ومفاد السؤال: أنه بينما كان أحد الأشخاص يسير في الطريق رأى شخصا يقف في الطريق المقابل ممسكا بيده آلة تصوير، فلم يلق لذلك بالا ظنا منه أنه يقوم بعمل ما ليس هو المقصود به، ولكنه اكتشف فيما بعد أن المصور المذكور قد صوره دون علمه؛ مما أثر في نفسه، فهل يجوز لهذا أن يفعل ما فعل؟، وهل يحق له استعمال هذه الصورة لأي غرض من الأغراض دون إذن صاحبها؟.

حكم التعدي على الشخص بالتصوير أو الرسم دون إذنه

والجواب: أن الشريعة أوجبت حرمة المسلم في دينه ونفسه وماله وعقله وعرضه، فهو خليفة الله في أرضه، وهذه الحرمة تقتضي حكما عدم التعدي عليه دون سبب مشروع، سواء كان هذا التعدي في صورة فعل مادي يمسه في جسمه كالضرب أو الوخز، أو كان في صورة فعل معنوي يمسه في نفسه كالقذف أو الشتم، أو كان التعدي في أي صورة تمسه في دينه أو ماله أو عرضه أو عقله.

والتعدي في صوره يمثل جريمتين:

الجريمة الأولى: الظلم؛ لما فيه من طغيان القوي، وتسلطه على الضعيف، وغمطه حقوقه تجاوزا وتعديا على ما وضعه الله لخلقه من الأوامر والنواهي، ولعظم الظلم حرمه الله على نفسه أولا، وحرمه على خلقه ثانيا؛ لقوله -عز وجل- في الحديث القدسي: «يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرما، فلا تظالموا»([1]).

وتحريم الظلم على الخلق يقتضي عقاب من يرتكبه منهم؛ لقول الله -تعالى-: {وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا} [الفرقان:19].

الجريمة الثانية: الفساد في الأرض: فالتعدي خروج على سنن الله في خلقه؛ لما يؤدي إليه من الفتن والفساد، وفي ذلك قال الله -تعالى-: {وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة:217]، وقال -تعالى-: {وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا} [الأعراف: 85].

والتعدي مصدر أساسي للضرر، وقد يكون هذا الضرر حالا كما ينتج عن الضرب من ألم، وقد يكون آجلا كحال الوعيد به، وقد يكون الضرر مباشرا كما هو الحال في التعدي على شخص بعينه، وقد يكون غير مباشر كحال الاعتداء على ولده، ولا يشترط أن يكون الضرر الناتج عن التعدي جسيما، فالمهم وقوع الضرر وإن كان يسيرا، ويدل على ذلك قصة رسول الله -ﷺ- مع سوادة بن عمرو الأنصاري حين رآه يتخلق، فأهوى له بعود كان في يده، فجرحه، ورغم أن الجرح يسير أمره -عليه الصلاة والسلام- أن يقتص منه([2]).

والضرر يحدث -كما ذكر- للجسم أو أحد أعضائه، كما يحدث للنفس، وقد يكون هذا أكثر ألما، فمن يجد -مثلا- صورته في صحيفة، أو نشره على نحو يسيء إليه قد يتألم من ذلك أكثر من تألمه من الضرب، ومن يُتهمُ في عمله أو فكره أو عرضه سوف يتألم أكثر من الألم الذي يصيبه في جسده، وهكذا.

وكما تقتضي حرمة المسلم عدم الاعتداء عليه تقتضي عدم إيذائه بأي صورة، والأذى له وجوه متعددة، فقد يكون باغتيابه أو النميمة عليه، وقد يكون بالإغلاظ له في القول بغير حق، وقد يكون بالاستهزاء به، أو السخرية منه، أو لمزه، أو ظن السوء به، أو نحو ذلك مما يؤدي إلى إيذائه في مشاعره أو كرامته، وفي ذلك قال -تعالى-: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا} [الأحزاب:58]، وقد توعد الله أروى بنت حرب بن أمية زوجة أبي لهب في قوله -تعالى- في حقها وحق زوجها: {سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَب*وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَب} [المسد: 4]، وذلك لإيذائها رسول الله -ﷺ-، ووضعها الشوك في طريقه.

وكما تقتضي حرمة المسلم عدم إيذائه تقتضي حكما استئذانه، وعدم الاطلاع على عوراته، ذلكم أن الإنسان قد يكون في حال لا يريد أن يراه أحد فيها، كخلوته مع أهله، أو جلوسه مع أسرته، أو نحو ذلك من خصوصياته وأسراره، وقد نهى الله الأجانب عن الدخول في بيوت غير بيوتهم ما لم يكن لهم إذن بالدخول فيها، وفي ذلك قال -تعالى-: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون*فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلاَ تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيم} [النور: 27: 28].

وقد وردت في آداب الاستئذان وقواعده أحاديث كثيرة، ومنها: أن رسول الله -ﷺ- استأذن على سعد بن عبادة، فقال: «السلام عليك ورحمة الله»، فقال سعد: وعليك السلام ورحمة الله، ولم يسمع النبي -ﷺ- حتى سلم ثلاثا، ورد عليه سعد ثلاثا، ولم يسمعه، فرجع -عليه الصلاة والسلام-، فاتبعه سعد، فقال: يا رسول الله! بأبي أنت وأمي ما سلَّمْتَ تسليمة إلا هي بأذني، ولقد رددت عليك، ولم أُسْمِعْك واضحا، وأردت أن أستكثر من سلامك ومن البركة”([3]).

ومن هذه الآداب: أن يكون المُسْتأذِن واضحا في تعريفه لنفسه، بحيث يعرفه المُسْتأذنُ منه، وفي ذلك ما رواه جابر بن عبد الله، قال: أتيت النبي -ﷺ- في دَيْنٍ كان على أبي، فدققت الباب، فقال: «من ذا»؟ فقلت: أنا، فقال: «أنا أنا»([4])، ويعني ذلك كراهته -عليه الصلاة والسلام- لهذا الجواب حين أراد من جابر تعريف نفسه حتى يعرفه.

وكما يجب الاستئذان من الأجانب يجب أن يكون من الأقارب والخدم، وفي ذلك قال -تعالى-: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ مِن قَبْلِ صَلاَةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ الظَّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صَلاَةِ الْعِشَاء ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ..} [النور:58] والآية واضحة في استئذان الخدم على مخدوميهم، والأطفال على أهليهم، وما كان هذا إلا تشديدا في حرمة الإنسان، وعدم مباغتته حتى من أقرب الناس إليه، وهم أطفاله وخدمه، وجاءت الآية الكريمة بتعداد الأحوال التي يكون فيها الإنسان إما نائما قبل صلاة الفجر، أو وقت قيلولته في الظهيرة، أو بعد صلاة العشاء؛ لكونه يتأهب للنوم.

وكما جاءت الآيات والأحاديث بالأمر بالاستئذان جاءت السنة بالنهي عن الاطلاع على الغير بدون إذنه، وجوزت مدافعة من يفعل ذلك، وفي هذا روى أبو هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -ﷺ- قال: «لو أن امرأً اطلع عليك بغير إذن، فحذفته بحصاة، ففقأت عينه، لم يكن عليك جناح»([5]).

وللفقهاء أقوال في مسألة ضمان أو عدم ضمان من يدفع المطلع على منزله، فيحدث له ضررا في عينه:

ففي المذهب الحنفي: قول بعدم ضمانه إن لم يمكنه تنحيته من غير فقئ عينه، فإن أمكن تنحيته ضمن([6]).

وعند الإمام الشافعي: لا يضمن؛ لأن المبصر للعورة مُتعدٍّ([7])، وقال الإمام الصنعاني في شرح الحديث: “دل على تحريم الاطلاع على الغير بغير إذنه، وعلى أن من اطلع قاصدا النظر إلى محل غيره مما لا يجوز الدخول إليه إلا بإذن مالكه فإنه يجوز للمُطلعِ عليه دفعه بما ذكر، وإن فقأ عينه فإنه لا ضمان عليه” إلى أن قال: “ولا يجوز مد العين إلى حرم الناس بحال”([8]).

ويتبين من السؤال أن المصور المشار إليه في السؤال قد غافل إنسانا، فصوره صورة فوتوغرافية دون إذنه، وهذه الصورة عبارة عن فعل مادي يعكس ظله، فيصبح المصور بذلك فاعلا متعديا عليه كتعديه على جسمه، ومسه بفعل ما أو تعديه على ملابسه أو نقوده وأخذها منه، فإذا كانت حرمته تقتضي عدم التعدي عليه، وعدم إيذائه، ووجوب الاستئذان عليه حتى من أقرب أقربائه، فإن هذه الحرمة تقتضي من باب أولى عدم تصويره أو رسمه دون إذنه، وبدون هذا الإذن يعد المصوِّرُ -بكسر الواو وتشديدها- متعديا، يحق للمعتدى عليه منعه ومقاضاته.

وخلاصة المسألة: أن قواعد الشريعة توجب حرمة المسلم في دينه ونفسه وعقله وماله وعرضه، وهذه الحرمة تقتضي حكما عدم التعدي عليه دون سبب مشروع، سواء كان هذا التعدي في صورة فعل مادي أو معنوي، والتعدي مصدر للضرر، ولا يشترط أن يكون جسيما، فالمهم وقوعه دون سبب مشروع.

وكما تقتضي حرمة المسلم عدم التعدي عليه تقتضي عدم إيذائه بأي صورة، كما تقتضي استئذانه، وعدم الاطلاع على عوراته، سواء من الأجانب أو من خدمه أو أقربائه.

وحيث إن المصور في السؤال قد غافل شخصا، فصوره دون إذنه، فإن هذه الصورة عبارة عن فعل مادي يعكس ظل هذا الشخص، فيصبح المصور بذلك متعديا عليه كتعديه على جسمه أو على ملابسه أو نقوده، فلهذا يحق له منعه ومقاضاته، كما يحق له طلب التعويض عما قد يكون أصابه من جراء هذا التعدي. والله أعلم.

([1]) أخرجه مسلم (٢٥٧٧)، أورده عبد الرزاق في المصنف، باب قود النبي-ﷺ-من نفسه، برقم (18037)، ج9 ص467، والمقصود بالتخلق الطيب، وهو اسم لنوع معروف في ذلك الزمان.

([2])  أورده عبد الرزاق في المصنف، باب الاستئذان ثلاثا، برقم (19425)، ج10ص382.

([3]) أورده عبد الرزاق في المصنف، باب قود النبي-ﷺ-من نفسه، برقم (18037)، ج9 ص467، والمقصود بالتخلق الطيب، وهو اسم لنوع معروف في ذلك الزمان، صحح إسناده الألباني في هداية الرواة، (٤١٧٨).

([4])  أخرجه مسلم في كتاب الأدب، باب تحريم النظر في بيت الغير، صحيح مسلم بشرح النووي، ج14 ص138.

([5])  أخرجه مسلم في كتاب الأدب، باب كراهة قول المستأذن: أنا، إذا قيل: من هذا؟، صحيح مسلم بشرح النووي ج14 ص135-136.

([6])   حاشية رد المحتار مع التكملة لابن عابدين، ج6 ص550.

([7])    الأم للإمام الشافعي، ج6 ص32-33.

([8])  سبل السلام شرح بلوغ المرام من جمع أدلة الأحكام للصنعاني، ج3 ص263-264.