ومفاد السؤال: أن شخصًا كان مدينًا بمبلغ لأحد أصدقائه، وقد أوفاه هذا الدين قبل وفاته، ورغم ذلك أصبح يشك في وفائه لهذا الدين، بل إن هذا الشك أصبح يلازمه في يقظته ومنامه.

قاعدة (لا مجال للشك مع اليقين) وحكم من اقترض ثم شك في الوفاء

وقد سأل ورثة صديقه عما إذا كان في أوراق مورثهم ما يفيد عن هذا الدين أو وفائه، أو عدم وفائه، فأجابوه أنهم لم يجدوا عنه شيئًا، بل إنهم عفوا -هكذا ورد في السؤال- عما قد يكون لمورثهم عنده، وذلك لمعرفتهم بصداقته، وملازمته له، ورغم ذلك يسأل السائل عما يجب تجاه هذا الشك.

والجواب: أن هذا الشك قد يكون من الوساوس التي قد تنتاب الإنسان، فتغلب عليه، فيتحول اليقين عنده إلى شك، ويصبح الشك عنده كاليقين، ولهذه الوساوس أسباب متعددة:

منها: ما قد يكون مصدره الحرص على إتقان أمر من الأمور، ومن ذلك مثلًا: الحرص على الطهارة حين يشك المتطهر فيما إذا كان قد أتقن طهارته أم لا.

ومن ذلك: وفاء الدين -كما هو الحال في السؤال- حين يشك المدين فيما إذا كان قد أوفى دينه أم لا، خاصة إذا كان دائنه قد توفي، أو كان بعيدًا عنه لا يستطيع التيقن منه.

ومن أسباب الوساوس: ما قد يكون نفسيًّا؛ لتعرض صاحبها لأمر سبب له الشك والوهم.

ومنها: ما يكون مصدره عضويًّا كمرض الجسد أو أحد أعضائه؛ مما يؤثر على النفس، فيسبب لها الشك والظن، وهكذا.

وقد أوجب الإسلام إزالة الشك إذا وُجِد اليقين؛ لما في الشك من التردد والخوف، وسوء الظن، وعدم انضباط النفس، فقد روى عبد الله بن زيد أنه شكا إلى النبي -ﷺ- الرجل الذي يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة، فقال: «لا ينصرف حتى يسمع صوتًا، أو يجد ريحًا»([1])، وروى أبو سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -ﷺ-: «إذا شك أحدكم في صلاته، فلم يدر كم صلى؟، ثلاثًا أم أربعًا؟، فليطرح الشك، وليبن على ما استيقن»([2])، وروى عبد الرحمن بن عوف أنه سمع رسول الله -ﷺ- يقول: «إذا سها أحدكم في صلاته، فلم يدر واحدة صلى أو ثنتين؟ فليبن على واحدة، فإن لم يدر ثنتين صلى أو ثلاثًا؟ فليبن على ثنتين، فإن لم يدر ثلاثًا صلى أو أربعًا؟ فليبن على ثلاث، وليسجد سجدتين قبل أن يسلم»([3]).

والأصل في هذا اليقين، فمن دخل المسجد متطهرًا لا ينتقض وضوؤه إلا إذا تيقن خروج شيء منه، إما بالصوت أو بالرائحة، وهما وسيلتان لليقين، وما عداهما فهو شك يجب طرحه، والشك في الركعتين يعني التيقن من واحدة، والشك في الثلاث يعني التيقن من الركعتين، فجاء الأمر بطرح الشك، والبناء على اليقين.

وقد أسس الفقهاء على هذه الأحاديث عدة قواعد:

منها: القاعدة الشهيرة في المذهب الحنفي بأن “اليقين لا يزول بالشك”([4])، وقد تفرع من هذه القاعدة قواعد أخرى، منها: “الأصل بقاء ما كان على ما كان”، وذلك للدلالة على وجوب ثبات الثابت، وعدم الشك فيه([5]).

وقد تفرع من هذه القاعدة -أيضًا- عدة مسائل:

منها: أن من تيقن الطهارة، وشك في الحدث، فهو متطهر، ومن تيقن الحدث، وشك في الطهارة فهو محدث.

ومنها: أنه إذا كان لأحمد على محمد ألف ريال مثلًا، فبرهن محمد على أداء الدين أو إبرائه منه، ثم برهن على أن له على أحمد ألفًا لم تقبل حتى يبرهن أنها حادثة بعد الأداء أو الإبراء([6]).

ومنها: أن حوض الماء الذي يتعرض للأيدي أو الجرار الوسخة يجوز الوضوء منه، ما لم يُعْلم به نجاسة.

ومنها: طهارة طين الطرقات، وأن من أكل آخر الليل، وشك في طلوع الفجر، صح صومه؛ لأن الأصل بقاء الليل (خلافًا للإمام أبي حنيفة الذي يرى أنه مسيء بالأكل مع الشك).

ومن ذلك: أنه لو شك الصائم في الغروب لم يأكل؛ لأن الأصل بقاء النهار، وأن المرأة إذا ادعت عدم وصول النفقة والكسوة المقررتين لها في مدة مديدة فالقول قولها؛ لأن الأصل بقاؤهما في ذمته كالمدين إذا ادعى دفع الدين وأنكر الدائن…([7]).

ومن القواعد الفقهية في هذا المجال: أن “ما ثبت بيقين لا يرتفع إلا بيقين”، ومن ذلك أن من لم يفته من الصلاة شيء، وأحب أن يقضي صلاة عمره منذ أدرك لا يستحب له ذلك إلا إذا كان أكبر ظنه فسادها بسلب الطهارة، أو ترك أحد شروطها، فحينئذ يقضي ما غلب على ظنه، وما زاد عليه يكره منه؛ لورود النهي عنه([8])، ومن شك في ركوع أو سجود وهو في الصلاة أعاد، وإن كان بعدها فلا([9]).

ومن شك: هل طلق زوجته أو لا؟ لم يقع، ومن شك أنه طلقها واحدة أو أكثر بنى على الأقل إلا أن يستيقن بالأكثر، ومن كان عليه دين، وشك في قدره وجب عليه إخراج المتيقن منه([10]).

وجملة ما في المذهب الحنفي في هذه المسألة: “أن اليقين السابق لا يزول بالشك الطارئ، وأنه لا يزول إلا بيقين مثله”، ومثال ذلك: “ما لو أقر شخص بمبلغ لآخر قائلًا: أظن أنه يوجد لك بذمتي كذا مبلغ، فإقراره هذا لا يترتب عليه حكم؛ لأن الأصل براءة الذمة، والأصل هو المتيقن، فما لم يحصل يقين يشغل ذمته لا يثبت المبلغ عليه للمقر له؛ إذ إن إقراره لم ينشأ منه عن يقين، بل عن شك وظن، وهذا لا يزيل اليقين ببراءة ذمة المقر…”([11]).

وفي مذهب الإمام مالك: أن كل مشكوك فيه-سواءٌ كان سببًا، أوشرطًا، أو مانعًا-ملغى، وفي تهذيب الفروق ما يأتي: “فكل سبب شككنا في طريانه([12]) لم نرتب عليه مسببه، وجعلنا ذلك السبب كالمعدوم والمجزوم بعدمه، فلا نرتب الحكم، وكل شرط شككنا في وجوده جعلناه كالمجزوم بعدمه، فلا نرتب الحكم…”([13]).

وفي مذهب الإمام الشافعي يقول الإمام عز الدين بن عبد السلام: “إنا نقول: إن الله -تعالى- أوجب علينا في الأقوال والأفعال ما نظن أنه الواجب، فإذا كان المتيقن هو المظنون فالمكلف يتيقن أن الذي يأتي به مظنون له، وأن الله -تعالى- لم يكلفه إلا ما يظنه، وإن قطعه بالحكم عند ظنه ليس قطعه بمتعلق ظنه، بل هو قطع بوجود ظنه، وفرق بين الظن وبين القطع بوجود المظنون، فعلى هذا من ظن الكعبة في جهة فإنه يقطع بوجوب استقبال تلك الجهة، ولا يقطع بكون الكعبة فيها… “([14]).

وفي مذهب الإمام أحمد: أن من تيقن الطهارة أو النجاسة في ماء، أو ثوب، أو أرض، أو بدن، ثم شك في زوالها، بنى على الأصل إلى أن يتيقن زواله، ولا يكتفي في ذلك بغلبة الظن ولا غيره”([15]).

وعلى هذا ينبغي القول: إن المتيقن لعمل عمله عليه أن يبقى على يقينه، ولا يعدل عنه بالشك أو الظن؛ لأن اليقين لا يصدر إلا من إدراك، ولا يكون الإدراك إلا من عقل، والشك لا يصدر إلا من ضعف في هذا الإدراك تبعًا لما قد ينتاب النفس من الوساوس.

وقاعدة “اليقين لا يزول بالشك” قاعدة عظيمة ينبني عليها الكثير من المسائل في الفقه؛ فمثلًا: الأصل في الأرض الطهارة استدلالًا بقول رسول الله -ﷺ-: «وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، فأيما رجلٍ من أمتي أدركته الصلاة فليصلِّ»([16])، فطهارة الأرض متيقنة، ولا يعدل عن هذا اليقين إلا بيقين مثله، وهو وجود نجاسة فيها.

والأصل براءة ذمة الإنسان، وهذه الذمة لا تشغل بالاحتمال، فلا يطالب إنسان بحق ما لم يكن هذا الحق متيقنًا كالنفقة على الوالدين أو الأولاد.

والأصل سلامة الإنسان من الإثم والفواحش؛ لكونه مولودًا على الفطرة، ولا يعدل عن هذا اليقين إلا بيقين مثله، وهو ارتكابه للخطيئة. والمسائل في هذا كثيرة.

والأمر واضح في المسألة، فالمدين متيقن أنه أوفى دائنه دينه قبل وفاته، فأصبح دينه في حكم المعدوم، والشك في هذا لا يشغل ذمته؛ لأنه دليل ضعيف في مواجهة دليل قوي هو الوفاء، فوجب طرحه بحكم قاعدة “اليقين لا يزول بالشك”.

وخلاصة المسألة: أن الإسلام أوجب إزالة الشك إذا وجد اليقين؛ لما في الشك من عدم الانضباط، وضعف الإدراك.

ومن القواعد المهمة في الفقه: أن “اليقين لا يزول بالشك”، وأن “ما ثبت بيقين لا يرتفع إلا بيقين مثله”، فمن تطهر وشك في الحدث فهو متطهر، ومن تيقن الحدث، وشك في الطهارة، فهو محدث، ومن تيقن وفاء دينه برئت ذمته، ولا تشغل هذه الذمة بالشك؛ لأن الوفاء يقين، والشك لا يرفع اليقين.

وعلى هذا فإنَّ تَيَقُّنَ المدين في المسألة كافٍ لبراءة ذمته، وما ينتابه من شك ناتج عن الوساوس التي قد يتعرض لها بعض الناس لأسباب متعددة، وعليه أن يتغلب عليها بما هو معروف في مثل هذه الحال. والله أعلم.

([1]) متفق عليه، أخرجه البخاري في كتاب الوضوء، باب لا يتوضأ من الشك حتى يستيقن، صحيح البخاري، ج1 ص43، وأخرجه مسلم في كتاب الطهارة، باب من تيقن الطهارة ثم شك له أن يصلي بطهارته، صحيح مسلم بشرح النووي، ج4 ص49-51.

([2]) أخرجه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب السهو في الصلاة والسجود له، صحيح مسلم بشرح النووي، ج5 ص59-61.

([3]) أخرجه الترمذي في أبواب الصلاة، باب فيمن يشك في الزيادة والنقصان، برقم (396)، سنن الترمذي، ج1 ص247، صححه الألباني في صحيح الجامع، (٦٢٢).

([4]) الأشباه والنظائر لابن نجيم، ص56-61.

([5]) الأشباه والنظائر، ص56-61.

([6]) الأشباه والنظائر، ص56-61.

([7]) الأشباه والنظائر، ص56-61.

([8]) الأشباه والنظائر، ص56-61.

([9]) الأشباه والنظائر، ص56-61.

([10]) الأشباه والنظائر، ص56-61.

([11]) درر الحكام شرح مجلة الأحكام لعلي حيدر، الكتاب الأول، ص20.

([12]) الطريان: هو الحصول بغتة. انظر: المصباح المنير للفيومي، ج2 ص372.

([13]) تهذيب الفروق والقواعد السنية في الأسرار الفقهية، بهامش الفروق للقرافي، ج2 ص173-174.

([14]) قواعد الأحكام في مصالح الأنام لعز الدين بن عبد السلام، ج2 ص51-52، وانظر: الأشباه والنظائر في قواعد وفروع فقه الشافعية للسيوطي، ص50-55.

([15]) القواعد للحافظ ابن رجب، ص340-342.

([16]) أخرجه البخاري في كتاب التيمم، باب قول الله -تعالى-: ﴿فلم تجدوا ماءً فتيمموا صعيداً طيباً فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه﴾، صحيح البخاري، ج1 ص86.