والجواب على هذا من وجهين:
الوجه الأول من حيث العمـوم: ومبناه أنه لا يجوز لأحد الأخذ من مال غيره دون إذنه وطيب نفسه، ذلك أن اختصاصه بهذا المال اختصاص مطلق، لا يقيده إلا ماوردت النصـوص بتقييده (كسلطة الوالد على مال ولده) كما سيأتي، وقد عظم الله أمر التعدي على مال الغير فقال تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ} [البقرة:188]، وقال تعالى في مال اليتامى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء:10].
وقد أكدت السنة حرمة مال الغير فعن أنس بن مالك أن النبي ﷺ قال: (لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه)([1]). وقال -عليه الصلاة والسلام-: (لا يأخذ أحدكم متاع أخيه لاعبًا ولا جادًا، فإذا أخذ أحدكم عصا أخـيـه فـلـيـردها إليه)([2]). وروي عن أصحاب النبي ﷺ أنهم كانوا يسيرون معه فنام رجـل منهم فانطلق عضهم إلى نبل معه فأخذه منه ففزع فقال النبي ﷺ: (لا يحل مسلم أن يروع مسلما)([3]). فدل هذا على أن الضرر لا يقتصر على أخذ المال، بل يتعدى إلى النفس بترويعها، فجـاء الضرر مضاعفًا عن أخذ المال وترويع صاحبه
الوجه الثاني: من حيث الخصوص، ومبناه أن الله تعالى فرض للمرأة حقوقًا، فمن تعدى عليها فقد تعدى على حق فرضه الله لها، سواء كان المتعدي زوجًا أو غيره، ومن هذه الحقوق حقها في صداقهـا ومالها، فلا يحل للزوج أن يأخذ منه شيئا إلا بطيب نفسها: ودليل ذلك قول الله تعالى في كتابه العزيز: {وَآتُواْ النَّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا} [النساء:4]، وقال تعالى: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينا} [النساء:20]، {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا} [النساء:21]، وقال تعالى: {فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء:25]، والنحلة في الآية الأولى هي صداق المرأة الذي فرضه الله لها، وهي في اللغة العطية من غير أخذ عوض وبطيب نفس([4]).
وقال الإمام الرازي في معنى قوله تعالى: {فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا}:، فإن وهبت الزوجات للأزواج شيئا من الصداق عن طيبة نفس، من غير أن يكون السبب شكاية في أخلاق الأزواج أو سوء معاشرتهم معهن، فكلوه وأنفقـوه، ثم قال: ” وفي الآية دليل على ضيق المسـلك، ووجوب الاحتياط حيث بني الشرط على طيب النفس فقال {فَإِن طِبْنَ}، ولم يقل: فإن وهـين أو سمحن إعلامًا بأن المراعى هو تجافي نفسها عن الموهوب طبية”([5]).
ولا تطيب نفسها إذا وهبت الزوج من صداقها ثم طلبته بعد الهبة. وروي أن امرأة جاءت مع زوجها إلى شريح في عطية أعطتهـا له وهي تطلب الرجوع فقال شريح رد عليها، فقال الرجل، أليس قد قال الله تعالى: {فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ}، فقال: لو طابت نفسها منه لما رجعت فيه([6])، وروي أن رجلًا أعطته امرأته ألف دينار صداقا كان لها عليه ثم طلقها، فخاصمته إلى عبد الملك بن مروان فقال الرجل أعطتني طيبة به نفسها، فقال عبد الملك: “فإن الآية التي بعدها تقول: {فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئًا} اردد عليها([7])، كما روي أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- كتب إلى قضاته: “إن النساء يعطين رغبة ورهبة فأيما امرأة أعطته ثم أرادت أن ترجع فذلك لها”([8]).
وفي قوله تعالى: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئًا} [النساء:20]، أمر للأزواج بألا يأخذوا شيئا من المهر الذي أعطوه لزوجاتهم إذا أرادوا أن يفارقوهن، ويستبدلوا مكانهن غيرهن وفي قوله تعالى: {وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} أمر أيضًا للأزواج بأن يعطوا زوجاتهم مهورهن عن طيب نفس، وألا يبخسـوهن هذا الحق الذي فرضه الله لهن، وأحكام الشريعة قائمة على اختصاص الزوجة بمالها، وليس للزوج منه إلا ما طابت به نفسها، سواء كان هذا المال صـداقا أو إرثا أو راتبا أو أي نوع آخر من أنواع المال، وباستثناء ما يجب لها من النفقة، تظل العلاقة بين مال الزوج ومال زوجته قائمة على اختصاص كل منهما بماله.
ففي المذهب الحنفي: لو عمّر أو بنى الزوج لزوجته دارا أو نحـوهـا، وكانت العمارة أو الـبـنـاء بأمرهـا، فكل ذلك لهـا، وليس للزوج إلا نفقاته، ولو بنى الزوج بناء لنفسه بآلاته وأدواته ولوازمه في عرصة زوجته وبدون إذنهـا فالبناء له، ولكنه يعد غاصبًا عرصتها فيجبر على تفريغ العرصة لدى مطالبة الزوجة بذلك([9]).
وفي مذهب الإمام مالك: قال المتبطي “لم يختلف قول مالك إن الرجل إذا أكل مال زوجته، وهي تنظر ولا تغير أو أنفقت عليه ثم طلبته بذلك، أن ذلك لها وإن كان عديمًا في حال الإنفاق، ويقضي لها عليه بعد يمينها أنها لم تنفق ولا تتركه يأكل إلا لترجع عليه بحقها([10])، وفي المدونة. . إن أنفقت عليه وهو حاضر مليء أو معدم، فلها اتباعه بذلك؛ إلا أن يرى أن ذلك معنى الصلة([11]).
وفي مذهب الإمام أحمد: ليس لغير الأب الأخـذ من مال غيره بغير إذنه؛ لأن الخبر ورد في الأب لقول رسول الله ﷺ حينما جاءه رجل فقال: يا رسول الله إن لي مالًا وولدًا، وإن أبي يريد أن يجتاح مالي فقال: (أنت ومالك لأبيك)([12])، فدل هذا على أنه ليس للزوج ومن عداه (باستثناء الاب) أن يأخذ من مال غيره إلا بإذنه، أما أن وهبت المرأة من مالها لزوجها فعن أحمد روايتان:
إحداهما: لا يجوز لها الرجوع فيها، وهو قول طائفة من الأئمة والتابعين.
والرواية الثانية: أن لها الرجوع، فقد سئل -رحمه الله- عن المرأة تهب ثم ترجع فجعل النساء غير الرجال ثم ذكر الحديث: (إنما يرجع في المواهب النساء وشرار الأقوام)([13])، ثم ذكر حديث عمـر: إن النساء يعطين أزواجهن رغبة ورهبة وأيما امرأة أعطت زوجها شيئًا ثم أرادت أن تعتصره فهي أحق به([14]).
وعنه رواية ثالثة: إنها إذا وهبت له مهرها فإن كان قد سألها ذلك رده إليها، رضيت أو كرهت؛ لأنها لا تهب إلا مخافة غضبـه أو إضراره بها بأن يتزوج عليها، وإن لم يكن قد سألها وتبرعت به فهو جائز([15])، قال الإمام ابن قدامة: ” فظاهر هذه الرواية أنه متى كانت الهبة قرينة من مسألته لها أو غصبه عليها أو ما يدل على خوفهـا منه فلها الرجوع؛ لأن شاهد الحال يدل على أنها لم تطب بها نفسها، وإنما أباحه الله تعالى عند طيب نفسها، بقوله تعالى: {وَآتُواْ النَّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا}([16]).
وينبني على ما سبق أنه لا يحل للزوج – كما ورد في السؤال أن يمسك مال زوجته؛ لأن إمساكه له يعد من باب الغصب والتعدي على حق غيره، وهذا محرم بالإجماع، والحكم الشرعي فيه واضح فيجب عليه رده، فإن لم يفعل وجب إجباره على رده، أما تهدیده ووعيده لزوجته فهو إثم آخر عليه أن يقلع عنه؛ لأنه من باب الأذى الذي نهى الله عنه في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا} [الأحزاب:58].
وخلاصة المسألة: أنه من حيث العموم لا يجوز لأحد الأخذ من مال غيره دون طیب نفسه؛ لأن اختصاصه بماله اختصاص مطلق لا يقيده إلا ما وردت السنة بتقييده، كسلطة الوالد على مال ولده. وقد نهى الله تعالى عن أكل المال بالباطل في قوله تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ}، وأكدت السنة حرمة مال الغير لقول رسول الله ﷺ: (لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفسه).
أما من حيث الخصوص فإن الله تعالى فرض لـلـمـرأة حقوقًا، ومن ذلك صـداقـها وسـائـر أمـوالـهـا، فـمـن تـعـدى عـلـيـها فقد تعدى على حق فرضه الله، سواء كان المتعدي زوجًا أو غيره، وعلى هذا لا يحل للزوج في المسألة أن يمسك مـال زوجته؛ لأن إمساكـه يـعـد مـن بـاب الـغـصـب والـتـعـدي عـلى مـالـهـا، وهـذا مـحـرم بـالإجماع، والحكـم الـشـرعي فيه واضح، فـيـجـب عـلـيـه رده، فإن لم يفعل وجب إجباره على رده، أما وعيده لها فهو إثم آخر عليه أن يتوب منه.
والله أعلم.
([1]) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى، ج6 ص100، ومجمع الزوائد ومنبع الفوائد للهيثمي،ج4 ص١٧٢، وكنز العمال في سنن الأقوال والأفعـال للبرهان فوري، ج۱ ص۹۲. وكشف الخفاء ومزيل الألباس للعجلوني، ج۲ ص٤٩٨، صححه الألباني في صحيح الجامع، (٧٦٦٢).
([2]) أخرجه أبو داود في كتاب الادب، باب من يأخذ الشيء على المزاح، برقم (5003)، سن أبي داود، ج4 ص301، والسنن الكبرى للبيهقي، ج6 ص100، ومجمع الزوائد الهيثمي، ج4 ص۱۷۲، قال الألباني في صحيح الترمذي، (٢١٦٠): صحيح لغيره.
([3]) أخرجه أبو داود في كتاب الادب، باب من يأخذ الشيء على المزاح، برقم (5004). سنن أبي داود، ج4 ص301، وأخرجه الإمام أحمد في مسنده، ج5 ص٣٦٢، والسنن الكبرى للبيهقي، ج10 ص٢٤٩، صححه السيوطي في الجامع الصغير، (٩٩٤٠)..
([4]) المصباح المنير للفيومي، ج۲ ص595.
([5]) أورده عبد الرزاق في كتاب المواهب، باب هبة المرأة لزوجها رقم (16560).تفسير الفخر الرازي، ج۹ مر۱۸۸- ۱۸۹.
([6]) أورده عبد الرزاق في كتاب المواهب باب هبة لزوجها، برقم (١١٥٦٢)، المصنف لعبدالرزاق ج 9 ص 115.
([7]) تفسير الفخر الرازي، ج9 ص189.
([8]) المصنف لعبد الرزاق، ج 9 ص114.
([9]) درر الحكام شرح مجلة الأحكام لعلي حيدر ص ٦٤١-٦٤٢، وكتاب الحوالة ص 515، سنة 51 حالة الطحطاوي على الدر المختار ج4 ص۱۰۰.
([10]) التاج بالإكليل لمختصر خليل المواق، هامش كتاب مواهب الجليل للحطاب، ج4 ص ١٩٣.
([11]) التاج والإكليل ج14 ص۱۹۳، وانظر شرح منح الجليل للشيخ محمد عليش، ج۷ ص76-77.
([12]) أخرجه ابن ماجه في كتاب التجارات، باب ما الرجل من مال ولده، برقم (۲۲۹۱) وقال محمد فؤاد عبد الباقي في الزوائد اسناده صحیح و رجاله ثقات على شرط البخاري. سنن ابن ماجه ج2 ص ۷6۹، وأخرجه أبو داود في كتاب البيوع، باب في الرجل يأكل من مال ولده، برقم (٣٥٢٨)، سنن أبي داود، ج۳ ص ۲۸۹، ومسند الإمام احمد ج۲ ص۲۰4، والسنن الكبرى للبيهقي ج7 من ٤٨٠، ومجمع الزوائد ومنبع الفوائد للهيثمي ج4 ص ١٥٤.
([13]) قال ابن حزم في المحلى، (٩/١٢٩): ضعيف.
([14]) قال ابن حجر العسقلاني في فتح الباري لابن حجر، (٥/٢٥٧): إسناده منقطع.
([15]) المغني والشرح الكبير لابن قدامة، ج6 ص۲۹۷-۲۹۸، وانظر مطالب أولى النهي في شرح غاية المنتهي الرحيباني، ج4 ص 404-405 , وشرح الزركشي في مختصر الخرقي ج4 ص ۳۱۱-۳۱۲، والإنصاف المرداوي ج۷ ص 154-155.
([16]) المغنى والشرح الكبير، ج6 ص 297-298.