ج6 ص156، وأخرجه الإمام أحمد في المسند، ج1 ص140، والخطيب التبريزي في المشكاة، كتاب النكاح، برقم (3287)، ج2 ص980، صححه الألباني في صحيح الترمذي، (١٤٢٣).
([2]) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع للكاساني، ج2 ص88، وانظر: حاشية ابن عابدين، ج2 ص512، وكشف الأسرار، ج4 ص262-265، 274-275.
([3]) القوانين الفقهية ص49، 118، وحاشية الدسوقي، ج1 ص445.
([4]) انظر: قليوبي وعميرة على شرح المحلي على منهاج الطالبين للنووي، ج3 ص226، 331.
([5]) انظر: قليوبي وعميرة على شرح المحلي على منهاج الطالبين للنووي، ج3 ص226، 331.
([6]) أخرجه البخاري في كتاب الزكاة، باب «لا تؤخذ كرائم أموال الناس في الصدقة»، برقم (1458)، فتح الباري، ج13 ص377-378، وأخرجه الإمام أحمد في المسند، ج1 ص233.