هذه المسألة لها ثلاث حالات:
الحالة الأولى: عظم أجر كافل اليتيم:
تعد كفالة اليتيم من باب الإحسان إليه في وقت يحتاج فيه إلى الرعاية بعد فقد والديه أو أحدهما، وهي في الوقت نفسه إحسان إلى الأمة التي يوجد فيها، باعتبارها مسؤولةً عن أحد أفرادها عندما يكون في حاجة إلى الرعاية، كما هو حال اليتيم، فمن كفل واحدًا أو أكثر منهم فقد حمل عنها ما يجب عليها أن تحمله، فهو بالتالي قد أحسن إليها، فكفالة اليتيم إذًا بر وإحسان أمر الله به من يقدر عليه من عباده ضمن عموم قوله -تعالى-: {وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِين} [البقرة: 195].
وقد أكد الله على رعاية اليتيم والإحسان إليه في عدد من الآيات في كتابه العزيز، فأمر بإيتاء ماله، أي: إعطائه من ماله ما يطعمه، ويكسوه، وينفق عليه إذا كان لا يزال فـي الولاية، ومـن ثم تسليم ماله إليه بعد بلوغه ورشده؛ عملًا بقول الله -تعالى-: {وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُواْ الْخَبيثَ بالطَّيّب وَلَا تَأْكُلُواْ أَمْوَالَهُمْ إلَى أَمْوَالكُمْ إنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبيرًا} [النساء: 2].
وأمر الله بالتحرز من حقوق اليتيم في حال العجز عن الوفاء بها، فقال في الآية التالية للآية الأولى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء} [النساء: 3]، وهذا نهي لمن كان في ولايته يتيمة، فأراد أن يتزوجها، فأمر ألا يبخسها حقها في المهر أو غيره، وألا تكون رغبته في الزواج منها لقصد الاستيلاء على مالها، أو نحو ذلك مما يكون له فيه منفعة دونها.
كما أمر الله بالعطف على اليتيم، والرأفة به، والإحسان إليه فـي قوله -تعالى-: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَر}([1])، وهذا النهي شامل لكل ما فيه ظلم له، أو إساءة إليه، كما أنه شامل من وجه آخر للأمر بالإحسان إليه.
وفي السنة: أحاديث كثيرة تدل على وجوب الإحسان إلى اليتيم، ورعايته، والعطف عليه، ففي الصحيح أن رسول الله -ﷺ- قال: (أنا وكافل اليتيم له أو لغيره، أنا وهو كهاتين في الجنة)، وأشار بالسبابة والوسطى([2])، وعن مالك بن الحرث -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -ﷺ-: (من ضم يتيمًا بين أبوين مسلمين إلى طعامه وشرابه حتى يغنيه الله، وجبت له الجنة البتة)([3])، وعن عبد الله بن أبي أوفى قال: بينا نحن قعود عند رسول الله -ﷺ- أتاه غلام، فقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله!، غلام يتيم، وأخت له يتيمة، وأم له أرملة، أطعمنا أطعمك الله مما عندك حتى نرضى، فقال رسول الله -ﷺ-: (ما أحسنَ ما قلتَ يا غلامُ!، انطلق إلى أهلنا، فائتنا بما وجدت عندهم من طعامك)، فأتى بأول بواحدة وعشرين تمرة، فوضعها في كف رسول الله -ﷺ-، فأشار رسول الله -ﷺ- بكفيه إلى فيه، ونحن نرى أنه يدعو الله بالبركة، ثم قال: (يا غلام! سبعًا لك، وسبعًا لأمك، وسبعًا لأختك)، فتعشى بتمرة، وتغدى بأخرى، فلما انصرف الغلام من عند رسول الله -ﷺ- قام إليه معاذ بن جبل، فوضع يده على رأسه، ثم قال: جبر الله يتمك، وجعلك خلفًا لأبيك، فقال رسول الله -ﷺ-: (قد رأيت ما صنعت بالغلام يا معاذ)؟، قال: يا رسول الله! رحمة للغلام، فقال رسول الله -ﷺ-عند ذلك: (والذي نفس محمد بيده لا يلي أحد من المسلمين يتيمًا إلا جعل الله -تبارك وتعالى-له بكل شعرة درجة، وأعطاه بكل شعرة حسنة، وكفر عنه بكل شعرة سيئة)([4]).
وروى أبو هريرة -رضي الله عنه- أن رجلًا شكا إلى رسول الله -ﷺ- قسوة قلبه، فقال له -عليه الصلاة والسلام-: (إن أردت تليين قلبك فأطعم المسكين، وامسح رأس اليتيم)([5]).
وينبني على هذا أن في كفالة اليتيم والإحسان إليه أجرًا كبيرًا لفاعله، وأن ما فعله رب الأسرة في ضم اليتيم الصغير إلى أسرته أمر يحتسبه عند الله، والله لا يضيع عملًا عمله عبده يبتغي فيه الثواب والأجر منه.
الحالة الثانية: علاقة اليتيم بكافله: إذا بلغ اليتيم أصبح عند كافله بمثابة الرجل الأجنبي، خاصة بالنسبة للنساء، فعليهن أن يحتجبن عنه، مثله في ذلك مثل أي شخص أجنبي، ما لم يكن هناك موجب شرعي يبيح له النظر إليهن، كالرضاع كما سنرى، والأساس في هذا قول الله -تعالى-: {وَقُل لّلْمُؤْمنَات يَغْضُضْنَ منْ أَبْصَارهنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدينَ زينَتَهُنَّ إلَّا مَا ظَهَرَ منْهَا وَلْيَضْربْنَ بخُمُرهنَّ عَلَى جُيُوبهنَّ وَلَا يُبْدينَ زينَتَهُنَّ إلَّا لبُعُولَتهنَّ أَوْ آبَائهنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتهنَّ أَوْ أَبْنَائهنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتهنَّ أَوْ إخْوَانهنَّ أَوْ بَني إخْوَانهنَّ أَوْ بَني أَخَوَاتهنَّ أَوْ نسَائهنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَو التَّابعينَ غَيْر أُوْلي الإرْبَة منَ الرّجَال أَو الطّفْل الَّذينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَات النّسَاء وَلَا يَضْربْنَ بأَرْجُلهنَّ ليُعْلَمَ مَا يُخْفينَ من زينَتهنَّ وَتُوبُوا إلَى اللَّه جَميعًا أَيُّهَا الْمُؤْمنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلحُون} [النور: 31].
وهذه الآية واضحة في تعداد من يحل للمرأة إبداء زينتها له، وتحريم ذلك على من عداه، وقد استثنى الله من ذلك طائفتين:
الطائفة الأولى: أولو الأربة من الرجال ممن لا يخاف منهم؛ لعدم حاجتهم للنساء.
والطائفة الثانية: الأطفال لصغرهم، وعدم إدراكهم ومعرفتهم بأمور النساء، ثم بين الله -تعالى- في حكم آخر أن استثناء الأطفال محدود بزمن معين، هو البلوغ، فإذا بلغوا فقد زال الاستثناء، وأصبحوا مثل غيرهم ممن يجب غض البصر منه، فقال -تعالى-: {وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيم} [النور: 59].
وفي مذهب الإمام مالك: أن من الفرائض على كل مكلف غض البصر، أي: كف العينين عن نظر جميع المحارم التي حرمها الله -تعالى-، فلا يحل لامرئ النظر إلى الأجنبية على وجه الالتذاذ؛ للإجماع على حرمة النظر بقصد الشهوة لغير الزوجة([6]).
وفي مذهب الإمام الشافعي: أن المراهق من قارب الاحتلام، وهو قرب خمس عشرة سنة يعد كالبالغ، فيلزم المرأةَ الاحتجابُ منه؛ بدليل عموم قول الله -تعالى-: {أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء}، فدل على أنه لا يجوز لمن ظهر على عورات النساء، ولأنه كالبالغ في الشهوة، فكان كالبالغ في تحريم النظر([7]).
وفي مذهب الإمام أحمد: أن الغلام ما دام طفلًا غير مميز فلا يجب الاستتار منه في شيء، وقيل لأبي عبد الله الإمام أحمد: متى تغطي المرأة رأسها من الغلام؟، فقال: إذا بلغ عشر سنين([8]).
وينبني على ما سبق أن اليتيمَ محلَّ المسألةِ إذا بلغ وجب اعتباره في الأسرة التي كفلته كالأجنبي عنها، ولا أثر البتة لكونه قد عاش بينها منذ صغره، ما لم تكن الأم قد أرضعته، فعندئذ يأخذ حكم الرضاع فيما يحل له بسببه؛ بدليل قصة سهلة بنت سهيل حين قالت: يا رسول الله! إنا كنا نرى سالمًا ولدًا، وكان يأوي معي ومع أبي حذيفة في بيت واحد، ويراني فضلًا، وقد أنزل الله -عز وجل-فيهم ما علمتَ، فكيف ترى فيه؟، فقال لها النبي -ﷺ-: (أرضعيه)، فأرضعته خمس رضعات، فكان بمنزلة ولدها من الرضاعة([9]).
الحالة الثالثة: مدى صحة الإيصاء لليتيم بمال من قبل كافله: اليتيم محل المسألة يعد أجنبيًّا عن الأسرة، وكفالته من قبل ربها كفالة بر وإحسان إليه، ولا تعني هذه الكفالة بأي حال مشاركته في أموالها، أو حقوقها، أو إرثها أو نحو ذلك، أما إن أوصى له الأب بشيء من المال على سبيل الهبة أو التبرع دون محاباة له، أو ضرر على أفراد أسرته، وكانت هذه الوصية في وقت يصح فيه تصرفه، وكان القصد من ذلك الإحسان إليه، ومساعدته على شؤون حياته، فليس في ذلك حرج إن شاء الله.
وخلاصة المسألة: أن كفالة اليتيم، والإحسان إليه من أعظم القرب عند الله؛ بدليل قول الله -تعالى-: {وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِين} وقول رسول الله -ﷺ-: (أنا وكافل اليتيم له أو لغيره في الجنة كهاتين)، وأشار بالسبابة والوسطى، وأن ما فعله رب الأسرة من كفالة اليتيمِ محلِّ المسألةِ أمر يحتسبه عند الله، والله لا يضيع عملًا عمله عبده يبتغي فيه الثواب والأجر منه.
فإذا بلغ اليتيم المشار إليه وجب اعتباره في الأسرة التي كفلته كالأجنبي عنها، ولا أثر البتة لكونه قد عاش بينها منذ صغره، ما لم تكن الأم قد أرضعته، فعندئذ يأخذ حكم الرضاع فيما يحل له بسببه، ويجوز الإيصاء له بمال من قبل كافله من باب الإحسان إليه، على أن يكون ذلك دون محاباة له، ودون ضرر للأسرة.
والله أعلم.
([2]) متفق عليه، أخرجه البخاري في كتاب الأدب، باب فضل من يعول يتيمًا، برقم (6005)، فتح الباري، ج10 ص 450، وأخرجه مسلم في كتاب الزهد، باب فضل الإحسان إلى الأرملة والمسكين واليتيم، صحيح مسلم بشرح النووي، ج18 ص 112-113.
([3]) أخرجه الإمام أحمد في مسند مالك بن عمرو القشيري -رضي الله عنه-، ج4 ص 344، قال الألباني في صحيح الترغيب، (١٨٩٥: صحيح لغيره.
([4]) أورده الهيثمي في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، باب ما جاء في الأيتام والأرامل والمساكين، ج8 ص 161، وقال: “رواه البزار بتمامه، وروى أحمد طرفًا من أوله.. وفي الإسناد فائد أبو الورقاء، وهو متروك”.
([5]) أخرجه الإمام أحمد في المسند، ج2 ص263، قال الألباني في السلسلة الصحيحة، (٨٥٤): رجاله ثقات.
([6]) الفواكه الدواني على رسالة أبي زيد القيرواني للنفراوي، ج2ص302، والمعونة على مذهب عالم المدينة للبغدادي ج3ص1725-1726، والكافي في فقه أهل المدينة المالكي ص611-612.
([7]) نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج للرملي، ج6ص191، والمجموع شرح المهذب للنووي ج16ص233.
([8]) المغني والشرح الكبير لابن قدامة ج7ص458، ومطالب أولي النهى للرحيباني ج5 ص16، والمبدع في شرح المقنع لابن مفلح ج7ص10، وكشاف القناع عن متن الإقناع للبهوتي ج5 ص14، والإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام أحمد بن حنبل للمرداوي ج8 ص23.
([9]) أخرجه الإمام مالك في الموطأ، باب ما جاء في الرضاعة بعد الكبر، برقم (1284) ص416، رواية الليثي، وأخرجه أبو داود في كتاب النكاح، باب فيمن حرم به، برقم (2061)، سنن أبي داود ج2 ص 223، وأخرجه الإمام أحمد في المسند ج6 ص201، صححه الألباني في صحيح أبي داود، (٢٠٦١).