ومفاد السؤال: أن بعض الناس عند دخول شهر رمضان المبارك يتدافعون إلى الأسواق لشراء الكثير من الأطعمة والأشربة مما لايحتاجون إليه، أو حتى إلى بعضه، وإن البعض منهم – كما يقول صاحب السؤال – يطبخ من الطعام أكثر بكثير من حاجته؛ مما قد يجعله يستهين بالزائد منه. فما حكم هذا الفعل في ميزان الشرع الشريف؟.

حكم الإسراف في الطعام والشراب

والجواب: أن الله -سبحانه وتعالى-خلق الأنفس، وأوجد لها حاجاتها من الطعام والشراب، وقدّر لذلك قدرًا يتفق مع هذه الحاجات، فما زاد منها كان على الأنفس منه ضرر، وما نقص منها كان -أيضًا- ضررًا لها، وهذه الأقدار من الحاجات لا تتغير من زمان إلى زمان، أو من مكان إلى مكان؛ لأن تقدير الله لحاجات الأنفس تقدير أبدي لا يتحول، ولا يتبدل.

وعندما فرض الله الصيام، وأوجب فيه الكف عن الطعام والشراب مدة من الزمن، كان لحكمة قدّرها، وعِلْمٍ عَلِمَهُ، فمع أن الصيام عبادة وامتثال لأمره-جل وعلا-فهو في الوقت نفسه صلاح للنفوس، وراحة لها من أعباء الطعام وآثاره.

والزيادة على قدر الحاجة منه سبب مؤكد لضرر النفوس، ناهيك بكونه معصية لله في عدم الامتثال لنهيه عن الإسراف في الطعام والشراب في قوله -تعالى-: {وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ}([1]).

قال الإمام القرطبي في تفسير هذه الآية: “قال ابن عباس -رضي الله عنهما: أحل الله الأكل والشرب ما لم يكن سرفًا أو مخيلة. فأما ما تدعو الحاجة إليه-وهو ما سدّ الجوع، وسكّن الظمأ- فمندوب إليه عقلًا وشرعًا؛ لما فيه من حفظ الأنفس، وحراسة الحواس”.

ثم قال: “واختُلف في الزائد على قدر الحاجة على قولين، فقيل: حرام، وقيل: مكروه. قال ابن العربي: وهو الصحيح… وقيل: في قلة الأكل منافع كثيرة، منها: أن يكون الرجل أصح جسمًا، وأجود حفظًا، وأزكى فهمًا، وأقل نومًا، وأخف نفسًا. وفي كثرة الأكل كظ المعدة، ونتن التخمة، ويتولد منه الأمراض المختلفة، فيحتاج من العلاج أكثر مما يحتاج إليه القليل الأكل”([2]).

وقد تعرض الفقهاء لمسألة الإسراف في الطعام والشراب، وما يجب من اجتنابه:

ففي مذهب الإمام أبي حنيفة: يكون الطعام والشراب بقدر ما يدفع الإنسان الهلاك عن نفسه، ويمكن معه الصلاة قائمًا، وما زاد فقيل: يكره (كراهة تحريم)، وقيل: ما فوق الشبع فهو حرام، أي: أكل طعام يغلب على ظن صاحبه أنه يفسد معدته. واستثني من ذلك التَقَوِّي على صوم غده، أو لئلا يستحي ضيفه، أو نحو ذلك، ولكن لا يقصد به التلذذ والتنعم؛ لأن الله -تعالى-ذم الكافرين بأكلهم للتمتع والتنعم في قوله -تعالى-: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُم}([3])، ولأن الرسول -ﷺ- قال: «ما ملأ آدمي وعاءً شرًّا من بطنٍ، بحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه»([4])، وفي حديث آخر عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رجلًا كان يأكل أكلًا كثيرًا، فأسلم، فكان يأكل أكلًا قليلًا، فذُكِر ذلك للنبي -ﷺ-، فقال: «إن المؤمن يأكل في مِعًى واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء»([5]).

وفي مذهب الإمام مالك: للأكل آداب عشرة، ومنها: التقليل من الطعام، فيجعل ثلثًا له، وثلثًا للشراب، وثلثًا للنّفس؛ لما يترتب على الشبع من ثقل البدن المورث للكسل عن العبادة، ولأن الإكثار من الأكل لا يبقي لِلنَّفَسِ موضعًا إلا على وجه يُضِرُّ به، ولما ورد: المعدة بيت الداء، والحمية رأس الدواء، وأصل كل داء البردة، والحمية: خلو البطن من الطعام، والبَرْدَةُ: إدخال الطعام على الطعام([6]).

وفي مذهب الإمام الشافعي: يكره الأكل فوق الشبع، وحَدُّ الشبع: ألا يعد جائعًا، والزيادة على الشبع من مال نفسه الحلال مكروه، وكذا من مال غيره. وفي قول آخر: يحرم الأكل فوق الشبع، وهذا محمول على حالة الضرر، سواء كان الشبع من ماله أم من مال غيره([7]).

وفي مذهب الإمام أحمد: السنة أن يكون البطن أثلاثًا -كما تقدم-، ويجوز الأكل أكثر من الثلث بحيث لا يؤذيه، أما الأكل الكثير مع خوف الأذى والتخمة فمحرم، وهو الصواب، وحرم الإسراف، وهو مجاوزة الحد([8]).

ونقل في الفروع عن أحمد قوله: “ما أرى أن يجد (الآكل) من قلبه رقة وهو يشبع”، وقال: “يؤجر في ترك الشهوات ومراده ما لم يخالف الشرع”([9]).

ومن هذه الأقوال يتبين أن الإسراف في الأكل والشرب وغير ذلك من حاجات الإنسان الضرورية الأخرى كالماء مما يتعارض مع ما ورد في كتاب الله -تعالى-، وسنة رسوله محمد -ﷺ- من النهي عن الإسراف، وهذا التعارض يقتضي التحريم بحكم المخالفة للأحكام الواردة فيهما، وفي هذا وعيد شديد للمخالف استدلالًا بقول الله -تعالى-: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيم}([10]).

وإذا كان الإسراف في الطعام والشراب محرمًا في عمومه فمن باب أولى أن يكون التحريم أشد في رمضان؛ لخصوصيته، وما يجب فيه من الشعور بالجوع، وقسر النفس عن الملذات، واستذكار نعم الله عليها، وما يجب فيه -أيضًا- من زيادة طاعة الله، وهو أمر يتعارض مع الإسراف في الأكل والشرب؛ لما يسببه من ارتخاء الجسد، وخموله، خاصة بعد الإفطار من الصيام.

وينبني على ذلك أن التدافع لشراء الحاجات لشهر رمضان يُعدُّ محرمًا، إذا كان يؤدي إلى الإسراف في الأكل والشرب ونحوهما، أما القول بأن بعض الناس قد يستهين بالزائد من الطعام والشراب -كإتلافه- فهو -أيضًا- محرم، بل شديد التحريم؛ لما في ذلك من عدم شكر الله، ولما فيه من الكفر بنعمه، والاستهانة بها، وقد وعد الله بزيادة من يشكره عليها، وتوعد من يكفر بها في قوله -تعالى-: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيد}([11])، ومن شكر الله: المحافظة على نعمه، وإكرامها، وحفظها، وتذكر فضل المنعم بها، ومن الكفر بها: الإسراف فيها، وعدم احترامها.

وخلاصة المسألة: أن التدافع لشراء الحاجات لشهر رمضان يعد محرمًا إذا كان يؤدي إلى الإسراف في الأكل والشرب؛ لما في ذلك من الضرر للنفس، ناهيك بما فيه من مخالفة لما ورد في كتاب الله -تعالى-، وسنة رسوله محمد -ﷺ- من نهي عن الإسراف.

أما القول بأن البعض قد يستهين بالزائد من الطعام والشراب فهو -أيضًا- محرم، بل شديد التحريم؛ لما في ذلك من عدم شكر الله، ولما فيه من الكفر بنعمه، والاستهانة بها، وقد وعد الله بزيادة من يشكره عليها، وتوعد من يكفر بها، ومن شكر الله: المحافظة على نعمه، وإكرامها، وحفظها، وتذكر فضل المنعم بها، ومن الكفر بها: الإسراف فيها، وعدم احترامها، ومن أشد الكفر بها: إفسادها، أو الاستهانة بها بأي فعل من أفعال الاستهانة. والله أعلم.

 

([1]) سورة الأعراف من الآية 31.

([2]) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، ج7 ص191-192، وانظر: أحكام القرآن لابن العربي، القسم الثاني ص781.

([3]) سورة محمد من الآية 12.

([4]) أخرجه الترمذي في كتاب الزهد، باب ما جاء في كراهية كثرة الأكل، برقم (2380)، سنن الترمذي ج4 ص509-510، وانظر: حاشية رد المحتار على الدر المختار لابن عابدين ج6ص338-339، وحاشية الطحطاوي على الدر المختار للطحطاوي ج4ص170، وشرح الوقاية لابن مسعود بهامش كشـف الحقائـق شـرح كنز الدقائـق للأفغاني ج2 ص229، والاختيار لتعليل المختار، لابن مودود الموصلي الحنفي ج4ص172 – 173، صححه الألباني في صحيح الترمذي، (٢٣٨٠).

([5]) أخرجه البخاري في كتاب الأطعمة، باب «المؤمن يأكل في معي واحد»، برقم (5393، 5395، 5397)، فتح الباري للحافظ ابن حجر، ج9 ص447.

([6]) القوانين الفقهية لابن جزي ص288، وانظر: بلغة السالك لأقرب المسالك إلى مذهب الإمام مالك لأحمد الصاوي ج2ص527، وأسهل المدارك شرح إرشاد السالك في فقه الإمام مالك للكشناوي ج3ص350-351، والفواكه الدواني على رسالة أبي زيد القيرواني لأحمد النفرواي ج2ص344-345.

([7]) نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج للرملي ج6ص376، ومغني المحتاج إلى معرفة ألفاظ المنهاج للشربيني ج3ص349، وبجيرمي على الخطيب للبجيرمي ج3ص391، وقليوبي وعميرة ج3ص298.

([8]) كشاف القناع عن متن الإقناع للبهوتي ج5 ص179، والإنصاف للمرداوي ج8 ص329-330، وشرح منتهى الإرادات للبهوتي ج3ص91.

([9]) كتاب الفروع لابن مفلح ج5ص302.

([10]) سورة النور من الآية 63.

([11]) سورة إبراهيم الآية 7.