والسؤال عما إذا كان الأجر الذي يكتسبه من عمله في ذلك المكان يعد حلالًا أم حرامًا.
والجواب عن هذه المسألة من وجهين:
الوجه الأول: العمل في مكان تمارَسُ فيه أعمالٌ محرمةٌ:
ومن ذلك على سبيل المثال: القمار، وبيع الخمر، وما شابه ذلك من الأعمال والأفعال المحرمة، والأصل الشرعي أن كل فعل محرم يجب على المكلف اجتنابه، سواءٌ أكان ذلك بفعل ينشئه هو، كما لو أنشأ ناديًا للقمار، أو حانة خمر، أم كان ذلك بفعل ينشئه غيره، ولكنه يشارك فيه، كحال الأجير في نادي القمار، أو حانة الخمر، ودليل ذلك قول الله -تعالى-: {وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُواْ يَقْتَرِفُون} [الأنعام: 120]، وقوله -تعالى-: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأعراف: 33]، وقوله -تعالى-: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157].
فكل ما حرمه الله، أو حرمه رسوله من الأعمال والأفعال يعد إثمًا وفاحشة يجب اجتنابها، ولو كان في ظواهرها ما يظن أنه منفعة، فقد يتراءى للمتعاطي للربا أن له مصلحة فيه حين يحصل بسهولة على مبلغ كبير من المال، وقد يتراءى للراشي أنه يحصل على منفعة من رشائه، وقد يتراءى لمرتكب الفواحش أنه يحصل على متعة ولذة من فعله، فهذه وإن كانت في ظاهرها تبدو ذات منفعة لأصحابها، إلا أنها في حقيقتها أذى وضرر لهم، فعاقبة الربا الخسارة والضياع للمال؛ مصداقًا لقول الله -تعالى-: {يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة: 276]، وعاقبة الرشوة الطرد والبعد من رحمة الله؛ مصداقًا لقول رسوله -عليه الصلاة والسلام-: (لعن الله الراشي والمرتشي)، وفي رواية أبي داود: (لعن رسول الله -ﷺ-الراشي والمرتشي)([1])، وعاقبة الفواحش الإثم والعقاب؛ مصداقاً لقول الله -تعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُواْ يَقْتَرِفُون} [الأنعام: 120]، وهكذا فإن كل أمر محرم يرتب على مرتكبه أذى وأضرارًا مختلفة تناله في دينه ودنياه.
والفعل المحرم لا يتجزأ، فما حرُم فعله حرُم الانتفاع منه، والإجارة عقد يشترط فيه حل الفعل المعقود عليه، فإذا كان العقد على استئجار دار لبيع المحرمات فيها فالعقد باطل شرعًا، وإذا كان العقد على استئجار الأجير لمزاولة عمل أو نشاط محرم فالعقد باطل، وقد يكون العقد سليمًا في شكله، ولكنه باطل في موضوعه وغايته، ومن ذلك: استئجار الرجل أباه أو أمه للعمل لديه؛ لما في ذلك من إهانتهما، والانتقاص من حقهما عليه، فكان ذلك معصية، ولا يصح العقد على معصية.
وفي مذهب الإمام أبي حنيفة: يجب أن يكون العمل المستأجَرُ له مقدورَ الاستيفاءِ، فمن هنا لا يجوز الاستئجار على منفعة غير مقدورة الاستيفاء شرعًا، كاستئجار الإنسان للهو واللعب، واستئجار المغنية والنائحة للغناء والنوح([2]).
وفي مذهب الإمام مالك: قسم الإمام ابن رشد إجارة المسلم من غير المسلم إلى أربعة أقسام: جائزة، ومكروهة، ومحظورة، وحرام.
فالجائز منها: عمل المسلم له عملًا في بيت العامل، كالصانع الذي يعمل للناس.
والمكروهة: أن يستبد غير المسلم بجميع عمله من غير كونه تحت يده، مثل: كونه عامل مساقاة.
والإجارة المحظورة: إجارة نفسه في عمل تحت يده، كخدمته في بيته، وإرضاع ولده في بيته، فهذه تفسخ إن عثر عليها، فإن فاتت مضت، وله الأجرة.
أما الإجارة الحرام فهي إجارة نفسه فيما لا يحل من عمل خمر، ورعي خنزير، فهذه تفسخ قبل العمل فإن كانت يتصدق بالأجرة([3]).
وفي المذهب: لا تجوز الإجارة على تعليم الغناء، ولا على تعليم استعمال آلات الطرب؛ لحديث (إن الله إذا حرم على قوم أكل شيء حرم عليهم ثمنه)([4])، ويفسخ عقد الإجارة إذا كان لرعي خنزير، أو عمل خمر، ويؤدب الفاعل إن لم يُعْذر بجهل([5]).
وفي مذهب الإمام الشافعي: الإجارة “عقد على منفعة مقصودة معلومة، قابلة للبدل والإباحة، بعوض معلوم”([6])، وتقييدها بالإباحة احتراز عن استئجار آلات اللهو، فإن استئجارها حرام، ويحرم بذل الأجرة في مقابلها، ويحرم أخذ الأجرة؛ لأنه من قبيل أكل أموال الناس بالباطل، كما لا يجوز استئجار المغاني، ولا استئجار شخص لحمل خمر ونحوه([7]).
وفي مذهب الإمام أحمد: كل ما كانت منفعته محرمة كالزنا، والزمر، والنوح، والغناء، فلا يجوز الاستئجار لفعله، كما لا يجوز استئجار الكاتب لكتابة الغناء أو النوح، قال في المغني.
وقد روي عن الإمام أحمد فيمن حمل خنزيرًا أو ميتةً أو خمرًا لنصراني: “أَكْرَهُ أَكْلَ كرائِهِ، ولكنْ يُقضى للحمال بالكراء، فإذا كان لمسلم فهو أشد”، ولكن المذهب خلاف هذه الرواية؛ لأنه استئجار لفعل محرم، فلم يصح كالزنا، ولأن النبي -ﷺ- لعن حاملها، والمحمولة إليه([8]).
وجماع هذه الأراء والأقوال: أن عقد الإجارة إذا انصب على فعل محرم يعد باطلًا، وكل ما تولد عنه يعد محرمًا.
الوجه الثاني: مسألة الاضطرار للعمل في مكان محرم.
ورد في المسألة أن ظروف معيشة العامل قد اضطرته للعمل في المكان الذي تمارس فيه أعمال محرمة، وهذا يثير الإشارة إلى مسألة الاضطرار، ومدى تأثيره على من يلجأ إليه، وهذا يعني معرفة الحال التي يكون عليها الشخص، وما إذا كانت هذه الحال تدخل في مفهوم الاضطرار.
والأصل أن المكلف منهي عن ارتكاب الحرام، ما لم يلجئه إليه أمر يتعلق بالخطر على حياته في وقت معلوم، ودليل ذلك قول الله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُون * إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيم} [البقرة: 172-173]، وقوله -تعالى-: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيم} [المائدة: 3].
فالأمر بالأكل من الطيبات أمر وجوب وتكليف، وهذا يتعدى إلى تحريم الأكل إذا كان من غير الطيبات، وقد استثنى الله منها الميتة، والدم، ولحم الخنزير، وكل ما أهل به لغير الله، وفي أمره -تعالى-بالحفاظ على النفس أباح الأكل من غير الطيبات في حال الاضطرار، وهذا له شروط وأحكام، ومنها: أن يكون في مجاعة لا يجد فيها ما يحفظ به نفسه من الهلاك، وأن يكون غير مستحلٍّ لما حرم الله أصلًا، وألا يتجاوز الحد لما يحفظ به النفس([9]).
قال الإمام ابن قدامة في المغني: “أجمع العلماء على تحريم الميتة في حالة الاختيار، وإباحة الأكل منها في حال الاضطرار، وكذلك سائر المحرمات، والإباحة تكون بأكل ما يسد الرمق، ويأمن معه الموت بالإجماع، ويحرم ما زاد على الشبع بالإجماع([10]).
وينبني على ذلك انتفاء حالة الاضطرار للطعام المحرم في حال وجود الطعام الحلال، ولو كان هذا الطعام للغير ما دام غير محتاج إليه.
وإذا طبقت هذه الأحكام على واقعة المسألة فلا يعد العامل مضطرًّا للعمل في المكان المحرم؛ لأن وقائع الحال في البلدان تدل على تنوع أماكن العمل، وإمكانية العمل في الأماكن التي لا تمارس فيها المحرمات.
وخلاصة المسألة: أن عقد الإجارة إذا انصب على فعل محرم يعد باطلًا، وكل ما تولد عنه يعد محرمًا. وكل ما حرمه الله أو حرمه رسوله من الأعمال والأفعال يعد إثمًا وفواحش يجب اجتنابها، ولو كان في ظاهرها ما يظن ظانٌّ أن فيه منفعةً له.
ولما كان الفعل المحرم لا يتجزأ، وأن ما حرم فعله حرم الانتفاع به، فإن عمل العامل في الأماكن التي تمارس فيها أعمال محرمة يعد محرمًا عليه، ويعد الأجر الذي يكتسبه من الخبائث، ولا يعتبر العامل في هذه المسألة مضطرًّا؛ لأن وقائع الحال تدل على تنوع أماكن العمل، ووجود بديل لعمله، ومن شروط الاضطرار: ألا يكون ثمة بديل يلجأ إليه المضطر لحفظ حياته.
والله أعلم.
([1]) أخرجه الترمذي في كتاب الأحكام، باب ما جاء في الراشي والمرتشي في الحكم، برقم (336)، سنن الترمذي ج3 ص622، وأخرجه أبو داود في كتاب الأحكام، باب في كراهية الرشوة، برقم (3580)، سنن أبي داود ج3 ص300، وأخرجه ابن ماجة في كتاب الأحكام، باب التغليظ في الحيف والرشوة، برقم (2311)، سنن ابن ماجة ج2 ص775، صححه الألباني في صحيح الترمذي، (١٣٣٧).
([2]) وهذا في المذهب، وبخلاف الاستئجار لكتابة الغناء والنوح؛ لأن الممنوع عنه نفس الغناء والنوح، لا كتابتهما. انظر في هذا: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع للكاساني، ج4 ص189-190، وانظر-أيضًا-: نتائج الأفكار في كشف الرموز والأسرار، لقاضي زاده على الهداية للمرغيناني، ج9 ص98، وشرح العناية على الهداية للبابرتي، ج9 ص98.
([3]) انظر: شرح منح الجليل على مختصر العلامة خليل، للشيخ عليش، ج7 ص489.
([4]) أخرجه أبو داود في كتاب البيوع، باب في ثمن الخمر والميتة، برقم (3488)، سنن أبي داود ج3ص280، صححه الألباني في صحيح أبي داود، (٣٤٨٨).
([5]) شرح منح الجليل، ج7 ص498، وانظر في ذلك: التاج والإكليل للمواق، ج5 ص424.
([6]) انظر في هذا: كفاية الأخيار في حل غاية الاختصار، للإمام أبي بكر الحسيني الحصني، ج1 ص309 -310، ونهاية المحتاج إلى شرح المنهاج للرملي، ج5 ص269-272، وحاشية أبي الضياء نور الدين علي بن علي الشبراملسي، ج5 ص272، ومغني المحتاج على متن المنهاج، لأبي زكريا يحيى بن شرف النووي، ج2 ص337.
([8]) انظر في هذا: المغني والشرح الكبير للإمام ابن قدامة، ج6 ص134-135، وانظر: كشاف القناع عن متن الإقناع للبهوتي، ج3 ص259، وشرح منتهى الإرادات للبهوتي، ج2 ص358-359، ومجموع فتاوى الإمام ابن تيمية، ج3 ص209، والإنصاف للمرداوي، ج6 ص23، ومطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى للرحيباني، ج3 ص606-607.
والحديث رواه أبو داود والإمام أحمد والترمذي، وابن حبان في صحيحه، والحاكم، وقال: “صحيح”، والذهبي في الكبائر ص 583.
([9]) تفسير القرآن العظيم لابن كثير، ج1 ص211.
([10]) المغني والشرح الكبير، ج11 ص73، وبداية المجتهد ونهاية المقتصد لابن رشد، ج1 ص476، والمجموع شرح المهذب للنووي، ج9 ص52، وحاشية رد المحتار على الدر المختار لابن عابدين، ج6 ص338-339، وعقد الجواهر الثمينة لابن شاس، ج1 ص603.