والجواب: أن الله -سبحانه وتعالى-حين أوجب الواجبات، وفرض الفرائض على خلقه لم يكلفهم بما يشق عليهم، ولم يحملهم ما لا يطيقونه منها، فعفا عن الذي لم يقدر منهم على فعل ما أُمِر به، ولم يضيع الله له أجرًا، أو يحاسبه على ما لم يقدر عليه؛ لأنه أعلم بأحوال خلقه، وأدرى بقدراتهم وسرائرهم، لايخفى عليه شيء من أمورهم: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُور} [غافر:19].
وقد بين أن تكليفهم مقترن بقدرتهم، وأن المكلف منهم غير ملزم بما يشق عليه، والأدلة في هذا كثيرة، قال الله -تعالى-: {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ
عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ} [البقرة:286]، وقال-تعالى-: {يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]، وقال -تعالى-: {يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا} [النساء:28].
والأدلة في السنة على هذا المعنى كثيرة، ففي الحديث: «إن الخلق لما قالوا: {رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا} قال الله -تعالى-: {قد فعلت}([1])، وقال رسول الله -عليه الصلاة والسلام-: «بعثت بالحنيفية السمحة»([2])، وقال: «بشروا ولا تنفروا، ويسروا ولا تعسروا»([3])، وما خُيِّرَ -عليه الصلاة والسلام- بين أمرين إلا اختار أيسرهما، ما لم يكن إثمًا([4]).
وقد اتفق العلماء على أن القدرة شرط للتكليف:
وفي مذهب الإمام أبي حنيفة: تنقسم القدرة إلى ممكنة وميسرة؛ فالقدرة الممكنة هي أدنى ما يتمكن به المأمور من أداء ما أُمِر به بدنيًا كان أو ماليًا، فالزاد والراحلة من قبيل القدرة الممكنة للحج، وبدونهما لا يتيسر الحج إلا بحرج عظيم.
قلت: ودليل هذا قول الله -تعالى-: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران:97]، وفسر ذلك بالزاد والراحلة، فإذا لم يتوافرا لدى مريد الحج تنتفي الاستطاعة المطلوبة، ومن ثم يرتفع التكليف عنه إلى حين القدرة.
أما القدرة الميسرة (في المذهب الحنفي) فقد شرطت في أكثر الواجبات المالية لا البدنية، ومن ذلك: سقوط الزكاة بهلاك المال؛ لتعين المحل، فلو سرق مال الزكاة، أو صار ضمارًا سقطت عنه الزكاة؛ لفوات القدرة، ولو وجبت مع ذلك كان الأمر عسيرًا([5]).
وقد أوضح الإمام الشاطبي أن الشارع لم يقصد التكليف بالشاق والإعنات فيه، وذلك بدلائل متعددة:
أحدها: قول الله -تعالى-: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157]، وقوله: {رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا} [البقرة:286].
وثاني الدلائل: مشروعية الرخص مما عُلِم من الدين ضرورةً، كرخص القصر، والفطر، والجمع، وتناول المحرمات عند الاضطرار، ولو كان الشارع قاصدًا للمشقة -وحاشاه- لما كان ثم ترخيص ولا تخفيف.
وثالث الدلائل: الإجماع على عدم وقوعه وجودًا في التكليف، وهذا يدل على عدم قصد الشارع إليه.
ورابع الأدلة: أنه لا ينازَع في أن الشارع قاصد للتكليف بما يلزم فيه كلفة ومشقة ما، ولكن لا تسمى في العادة المستمرة مشقة، كما لا يسمى في العادة مشقة طلب المعاش بالتحرف وسائر الصنائع؛ لأنه ممكن معتاد([6]).
وقد أفرد الإمام عز الدين بن عبد السلام فصلًا في المشاق الموجبة للتخفيفات الشرعية، فجعلها ضربين:
الضرب الأول: مشقة لا تنفك العبادة عنها كمشقة الوضوء والغسل في شدة السبرات([7])، وكمشقة إقامة الصلاة في الحر والبرد، وكمشقة الصوم في شدة الحر وطول النهار.
الضرب الثاني: مشقة تنفك عنها العبادات، وهي أنواع:
النوع الأول: مشقة عظيمة فادحة، كالخوف على النفوس والأطراف ومنافعها، فهذه موجبة للتخفيف والترخيص؛ لأن حفظ هذه لإقامة مصالح الدارين أولى من تعريضها للفوات من عبادة أو عبادات، ثم تفوت أمثالها.
النوع الثاني: مشقة خفيفة كأدنى ألم في الأصبع، أو أدنى صداع في الرأس، أو سوء مزاج خفيف، فهذا لا يلتفت إليه؛ لأن تحصيل مصالح العبادة أولى من دفع مثل هذه المشقة التي لايؤبه لها.
النوع الثالث: مشقة واقعة بين هاتين المشقتين، مختلفة في شدتها وخفتها، فما دنا منها من المشقة الكبرى أوجب التخفيف، وما دنا منها من المشقة الدنيا لم يوجبه، ومن ذلك: الحمى الخفيفة، ووجع السن اليسير..([8]).
ومن شروط التكليف: إمكان التمكن منه؛ فمن كلف بفعل فلا بد أن يمضي زمان فعله، فإن نقص الوقت عن الفعل لم يكن مكلفًا به إلا على من يقول بجواز التكليف في المحال.
ومن فروع هذه المسألة: أنه إذا دخل وقت الصلاة المفروضة، وجُن عليه قبل مضي زمن يسعه، فلا يجب عليه القضاء.
ومن أيسر، ولم يحج، ثم مات من تلك السنة قبل تمكنه من الحج، فلا يجب قضاء الحج عنه؛ لعدم وجوبه عليه أصلًا بسبب العسر، ولو جامع في رمضان، ثم مات في يومه، فلا كفارة عليه([9]).
وإذا كان التكليف لا يلزم إلا مع القدرة الممكنة، فما الحال إذا كان المكلف يقدر على أداء المأمور به بمساعدة غيره، ومن ذلك: الأعمى الذي يجد من يقوده إلى المسجد، والمسن إذا وجد من يعينه على أداء الحج من رمي ونحوه؟.
إن عامة الفقهاء يرون القادر بمساعدة غيره مكلفًا ملزمًا بالأداء، فعلى الأعمى الصلاة مع الجماعة، وعلى الشيخ المسن السفر للحج([10]).
ولكن أنواعًا من العبادة لا يمكن المساعدة فيها من الغير، ومن ذلك: الصيام؛ لأنه فعل مخصوص قائم بين العبد وربه، فلا تصح الإنابة أو الوكالة فيه، فليس للابن أن يصوم عن أبيه، ولا الزوجة عن زوجها، وهكذا.
وينبني على ما سبق أن الشخص في السؤال يعد غير مكلف بالصوم إذا كان لا يقدر عليه إلا بمشقة غالبة؛ والزمانة في المرض وكبر السن البالغ يعدان في الغالب من الأسباب المانعة للتكليف بالصوم، وليس في الإصرار على العبادة مع المشقة المانعة أجر، فالله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه.
ولما جاء نفر إلى رسول الله -ﷺ-، وتحادثوا فيما بينهم، فقال أحدهم: أنا أصلي، ولا أفتر. وقال الآخر: أنا أصوم، ولا أفطر. وقال الثالث: أنا لا أتزوج النساء، قال عليه الصلاة والسلام: «أنا أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني»([11]).
وخلاصة المسألة: أن الله -سبحانه وتعالى-حين فرض الفرائض على خلقه لم يكلفهم بما يشق عليهم، ولم يحملهم ما لا يطيقون منها، فعفا عمن لم يقدر منهم على فعل ما أُمِر به، ولم يضيع له أجرًا، أو يحاسبه على ما لم يقدر عليه.
وقد بين في كتابه أن تكليفهم مقترن بقدرتهم، وأن المكلف منهم غير ملزم بما يشق عليه، كما بين رسوله -عليه الصلاة والسلام- أنه بعث بالحنيفية السمحة، ولم يخير بين أمرين إلا اختار أيسرها، ما لم يكن إثمًا.
وبهذا فالقدرة شرط للتكليف، وهي محددة بعدم العسر حين إتيان الفعل، ولها وجهان: قدرة بذات المكلف كالقادر على الصلاة والصوم، وقدرة باستعانة المكلف بغيره كوجود دليل يقود الأعمى إلى المسجد، أو يساعده في أعمال الحج.
والصوم من العبادات التي لا تجوز الإنابة أو الوكالة فيها؛ لأنه فعل يباشره المكلف بنفسه، ولهذا يعد الشخص في المسألة غير مكلف بالصوم إذا كان لا يقدر عليه إلا بمشقة غالبة، والزمانة في المرض وكبر السن البالغ يعدان في الغالب من الأسباب المانعة للتكليف بالصوم، والله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه. والله أعلـم.
([1]) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب تجاوز الله -تعالى- عن حديث النفس، صحيح مسلم بشرح النووي ج2ص146.
([2]) أخرجه الإمام أحمد في المسند، ج5 ص266، صححه ابن حجر العسقلاني في كشف الستر، (٣٧).
([3]) أخرجه مسلم في كتاب الجهاد والسير، باب تأمير الإمام الأمراء على البعوث، صحيح مسلم بشرح النووي ج12 ص40-41.
([4]) أخرجه البخاري (٣٥٦٠)، ومسلم (٢٣٢٧).
([5]) التقرير والتحبير لابن الحاج على تحرير الإمام الكمال بن الهمام ج2ص86، وانظر: كشف الأسرار للبزدوي ج1ص201، وفواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت بهامش المستصفى من علم الأصول للغزالي ج1 ص137.
([6]) الموافقات في أصول الشريعة للشاطبي ج2 ص121-123.
([7]) السبرة: الضحوة الباردة، والجمع: سبرات. المصباح المنير للفيومي ج1 ص263.
([8]) قواعد الأحكام في مصالح الأنام ج2 ص7-8.
([9]) التمهيد في تخريج الفروع على الأصول للأسنوي ص118، وانظر: الإحكام في أصول الأحكام للآمدي ج1ص119، وشرح التلويح على التوضيح للتفتازاني ج1ص197 – 198، وإرشاد الفحول للشوكاني ص9.
([10]) المغني والشرح الكبير لابن قدامة ج2ص3، ج3ص70، وكشف الحقائق شرح كنز الدقائق ج1ص126، ونهاية المحتاج إلى شرح المنهاج للرملي ج3ص253، وشرح الزرقاني على مختصر خليل ج2ص234.
([11]) متفق عليه، أخرجه البخاري في كتاب النكاح، باب الترغيب في النكاح، صحيح البخاري ج6ص116، وأخرجه مسلم في كتاب النكاح، باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه، ووجد مؤنة، صحيح مسلم بشرح النووي ج9 ص175-177.