والجواب من حيث العموم: أنه عندما تقتضي الحال شراكة اثنين أو أكثر في أمر تجاري فلا يحق لأحدهم التصرف في حق شريكه إلا بإذنه، وفي جميع الأحوال تقتضي الشراكة-سواءٌ كانت معلنة أم خفيةً-حسن النية بين أصحابها، وعدم خيانة أحدهم لشريكه؛ عملًا بقول رسول الله -ﷺ-وسلم: (قال الله -عز وجل-: “أنا ثالث الشريكين ما لم يخن أحدهما صاحبه”)([1]).
وقد تقتضي طبيعة محل الشراكة وقوع حصة الشريك على المال كله، كما هو الحال في أرض لا تقبل القسمة، إما لطبيعتها، أو لوجود تنظيم يمنع تجزئتها، وقد تقتضي طبيعة الشراكة إمكانية قسمة المال المشترك، فيجتمع الشريكان في وقت، ثم يفترقان في وقت آخر بعد قسمته، وفي هذه الحال لا يتصور وجود مشكلة؛ لأن كلًّا من الشريكين قد تفرد بحقه، كما هو الحال في الأرض القابلة للقسمة، وعندما تستمر الشراكة برضا الشريكين أو الشركاء، أو لعدم قسمة مالهما المشترك لأي سبب، يصبح حق كل شريك منصبًّا على المال كله، فلا يجوز لأحد منهما الانفراد بالتصرف فيه، ما لم يأذن له في ذلك شريكه، وإلا عد متعديًا على حقه.
وفي مذهب الإمام أبي حنيفة: يعد كل واحد من الشريكين “كأنه أجنبي في نصيب صاحبه، لا يجوز له التصرف فيه بغير إذنه؛ لأن المطلق للتصرف الملك أو الولاية، ولا لكل واحد منهما في نصيب صاحبه ولاية بالوكالة أو القرابة، ولم يوجد شيء من ذلك”([2]).
وفي مذهب الإمام مالك: إذا اشترك الشريكان في سلعة موصوفة أو بعينها لم يكن لأحدهما بيعها بغير إذن صاحبها([3])، ومن ذلك: ما لو زرع أحد الشريكين، وبنى في أرض بينهما بغير إذن شريكه يعد غاصبًا([4]).
وفي مذهب الإمام الشافعي: يشترط لفظ صريح من كل منهما، أو من أحدهما للآخر، يدل على الإذن للمتصرف من كل منهما أو أحدهما في التصرف بالبيع والشراء الذي هو التجارة([5])، ويعني ذلك أن كل تصرف من الشريك دون إذن شريكه يعد تعديًا على حقه.
وفي مذهب الإمام أحمد: ليس لأحد من الشركاء أن ينفق من المال المشترك أكثر من نفقة شريكه إلا بإذنه، وبغير ذلك يعد فعله خيانة أو غصبًا، وعلى هذا يحرم على الشريك في الزرع فرك شيء من سنبله يأكله بلا إذن شريكه؛ لأنه تصرف في المال المشترك بغير إذن صاحبه([6])، أما إذا وكل أحد الشركاء شريكه في التصرف فعندئذ ينفذ تصرفه في جميع المال؛ وذلك بحكم الملك في نصيبه، وبحكم الوكالة في نصيب شريكه؛ لأنها مبنية على الوكالة والأمانة([7]).
ومن الواضح في المسألة أن الأرض باسم أحد الشريكين، وأن الآخر شريك خفي، لا وجود له من الناحية الرسمية، فينبني على ما سبق أن تصرف الشريك ببيع الأرض يعد صحيحًا من حيث القضاء، ولكنه من حيث الديانة يعد تعديًا على حق شريكه، وكان من الواجب عليه بحكم الديانة استئذان شريكه قبل بيع الأرض، ولا حجة له في عدم معرفة عنوانه؛ لأن ذلك متيسر من عدة طرق معروفة في الإجراءات القضائية.
أما الشريك الذي لم يعلم بالبيع فعليه إثبات حقه في الأرض، فإذا فعل ذلك فيحق له حينئذ إما الشفعة، وإما إجازة البيع، وأخذ نصيبه من الثمن.
وخلاصة المسألة: أن تصرف الشريك الذي باع الأرض يعد تصرفًا صحيحًا من حيث القضاء؛ لأن الأرض باسمه من الناحية الرسمية، ولكن تصرفه من حيث الديانة، وما توجبه الشراكة من حسن النية يعد تعديًا على حق شريكه، وعلى هذا الشريك إثبات حقه فإذا فعل ذلك فيحق له حينئذ إما الشفعة، وإما إجازة البيع، وأخذ نصيبه من الثمن.
والله أعلم.
([1]) أخرجه أبو داود في كتاب البيوع، باب في الشركة، برقم (3383)، سنن أبي داود ج3 ص256، صححه السيوطي في الجامع الصغير، (١٩١٨).
([2]) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع للكاساني ج6ص65-66، وانظر: حاشية رد المحتار على الدر المختار لابن عابدين ج4ص317-318.
([3]) الكافي في فقه أهل المدينة المالكي للقرطبي ص392.
([4]) شرح منح الجليل لعليش ج6ص248 – 250، وانظر: مواهب الجليل لشرح مختصر خليل للحطاب ج5ص117.
([5]) حواشي الشرواني والعبادي على تحفة المحتاج ج5ص284-285، وانظر: نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج للرملي ج5ص5-6، والمجموع شرح المهذب للنووي ج14ص68، ومغني المحتاج إلى معرفة ألفاظ المنهاج للشربيني الخطيب ج2ص212-213.
([6]) كشاف القناع عن متن الإقناع للبهوتي ج3ص497-502.
([7]) مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى للرحيباني ج3ص501.