والسؤال عما إذا كان فعلهما يعد في حكم الاتجار المشروع أم أنه من باب الاحتكار المحرم، وإذا كان الأمر كذلك فهل هناك تحديد لنوع البضائع التي يحرم فيها الاحتكار، والبضائع التي لايحرم فيها؟.
وقبل الجواب عما ذكر ما معنى الاحتكار في اللغة والشرع؟.
الاحتكار في اللغة معناه: الحبس، يقال: احتكر عمرٌو الطعامَ: إذا حبسه إرادةَ الغلاءِ([1])، وأما في الشرع فهو “أن يبتاع طعامًا من المصر، أو من مكان يجلب طعامه إلى المصر، ويحبسه إلى وقت الغلاء”([2]).
أما الجواب عن السؤال فمن وجهين:
الوجه الأول: اتفاق التاجرين المشار إليهما في المسألة على عدم بيع البضاعة التي يستوردانها؛ رغبةً في الحصول على مبلغ عالٍ لها، هذا الاتفاق يُعَدُّ غير مشروع؛ لأنه ليس من باب ما أمر الله به من التعاون على البر والتقوى، بل هو من باب ما نهى الله عنه من التعاون على الإثم والعدوان في قوله -تعالى-: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَاب} [المائدة:2].
فالتجارة من الأمور المهمة التي تهم الأمة أَيَّ أمة؛ لتعلقها بالكثير من أمور حياتها من مطعم ومشرب وملبس، ولهذا تعمل الأمم على وضع القواعد والأحكام؛ لتنظيمها فيما يباح منها، وما يحرم، وما يستحب منها، وما يكره، وما للتاجر من حقوق، وما عليه من التزام وتكليف، ولأن التجارة مصدر من مصادر جمع المال وكسبه فإن سوء سلوك التاجر من الأمور المحتملة لكون النفس تحب المال، وتحرص عليه؛ مصداقًا لقول الله -تعالى-: {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} [الفجر: 20].
لذا يتعين أن يكون للتجارة قواعد من أجل مصلحة الأمة في ألا تضار في أرزاقها، وأن توضع قواعد تحكم سلوك التاجر، وتضبط تعاملاته، وذلك لمصلحة الأمة من جهة، ومصلحته هو من جهة أخرى، بحيث يكون كسبه حلالًا.
والإسلام الذي جاء رسالة خالدة تنظم حياة الإنسان، وتضبط سلوكه، بارك التجارة، وحث عليها، فعندما سئل رسول الله -ﷺ-: أَيُّ الكسبِ أطيبُ؟، قال: (عمل الرجل بيده، وكل بيع مبرور)([3])، وفي الوقت نفسه حذر -عليه الصلاة والسلام- من سوء السلوك في التجارة حين قال: (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم)، فقيل: من هم يا رسول الله؟، فقد خسروا وخابوا، قال: (المنان، والمسبل إزاره، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب)([4]).
وفي تقريرٍ وتوجيهٍ آخرَ خرج رسول الله -ﷺ- ذات مرة إلى المصلَّى، فوجد الناس يتبايعون، فقال موجهًا كلامه لهم: (يا معشر التجار)، فاستجابوا لندائه -عليه الصلاة والسلام-، ورفعوا أعناقهم وأبصارهم إليه، فقال: (إن التجار يبعثون يوم القيامة فُجارًا، إلا من اتقى الله، وبرَّ، وصدق)([5]).
والمقصود بتقوى الله أمور كثيرة، منها: اجتناب التاجر للغش والخيانة والخداع، والتهافت على جمع المال دون مراعاة لشروط الكسب، والبر والصدق أساسان في عمل التاجر الأمين، فإذا اتقى اللهَ، وبَرَّ، وصدق في معاملاته فقد استوفى شروط التاجر الأمين الذي قال فيه رسول الله -ﷺ-: (التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء)([6]).
وقد كان سلف الأمة من التجار يتحرى أن يسلك في تجارته المسلك الذي يُدخله في وصف التاجر البر الصدوق؛ ليكون مع الذين وعدهم رسول الله -ﷺ- بالمنزلة العالية مع النبيين والصديقين والشهداء، وفي ذلك روى الإمام الغزالي([7]) “عن بعض السلف أنه كان بواسطٍ، فجهز سفينةَ حنطةٍ إلى البصرة، وكتب إلى وكيله: بِعْ هذا الطعامَ يوم يدخل البصرة، ولا تؤخره إلى غدٍ، فوافق سعة في السعر، فقال له التجار: لو أخرته جمعة ربحت فيه أضعافًا، فأَخَّرَهُ جمعة، فربح فيه أمثاله، وكتب إلى صاحبه بذلك، فكتب إليه صاحب الطعام: يا هذا! إنا كنا قنعنا بربح يسير مع سلامة ديننا، وإنك قد خالفتَ، وما نحب أن نربح أضعافه بذهاب شيء من الدين، فقد جنيت علينا جناية، فإذا أتاك كتابي هذا فخذ المال كلَّه، فتصدق به على فقراء البصرة، وليتني أنجو من إثم الاحتكار كفافًا لا عليَّ ولا لي”([8]).
والاحتكار ينافي صفة التقوى، كما ينافي صفة الأمانة في التجارة؛ لما فيه من التضييق والحرج، والإضرار بالناس في أقواتهم، فاقتضى ذلك تحريمَه أو كراهيتَه كراهيةَ تحريمٍ، كما يقول بذلك بعض الفقهاء، وقد ورد في النهي عن الاحتكار أحاديثُ كثيرةٌ، منها: قول رسول الله -ﷺ-: (الجالب مرزوق، والمحتكر ملعون)([9])، وقوله -عليه الصلاة والسلام-: (من احتكر على المسلمين طعامًا ضربه الله بالجذام والإفلاس)([10])، وقوله -عليه الصلاة والسلام-: “من احتكر طعامًا أربعين يومًا فقد برئ من الله، وبرئ الله منه)([11])([12]).
وللفقهاء أقوال كثيرة في مسألة الاحتكار، نجتزئ منها بما يحتاجه الجواب عن السؤال:
ففي المذهب الحنفي عرَّفوا الاحتكار بأنه: ابتياع طعام من المصر، أو من مكان يجلب طعامه إلى المصر، ويحبسه المحتكر إلى وقت الغلاء، وشرطه أن يكون مصرًا يضر به الاحتكار؛ “لأنه تعلق به حق العامة”، وعلق الإمام علاء الدين الكاساني([13]) على ما ورد في الأحاديث من الوعيد للمحتكر، فقال: “ومثل هذا الوعيد لا يلحق إلا بارتكاب الحرام، ولأن الاحتكار من باب الظلم؛ لأن ما يبيع في المصر فقد تعلق به حق العامة، فإذا امتنع المشتري عن بيعه عند شدة حاجتهم إليه فقد منعهم حقهم، ومنع الحق عن المستحق ظلم وحرام، وقليل مدة الحبس وكثيرها سواء في حق الحرمة؛ لتحقيق الظلم([14]).
وفي مذهب الإمام مالك: يمنع من يحتكر إذا كان فعله يضر بالسوق([15]).
وفي مذهب الإمام الشافعي: يحرم الاحتكار في الأقوات، وهو أن يشتري الشيء وقت الغلاء؛ ليمسكه، ويبيعه بعد ذلك بأكثر من ثمنه؛ للتضييق، واعتبره بعض أصحاب المذهب غير محرم، بل مكروهًا([16]).
وفي مذهب الإمام أحمد: يحرم الاحتكار بدليل قول رسول الله -ﷺ -: (من احتكر فهو خاطئ)([17])، وله ثلاثة شروط:
الشرط الأول: أن يكون المحتكر مشتريًا، فلو جلب شيئًا، أو أدخل من غلته شيئًا، فادخره، لم يكن محتكرًا.
الشرط الثاني: أن يكون المشترَى قوتًا، فأما الحلواء والعسل والزيت، وأعلاف البهائم، فليس فيها احتكار محرم.
الشرط الثالث: أن يضيق على الناس بشرائه([18]).
وحاصل أقوال الفقهاء: تحريم الاحتكار؛ لما فيه من الإضرار بالناس، والتضييق عليهم في أقواتهم، فالعلة في تحريمه نفي الضرر، ودفع الظلم عن الناس.
واتفاق التاجرين على عدم بيع بضاعتهما انتظارًا لارتفاع سعرها يعد احتكارًا يؤدي إلى التضييق على الناس، وبخس أشيائهم، والإضرار بحاجاتهم؛ مما يعد بالتالي من باب الظلم والفساد في الأرض، وفي ذلك يقول الله -تعالى-: {وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِين} [الشعراء: 183].
الوجه الثاني: البضائع التي يحرم فيها الاحتكار:
في المذهب الحنفي: يرى الإمام أبو يوسف أن الاحتكار يجري في كل ما يضر العامة، قوتًا كان أم لا؛ لأن الكراهة لمكان الإضرار بالعامة، وهذا لا يختص بالقوت والعلف.
وعند أبي محمد أن الضرر في الأعم الأغلب إنما يلحق العامة بحبس القوت والعلف، فلا يتحقق الاحتكار الآن([19]).
وفي مذهب الإمام الشافعي: أن الاحتكار المحرم هو في الأقوات، خاصة قوت الآدمي والدواب، ويمكن أن يلحق بذلك احتكار الثياب في وقت البرد الشديد مع حاجة الناس إليه، وحبس وسائل النقل للجند وقت الجهاد([20]).
وفي مذهب الإمام أحمد: سبقت الإشارة إلى أنه يشترط في الاحتكار كونه قوتًا، فأما الإدام والحلوى والعسل والزيت، وأعلاف البهائم، فليس فيها احتكار محرم([21]).
أما في مذهب الإمام مالك: فالاحتكار في كل شيء من الطعام والكتاب والزيت، وجميع الأشياء، والصوف والسمن والعسل والعصفر، وكل ما يضر بالسوق([22]).
قلت: ولعل الصواب هو ماذهب إليه الإمام مالك وأبو يوسف، فحاجات العامة ليست محصورة في الأقوات فحسب، فكما يحتاجون للخبز يحتاجون بالتأكيد إلى الزيت، وكما يحتاجون إلى الطعام يحتاجون في الوقت نفسه إلى اللباس، ولعل الفقهاء الذين رأوا الاحتكار في القوت فقط نظروا إلى الحاجة في ذلك الوقت، فضيقوا معنى الاحتكار.
أما في الوقت الراهن فقد تعددت الحاجات، وتنوعت الرغبات على نحو لم يكن معروفًا أو معتادًا في الأزمنة الماضية، فالصابون مثلًا، وأدوات الكهرباء، والسيارات وأدواتها، بل والحلوى والعسل ونحو ذلك من المطعومات والمشروبات والملبوسات، أصبحت مما لا يستغني عنه الإنسان المعاصر، فأصبح احتكارها يدخل في مفهوم الاحتكار المحرم.
ويؤيد هذا أن الأحاديث التي وردت في النهي عن الاحتكار قد وردت بصيغة الإطلاق، فقول رسول الله -ﷺ-: (لا يحتكر إلا خاطئ)([23])، وقوله -عليه الصلاة والسلام-: (من احتكر حكرة يريد أن يغلي بها على المسلمين فهو خاطئ)([24]) دليل واضح على تحريم الاحتكار في عمومه، سواء تعلق بالأقوات أم بغيرها.
وخلاصة ما سبق: أن الاحتكار من الأمور المحرمة؛ لما فيه من تضييق على الناس في أقواتهم وحاجات حياتهم، وفعل التاجرَيْنِ المشار إليهما يعد عملًا غير مشروع؛ لأنه ليس من باب ما أمر الله به من التعاون على البر والتقوى، بل هو من باب ما نهى الله عنه من التعاون على الإثم والعدوان.
وينبغي عدم حصر الاحتكار في الأقوات فقط كما ذهب إليه بعض الفقهاء، بل ينبغي تعميم معنى الاحتكار على كل ما فيه حاجة للناس من طعام وشراب ولباس، ونحو ذلك مما تعددت فيه الحاجات، وتنوعت فيه الرغبات في الزمن المعاصر.
والله أعلم.
([1]) المصباح المنير للفيومي ج1 ص145.
([2]) الاختيار لتعليل المختار لابن مودود الموصلي ج4 ص161، ونهاية المحتاج إلى شرح المنهاج للرملي ج3 ص472.
([3]) أخرجه الإمام أحمد في المسند ج4 ص 141. صححه الألباني في صحيح الترغيب، (١٦٩٠).
([4]) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب تحريم إسبال الإزار، والمن بالعطية، وتنفيق السلعة بالحلف. صحيح مسلم بشرح النووي ج2 ص 114-115.
([5]) أخرجه ابن ماجة في كتاب التجارات، باب التوقي في التجارة، برقم (2146)، سنن ابن ماجة ج2 ص 726، وأخرجه الترمذي في كتاب البيوع، باب ما جاء في التجار، وتسمية النبي-ﷺ-إياهم، برقم (1210)، سنن الترمذي ج3 ص515-516. صححه الألباني في صحيح ابن ماجه، (٢/٢٠٨).
([6]) أخرجه الترمذي في كتاب البيوع، باب ما جاء في التجار، وتسمية النبي-ﷺ-إياهم، برقم (1209)، سنن الترمذي ج3 ص 515، قال الألباني في السلسلة الصحيحة (٣٤٥٣): إسناده جيد.
([7]) الغزالي هو: محمد بن محمد بن محمد الغزالي الطوسي، أبو حامد، حجة الإسلام، فقيه شافعي، له مؤلفات متعددة في الفقه وأصوله وغيرهما، منها: الوسيط، والبسيط، والوجيز، والمستصفى، وإحياء علوم الدين، ولد سنة (450هـ) وتوفي سنة (505هـ). انظر: وفيات الأعيان لابن خلكان ج4ص216، والأعلام للزركلي ج7ص22-23.
([8]) إحياء علوم الدين للغزالي ج2ص69.
([9]) أخرجه ابن ماجة في كتاب التجارات، باب الحكرة والجلب، برقم (2153)، سنن ابن ماجة ج2 ص728. ضعفه الألباني في ضعيف ابن ماجه، (٤٢٣).
([10]) أخرجه ابن ماجة في كتاب التجارات، باب الحكرة والجلب، برقم (2155)، سنن ابن ماجة ج2 ص728. حسن إسناده ابن حجر العسقلاني في فتح الباري، (٤/٤٠٨).
([11]) أخرجه الإمام أحمد في المسند ج2 ص 33. قال السيوطي في اللآلئ المصنوعة، (٢/١٤٧): له متابع.
([12]) الاختيار لتعليل المختار لابن مودود ج4ص16.
([13]) الكاساني: أبو بكر بن مسعود بن أحمد الكاساني، علاء الدين، فقيه حنفي، من أهل حلب، له مؤلفات متعددة في الفقه، توفي سنة (587هـ). انظر: الأعلام للزركلي ج2ص70.
([14]) بدائع الصنائع للكاساني ج5ص129.
([15]) المدونة الكبرى رواية الإمام سحنون ج3ص290، وانظر: مواهب الجليل لشرح مختصر خليل للحطاب ج4ص227، والبيان والتحصيل لابن رشد، ج9 ص339-340، والمعيار المعرب والجامع المغرب للونشريسي ج6ص425.
([16]) المجموع شرح المهذب للنووي ج13ص44-49، ونهاية المحتاج إلى شرح المنهاج للرملي ج3ص472، والحاوي الكبير للماوردي ج7ص84، وحواشي الشرواني وابن قاسم العبادي على تحفة المحتاج بشرح المنهاج لابن حجر الهيثمي ج4ص317-318.
([17]) أخرجه مسلم في كتاب المساقاة والمزارعة، باب تحريم الاحتكار في الأقوات، صحيح مسلم بشرح النووي ج11ص43.
([18]) المغني والشرح الكبير لابن قدامة ج4ص283، ومطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى للرحيباني ج3ص63-64، والطرق الحكمية فـي السياسة الشرعية لابن القيم ص243، وانظر: كتاب الفروع لابن مفلح ج4ص53-54، وحاشية الروض المربع شرح زاد المستقنع لعبد الرحمن بن محمد بن قاسم ج4ص390-391.
([19]) بدائع الصنائع ج5 ص 129، والاختيار لتعليل المختار ج4 ص 16.
([20]) المجموع شرح المهذب ج13 ص 44-49، ونهاية المحتاج ج3 472.
([21]) المغني والشرح الكبير ج4 ص 283، وكتاب الفروع ج4 ص 53-54.
([22]) المدونة الكبرى ج3 ص 290، ومواهب الجليل ج4 ص 227.
([23]) أخرجه مسلم في كتاب المساقاة والمزارعة، باب تحريم الاحتكار في الأقوات، صحيح مسلم بشرح النووي ج11 ص43.
([24]) أخرجه الإمام أحمد في مسنده ج2 ص 351، مسند الإمام أحمد ج2ص351، صححه السيوطي في الجامع الصغير، (٨٣١٢).