ومفاد المسألة أن أناسًا يستعملون مواد (كيماوية) للتأثير في طبيعة الأطعمة؛ لغرض التعجيل ببيعها، ومن ذلك على سبيل المثال: وضع مادة في عرق شجرة العنب؛ للتعجيل بنضجه واحمراره أو اسوداده، ووضع مادة في عرق شجرة البطيخ للتعجيل باحمراره، ومن ذلك -أيضًا-: إعطاء الحيوانات والطيور مواد معينة؛ لتسمينها، وتحسين إنتاجها، ونحو ذلك مما هو معروف اليوم في بعض البلدان كما يقول السؤال.

حكم التأثير في طبيعة الأطعمة لغرض التعجيل ببيعها

والجواب: أن الأصل في التعامل الصدق، وبيان وضع السلعة المراد بيعها إذا كان ذلك مما يخفى على المشتري، وقد بيّن ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقوله: «المسلم أخو المسلم، ولا يحل لمسلم باع من أخيه بيعًا وفيه عيب إلا بيّنه له»([1])، ولما مر -عليه الصلاة والسلام- برجل يبيع طعامًا أدخل يده فيه، فإذا هو مبلول، فقال: «من غشنا فليس منا»([2])، وفي لفظ مسلم: «فليس مني»([3]).

وينبني على ذلك تحريم كتم العيب في السلعة، أو محاولة إخفائه عن المشتري بأي صفة، كما ينبني عليه تحريم الغش بكل طرقه وصوره؛ لما فيه من الظلم والفساد في الأرض، قال النووي في معنى قول رسول الله -ﷺ-: «من غشنا فليس مني» أي: “ليس ممن اهتدى بهديي، واقتدى بعلمي وعملي وحسن طريقتي، كما يقول الرجل لولده إذا لم يرض فعله: لست مني، وهكذا في نظائره..، وكان ابن عيينة يكره تفسير مثل هذا، ويقول: بئس مثل القوم، بل يمسك عن تأويله؛ ليكون أوقع في النفوس، وأبلغ في الزجر”([4]).

والغاية من بيان العيب في السلعة جعل المشتري على علم بها علم يقين، بحيث يكون له الخيار في شرائها أو عدمه، فإن علم بعيبها، واقتنع به فقد انتفت صفة الغش من جانب البائع.

وفي مذهب الإمام مالك: أن البائع ملزم بالإخبار عن كل ما لو علم المبتاع به لقلَّتْ رغبته في الشراء. والقياس في المذهب عدم جواز التصدق بالمغشوش القليل منه والكثير، وفيه: أن من غش في أسواق المسلمين يعاقب بالسجن والضرب والإخراج من السوق إن كان اعتاد الغش، ولا يرجع إليه حتى تظهر توبته، وقيده بعض أهل النظر بما إذا كان لا يمكنه الرجوع، ولا يعرف، وإلا أدب بالضرب([5]).

ويرى الإمام الغزالي أن “كل ما يستضر به المعامل ظلم، والعدل ألا يضر بأخيه المسلم، والضابط الكلي فيه: ألا يحب لأخيه إلا ما يحب لنفسه”، فكل ما لو عومل به شق عليه، وثقل على قلبه، فينبغي ألا يعامل غيره به، بل ينبغي أن يستوي عنده درهمه ودرهم غيره”([6]).

وقد فصل ذلك في أربعة أمور:

الأول: عدم الثناء على السلعة بما ليس فيها، وألا يكتم من عيوبها وخفايا صفاتها شيئًا أصلًا.

والثاني: أن يظهر جميع عيوب المبيع: خفيِّهَا وجَلِيِّها، ولا يكتم فيها شيئًا، فإن أخفاه كان ظالمًا غاشًّا.

الثالث: ألا يكتم في المقدار شيئًا، وذلك بتعديل الميزان، والاحتياط فيه وفي الكيل.

الرابع: أن يصدق في سعر الوقت، فلا يخفي منه شيئًا([7]).

واستدلالًا بقول رسول الله -ﷺ-: «من غشنا فليس منا» فإن الغش ينبغي أن يكون من الكبائر على مايراه بعض علماء المذهب الشافعي؛ لما ذكر من الوعيد الشديد فيه.

وضابط الغش المحرم: أن يعلم صاحب السلعة فيها شيئًا، لو اطلع عليه مريد أخذها ما أخذها بذلك المقابل، فوجب على البائع أن يُعلمه به؛ ليكون على بصيرة، وليس هذا الواجب على البائع وحده، بل على كل عالم بالعيب في السلعة وإن لم يسأله عنها، فإذا رأى الأجنبي إنسانًا يخطب امرأة، ويعلم بها أو به عيبًا، عليه أن يخبر به مريد أخذها، وإن لم يسأله عنها، ومثل ذلك: ما لو رأى إنسانًا يريد مخالطة آخر لمعاملة أو صداقة، وعلم بأحدهما عيبًا، أن يخبر به وإن لم يستشر به، وهذا مبني على أداء النصيحة المطلوبة من المسلم لخاصة المسلمين وعامتهم([8]).***

وقد تحدث الإمام ابن تيمية عن الكيمياء، ومقصوده منها ما يصنعه الإنسان من الذهب والفضة وغيرهما من أنواع الجواهر والطيب المعروفة اليوم (Artificial material) (تشبيهًا) بتلك المتأتية من خلق الله، أي: الأنواع الطبيعية المستخرجة من مكنوناتها الحقيقية، فقال: “من زعم أن الذهب المصنوع مثل المخلوق فقوله باطل في العقل والدين”، وقصده-رحمه الله -أن الكيميائيين آنذاك كانوا يَغَشُّونَ الناس حين يخلطون الذهب والفضة الحقيقيين بالذهب والفضة المزورين أو الكيميائيين، وهذا واضح من قوله: “وأهل الكيمياء من أعظم الناس غشًّا، ولهذا لا يُظهرون للناس إذا عاملوهم أن هذا من الكيمياء، ولو أظهروا للناس ذلك لم يشتروه منهم.. وقد قال الأئمة: إنه لا يجوز بيع المغشوش الذي لا يعلم مقدار غشه، وإن بين للمشتري أنه مغشوش”([9]).

وينبني على ما سبق أن استعمال المواد الكيماوية للتأثير في طبيعة الأطعمة وخواصها يعتبر غشًّا محرمًا؛ للأسباب التالية:

أولًا: أن الفاعل بفعله هذا قد خان أمانته، فبائع الطعام يعد مؤتمنًا على سلامته، وغالبًا ما يفترض فيه المشتري هذه الأمانة، فيقبل ما يعرضه عليه، فإذا أفسد ما يبيعه-بأن غيّر طبيعته وخواصه-فقد خان أمانته، وعصى أمر الله في قوله -تعالى-: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُون}([10])، وأصبح بالتالي في عداد المنافقين الذين من صفاتهم خيانة الأمانة.

السبب الثاني: أن الفاعل بفعله هذا يخدع المشتري حين يصور له الطعام على غير حقيقته، فيشتريه دون علم منه بما فعله الفاعل، ولو علم به لما اشتراه، فأصبح الفاعل بذلك مستحلًّا لمال غيره بدون رضاه، وبالتالي صار في عداد الذين يأكلون أموال الناس بالباطل.

السبب الثالث: أن الطعام يصبح بعد تغيير طبيعته ضارًّا لمن يستعمله، فكل شيء من الأطعمة له طبيعة وخواص معينة، فإذا تدخل الإنسان فيها أفسدها، فنمو الفواكه مثلًا له زمن معين، ونمو الحيوانات والطيور له كذلك زمن معين، فإذا اختصر الإنسان هذا الزمن بفعل كيماوي أو بأي وسيلة مماثلة، فمن المحتمل أنه قد أفسد هذا النمو، وسبب بالتالي ضررًا للمشتري.

وخلاصة المسألة: أن الأصل في التعامل الصدق والإخلاص، وهذا يقتضي بيان العيب في السلعة المراد بيعها؛ لكي يكون المشتري على علم بها، فإن أخفى البائع عيب السلعة أو عيوبها فقد أصبح بذلك غاشًّا لغيره.

وقد حرم الإسلام الغش بجميع صوره ووسائله، وقد بيّن ذلك رسول الله -ﷺ- بقوله: «من غش فليس مني»، ومن الغش: استعمال المواد الكيماوية للتأثير في طبيعة الأطعمه وخواصها، ومن فعل ذلك فقد خان أمانته، وخدع المشتري، وسبب له الضرر، ذلك أن الطعام يصبح بعد تغيير طبيعته وخواصه ضارًّا لمن يستعمله. والله -تعالى- أعلم.

 

([1]) أخرجه ابن ماجه في كتاب التجارات، باب من باع عيباً فليبينه، برقم (2246)، سنن ابن ماجه ج2 ص 755، صححه الألباني في صحيح ابن ماجه، (١٨٣٧).

([2]) أخرجه ابن ماجه في كتاب التجارات، باب النهي عن الغش، برقم (2224)، سنن ابن ماجه ج2 ص749، صححه الألباني في صحيح الجامع، (٦٤٠٧)..

([3]) صحيح مسلم بشرح النووي، كتاب الإيمان، باب قوله-ﷺ-: «من غشنا فليس منا»، ج2 ص 108-109.

([4]) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، ج2 ص108، ونيل الأوطار للإمام الشوكاني ج5 ص325.

([5]) انظر: مواهب الجليل للحطاب ج4 ص 491، وشرح منح الجليل لعليش ج4 ص533-535.

([6]) إحياء علوم الدين للإمام الغزالي ج2ص70-74.

([7]) إحياء علوم الدين ج2ص70-74.

([8]) نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج للرملي ج4ص71.

([9]) فتاوى الإمام ابن تيمية ج29ص368-382.

([10]) سورة الأنفال الآية 27.