الأصل أو العادة أن يكون هناك عقد بين المؤجر والمستأجر، تتحدد فيه الشروط والواجبات بينهما وفقًا لعرف المكان، والقواعد المعمول بها فيه، فقد يشترط المؤجر على المستأجر أن يسكن الدارة بنفسه؛ لما يعلمه عنه من المحافظة عليها مثلًا، وقد يجيز له أن يؤجرها لمنتفع آخر، ولكن يكون ذلك بعد إذنه، وقد لا يتضمن عقد الإجارة شرطًا أو شروطًا معينة، فيترك المؤجر والمستأجر الأمر لما يجري عليه العرف في زمانهما ومكانهما، فمن يستأجر مثلًا بناية متعددة الوحدات، ثم يقوم بتأثيثها إنما يقصد بذلك (عرفًا) تأجيرها لعدد من النزلاء، ولو لم يذكر ذلك صراحة في العقد، ومن يستأجر محلًّا ضمن محلات معدة للصناعة يقصد الانتفاع به لهذا الغرض وهكذا؛ لأن لكل شيء صفتَه التي لا تنفك عنه، ولكل أمر منزلته التي يجب أن ينزل عليها.
ولما كانت الإجارة عقد تمليك المنفعة فأشبهت -كما هو قول أكثر أهل العلم- البيع، فصار للمستأجر الانتفاع بها دون قيد، باستثناء ما يضر العين.
ففي المذهب الحنفي: أن من يستأجر منزلًا له أن يسكن فيه بنفسه، ومع غيره، وله أن يُسكن فيه غيره بالإجارة والإعارة؛ لأن الإجارة شرعت للانتفاع، والمنازل معدة للسكنى، ومنافع العقار المعدة للسكنى متقاربة؛ لأن الناس لا يتفاوتون في السكنى، فكانت معلومة من غير تسمية، وكذا المنفعة لا تتفاوت بكثرة السكان وقلتهم إلا يسيرًا، ولو أجر المستأجر الدار بأزيد من إجارته لم تجز له الزيادة، إلا إذا عمل فيها تحسينًا فيه نفع لها، وإلا فعليه أن يتصدق بالفضل بين الإجارتين([1]).
وفي مذهب الإمامين: مالك([2]) والشافعي([3]): يجوز للمستأجر تأجير محل إجارته، سواءٌ كانت هذه الأجرة أقل أم مساوية أم زائدة على أجرته، ما دام محل الإجارة لا يتأثر باختلاف المستعمل.
وفي مذهب الإمام أحمد مثل ذلك، فالمنصوص عن الإمام أحمد أن للمستأجر أن يؤجر العين المستأجرة إذا قبضها، وذكر القاضي من أئمة المذهب أنه لا يجوز؛ لأن النبي -ﷺ- نهى عن ربح ما لم يضمن، والمنافع لم تدخل في ضمانه، ولأنه عقد على ما لم يدخل في ضمانه، فلم يجز كبيع المكيل والموزون قبل قبضه([4]).
قلت: ومن المهم في المسألة الرجوع إلى العقد، فإن كان المؤجر قد شرط على المستأجر ألا يؤجر دارته لغيره، وإنما يسكنها بنفسه، أو شرط عليه ألا يؤجرها إلا بعد إذنه، فالواجب هنا الالتزام بالعقد؛ عملًا بقول الله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بالْعُقُود} [المائدة: 1]، وقوله -عز وجل-: {وَأَوْفُواْ بالْعَهْد إنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولًا} [الإسراء: 34]، وعملًا بقول رسوله -عليه الصلاة والسلام-: (المسلمون على شروطهم، إلا شرطًا حرم حلالًا، أو أحل حرامًا)([5])، وقول عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: “مقاطع الحقوق عند الشروط”([6]).
وهذا هو أحد الوجوه في مذهب الإمام الشافعي في لزوم الشرط؛ لأن المستأجر يملك المنافع من جهة المؤجر، فلا يملك ما لم يرض به([7]).
وهو كذلك عند الإمام ابن حزم؛ فمن استأجر دارا… أو شيئًا ما، ثم أجره بأكثر مما استأجره به أو بأقل أو بمثله، فهو حلال جائز، وكذا الصانع المستأجر لعمل شيء، فيستأجر هو غيره ليعمله له بأقل أو أكثر أو بمثله، فكل ذلك حلال، إلا أن تكون المعاقدة وقعت على أن يسكنها بنفسه، أو يعمل العمل بنفسه، فلا يجوز غير ما وقعت عليه الإجارة؛ لأنه لم يأت نهي عن النبي -ﷺ-عن ذلك([8]).
أما إن كان العقد بين المؤجر والمستأجر لم يتضمن مثل هذا الشرط، أي: أنه لم يُجِزْ للمستأجر التأجير لشخص آخر، أو يمنعه منه، فينبغي الرجوع إلى العرف، فإذا كان الناس قد اعتادوا على أن يتداولوا محل الإجارة بالتأجير بينهم فليس للمؤجر الاعتراض على ذلك، والعكس بالعكس؛ لأن المعروف عرفًا كالمشروط شرطًا([9])، والعادة محكمة بين الناس([10]).
وخلاصة المسألة: أن من المهم الرجوع إلى العقد بين المؤجر والمستأجر، فإذا كان المؤجر قد شرط على المستأجر ألا يؤجر الدارة لغيره فيجب الالتزام بالشرط؛ لأن المسلمين على شروطهم، وإن كان العقد خاليًا من شرط كهذا فيجب الرجوع إلى العرف؛ لأن المعروف عرفًا كالمشروط شرطًا.
والله -تعالى- أعلم.
([1]) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع للكاساني، ج4 ص182، 206، وحاشية رد المحتار لابن عابدين على الدر المختار، ج6 ص28-29.
([2]) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير للدسوقي، ج4 ص9-10، 17-18، وانظر: بداية المجتهد ونهاية المقتصد لابن رشد، ج2 ص228-229.
([3]) المهذب في فقه الإمام الشافعي للفيروزآبادي الشيرازي، ج1 ص402، ومغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج للشربيني الخطيب، ج2 ص350، وحاشية الجمل على شرح المنهج للأنصاري، ج2 ص542، ونهاية المحتاج إلى شرح المنهاج للرملي، ج5 ص276-277، 285.
([4]) المغني والشرح الكبير لابن قدامة، ج6 ص53-54، وكشاف القناع عن متن الإقناع للبهوتي، ج4 ص15، والإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام أحمد للمرداوي، ج6 ص34، وشرح الزركشي على مختصر الخرقي، ج4 ص234.
([5]) أخرجه ابن ماجة في كتاب الأحكام، باب في الصلح، برقم (2353)، وأخرجه الترمذي في كتاب الأحكام، باب ما جاء في الرُقْبى برقم (1352)، ج3 ص634-635، صححه الألباني في صحيح الترمذي، (١٣٥٢)..
([6]) رواه البخاري في كتاب النكاح، باب الشروط في النكاح، فتح الباري ج9 ص124.
([7]) المهذب في فقه الإمام الشافعي، ج1 ص403.
([9]) درر الحكام شرح مجلة الأحكام لعلي حيدر، المادة رقم 43 ج1 ص46.