بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وصحبه أجمعين، وبعد،،
فالجواب: أن الحج ركن من أركان الإسلام الخمسة فرضه الله على المستطيع من عباده، فرضًا عينيًا ورتب جزاءً على تركه في قوله تعالى: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِين} [آل عمران:97]. وقد ورد لفظ الكفر لمن جحد وجوبه، وهذا اللفظ جاء للدلالة على عظمة وتغليظ عقاب من تركه وهو قادر عليه. ولما كان المكلف لا يدري متى ينتهي أجله، فتلزمه المبادرة إلى أداء الحج قبل إدراك الأجل وقد ورد عن النبي ﷺ قوله: (من أراد الحج فليتعجل فإنه قد يمرض المريض وتضل الضالة وتعرض الحاجة)([1])، أو كما قال -عليه الصلاة والسلام-، كما ورد عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أنه قال: «لقد هممت أن أبعث رجالًا إلى الأمصار فينظرون إلى من كان له مال ولم يحج فيضربون عليه الجزية»([2]).
وإذا مات المكلف فلا يخلو من حالتين: إما أن يكون قد أدى حجة الإسلام أو تخلف عنها، وهذه الحالة الأخيرة لا تخلو من أحد ثلاث حالات: أولاها: أن يحج عنه أحد من أقاربه أو غيرهم وذلك بدافع الصدقة عنه والبر به. وثانيها: أن يكون قد أوصى بأن يحج عنه من ماله. وثالث المسائل: أن يباغته الأجل دون أن يوصي بالحج عنه وسنوجز مارآه الفقهاء في هاتين المسألتين الأخيرتين:
في مذهب الإمام أبي حنيفة: يجب على المكلف أن يؤدي الحج بنفسه، إن كان قادرًا وإن كان عاجزًا عن الفعل بنفسه عجزًا مقررًا ويمكنه الأداء بماله بإنابة غيره بالوصية فيجب عليه أن يوصي. فإن لم يفعل حتى مات أثم؛ لأنه فوت فرضًا عن وقته، وبالتالي يسقط عنه في حق أحكام الدنيا، ولا يلزم الوارث بالحج عنه من تركته ولكن إذا حج الوارث أو أحج عنه أجزأه استحسانًا لما روي أن امرأة قالت: يا رسول الله إن أمي ماتت ولم تحج أفأحج عنها؟ قال: (نعم)([3]). فأجاز ذلك رسول الله ﷺ، ولم يسألها عما إذا كانت أمها قد ماتت عن وصية، أم عن غير وصية([4]).
وفي مذهب الإمام مالك: أن من مات قبل أن يحج لم يلزم الحج عنه من ماله، ولا من ثلثه إلا إذا أوصى بذلك فيكون في ثلث ماله بدليل أن الله سبحانه وتعالى قال: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} ومعنى ذلك أن يحجوا بأنفسهم، وذلك ممتنع بعد الموت([5]).
ولكن إذا تطوع أحد بالحج عنه جاز، وقد جاء في المدونة: «قلت لابن القاسم ما قول مالك فيمن مات ولم يوص، أيحج عنه؟ أيحج عنه أحد يتطوع بذلك عنه ولد أو والد أو زوجة أو أجنبي من الناس؟ (قال) قال مالك: يتطوع عنه بغير هذا يهدى عنه أو يتصدق عنه»([6]).
وفي مذهب الإمام الشافعي: يجوز الحج عن الميت، وإن لم يوص به، وفي ذلك قال الإمام الشافعي: «لا أعلم أحدًا نسب إلى علم ببلد يعرف أهله بالعلم خالفنا في أن يحج عن المرء إذا مات، الحجة الواجبة عنه إلا بعض من أدركنا بالمدينة وأعلام أهل المدينة والأكابر من ماضي فقهائهم تأمر به مع سنة رسول الله ﷺ ثم أمر علي بن أبي طالب وابن عباس وغير واحد من أصحاب النبي ﷺ وابن المسيب وربيعة بذلك»([7]).
وينبني على هذا أن من مات وعليه حج، ولم يوص وجب الإحجاج عنه من تركته، كما يُقضى منها دينه سواء كان المتصرف فيها وارثًا، أم وصيًا، أم حاكمًا. فإن لم تكن له تركة استحب لوارثه الحج عنه بنفسه، أو نائبه وتصح كذلك من الأجنبي، وإن لم يكن له إذن من الوارث([8]).
وفي مذهب الإمام أحمد: يخرج من جميع مال الميت حجة وعمرة إذا توفي قبل أدائه الحج سواء كان ذلك بتفريط منه، أو بسبب آخر فإن ضاق ماله، أو كان عليه دين فيؤخذ للحج بحصته، واستدل الأصحاب على ذلك بأن امرأة نذرت أن تحج فماتت فأتى أخوها النبي ﷺ فسأله عن ذلك فقال: (أرأيت لو كان على أختك دين أكنت قاضيه؟) قال: نعم، قال: (فاقضوا الله فهو أحق بالوفاء)([9]). كما استدلوا على ذلك بأن الحج حق استقر عليه تدخله النيابة فلم يسقط بالموت كالدين([10]).
وعند الإمام ابن حزم: أن من مات وهو مستطيع الحج ولم يحج، حج عنه من رأس ماله واعتمر ويكون مقدمًا على ديون الناس إن لم يوجد من يحج عنه تطوعًا، وسواء أوصى بذلك أو لم يوص به، واستدل أبو محمد على ذلك بقول الله تعالى: {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ}، فعم الله عز وجل الديون كلها([11]).
ومن هذه الأقوال تتضح أهمية الحج عن الميت، والذين قالوا بعدم إلزام الورثة بالحج عنه استحبوا الحج عنه تطوعًا من قبل ولده، أو والده، أو زوجه، ولعل الأصوب -إن شاء الله- وجوب الحج عنه من ماله كما ورد في مذهب الأئمة الشافعي، وأحمد، وابن حزم مما ذكر آنفًا، فبالإضافة إلى الأحاديث التي وردت في حث ولي الميت الحج عنه، فإن من البر به الحج عنه من ماله؛ إذ ليس من العدل أن يقتسم الورثة مالًا تعب فيه، وينسون أداء واجب ترتب عليه، وإذا كان من الواجب عليهم وفاء ديون الناس من تركته فمن الأولى والأعدل إخراج دين الله المترتب عليه من هذه التركة.
إن البر بالميت واجب على ذويه، وقد أمر رسول الله ﷺ البر به، ومن ذلك قضاء دينه لتعلق ذمته به في قوله: (نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه)([12]). ومن ذلك الدعاء له، والصدقة عنه، وبر أصدقائه؛ وفي ذلك قال -عليه الصلاة والسلام-: (أن من أبر البر صلة الرجل أهل وُد أبيه)([13]).
فإذا كان هذا هو المطلوب والمرغوب من الحي للميت، فإن من الحق أن يخرج من ماله نفقة حج عنه؛ لكي يسقط عنه فرضًا ترتب عليه، لهذا فإن على الورثة في المسألة أن يخرجوا من تركة مورثهم نفقة حجة وعمرة عنه.
وخلاصة المسألة: أن من مات ولم يحج ولم يوص بالحج عنه وجب على ورثته أن يخرجوا من ماله حجة وعمرة عنه؛ استدلالًا بقول رسول الله ﷺ لمن سأله عما إذا كان يحج عن أخته التي نذرت أن تحج (اقضوا الله فهو أحق بالوفاء)([14])، فإن ضاق مال الميت أو كان عليه دين فيؤخذ للحج بحصته، فإن لم يكن له مال فمن المستحب لورثته أن يحجوا عنه برًا به.
والله تعالى أعلم.
([1]) أخرجه ابن ماجه في كتاب المناسك، باب الخروج إلى الحج، سنن ابن ماجه ج2 ص962، برقم (288)، وفي الزوائد: «في إسناده أبو خليفة أبو إسرائيل الملائي»، قال فيه ابن عدي: «عامة ما يرويه يخالف الثقات». وقال النسائي: «ضعيف». وقال الجرجاني: «مفتر زائغ». نعم قد جاء «من أراد الحج فليعجل» بسند آخر رواه الحاكم وقال: «صحيح»، ورواه أبو داود أيضاً، وأخرجه الإمام أحمد في مسنده، ج1 ص214.
([2]) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ج4 ص153.
([3]) أخرجه النسائي في كتاب الحج، باب الحج عن الميت الذي لم يحج، سنن النسائي، ج5 ص116، وأخرجه الترمذي في كتاب الحج، باب ما جاء في الحج عن الشيخ الكبير والميت، سنن الترمذي ج3 ص269، برقم (929)، صححه الألباني في صحيح الترمذي، (٩٢٩).
([4])بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع للكاساني ج2 ص221، والاختيار لتعليل المختار لعبدالله ابن مودود الموصلي الحنفي مع تعليقات الشيخ محمود أبو دقيقة ج1 ص171-172، والجوهرة النيرة على مختصر القدوري للحداد ج1 ص184.
([5]) المعونة في مذهب عالم أهل المدينة للبغدادي ج1 ص503، وعقد الجواهر الثمينة في مذهب عالم أهل المدينة لابن شاس ج1 ص381، وشرح منح الجليل على مختصر خليل لمحمد عليش ج2 ص215، والقوانين الفقهية لابن جزي ص87، والتلقين في الفقه المالكي لعبد الوهاب البغدادي ص203.
([6]) المدونة الكبرى للإمام مالك رواية الإمام سحنون ج1 ص360، وانظر الكافي في فقه أهل المدينة المالكي للقرطبي ص133، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير للدردير ج2 ص18. ومعنى صرورة: أي لا يستطيع الحج لفقره.
([8]) انظر نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج للرملي ج3 ص252، وانظر المجموع شرح المهذب للنووي ج7 ص109، ومغني المحتاج للشربيني ج1 ص468، وبجيرمي على الخطيب لسليمان الخطيب ج2 ص372.
([9]) أخرجه النسائي في كتاب الحج، باب الحج عن الميت الذي نذر أن يحج، سنن النسائي ج5 ص116، صححه الألباني في صحيح الترمذي، (٧١٦).
([10]) الإنصاف للمرداوي ج3 ص409-410، والمغني والشرح الكبير لابن قدامة ج3 ص195-196، وشرح العمدة في بيان مناسك الحج والعمرة لابن تيمية ج1 ص183-191، ومطالب أولي النهى للرحيباني ج2 ص285.
([11])المحلى بالآثار لابن حزم، ج5 ص41.
([12]) أخرجه الترمذي في كتاب الجنائز، باب ما جاء في رفع الدين على الجنازة، برقم (1078)، سنن الترمذي ج3 ص389، وأخرجه ابن ماجه في كتاب الصدقات، باب التشديد في الدين، برقم (2413)، سنن ابن ماجه ج2 ص806، وأخرجه الإمام أحمد في مسنده ج2 ص440، صححه السيوطي في الجامع الصغير، (٩٢٦٢).
([13]) أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب تفسير البر والإثم، صحيح مسلم بشرح النووي ج16 ص110.