ومفاده هذه المسألة: سؤال يقول فيه صاحبه: إن لديه أجيرًا يعمل في وظيفة سائق سيارة (أجرة عامة) مقابل راتب شهري محدد، وينص العقد معه أن عليه تحصيل مبلغ محدد في اليوم، وما نقص منه يقتطع من راتبه.

حكم من يشترط على أجيره حدًّا معينًا من المنفعة

ويسأل السائل عما إذا كان يجوز له أن يشترط هذا الشرط، خاصة أن السائق لا يستطيع في بعض الأحيان تحصيل المبلغ المطلوب؛ مما يؤدي إلى إنقاص راتبه.

والجواب عن هذا من ثلاثة أوجه:

الوجه الأول: أن يستأجر الآجر الأجير ليجيء له بالغلة أو المنفعة، فيتفق مالك السيارة مثلًا مع سائقها على راتب محدد في اليوم أو الشهر أو السنة، مقابل استخدامه السيارة في نقل الأشخاص أو الأمتعة، أو نحو ذلك، على أن يجيء لصاحبها بما كسبه، فالآجر هنا استأجره بأمانته، فيقبل منه ما يأتي به إليه، قل أو كثر، وعند الإمام مالك: أن من استأجر أجيرًا يصلح له أن يجعله يجيء بالغلة إذا لم يشترط عليه حين استأجره خراجًا معلومًا([1]).

وقال ابن وهب من علماء المالكية: عن الليث بن سعد وعمرو بن الحارث عن بكير بن الأشج أنه قال: “لا نرى بأسًا باستئجار الرجل الأجير على أن يعمل بيديه، أو على دابته، فيعطيه ما كسب إذا بَيَّنَ له ذلك حين يستأجره”([2]).

الوجه الثاني: أن يشترط الآجر على الأجير تحصيل مبلغ معين له في اليوم أو الشهر أو السنة، مثل أن يتفق مالك السيارة مع سائقها على راتب محدد مقابل استخدامها في نقل الأشخاص أو غيرهم، وأن يجيء له في اليوم أو الشهر أو السنة بمبلغ محدد، دون أن يرتب على ذلك جزاء، فهذا جائز، فعند الإمام مالك: أنه إذا لم يشترط عليه حين استأجره خراجًا معلومًا، ولكنه وضعه عليه بعد ذلك، فلا بأس به ما لم يضمنه([3]).

والمعيار في هذا: أمانة السائق، وواقع السوق، فقد يقدر على تحصيل المبلغ المحدد، وقد لا يقدر، وذلك تبعًا لكثرة المستأجرين وقلتهم، وليس لمالك السيارة إلا ما يجيء به السائق.

الوجه الثالث: أن يشترط الآجر على الأجير تحصيل مبلغ معين على أن يضمن ما نقص منه، فهذا لا يجوز، فالإمام مالك يرى أنه لا بأس بمن يستأجر الغلمان الحجامين على أن يأتوا بالغلة إذا لم يُضَمِّنْهُمْ خراجًا معلومًا، وقال ربيعة بن أبي عبد الرحمن من علماء المالكية: “لو أن رجلًا استأجر أجيرًا، ثم دفع إليه حمارًا ليعمل عليه، أو سفينة يختلف فيها، أو شبه ذلك، وضرب عليه في ذلك ضريبة، كان ذلك حلالًا إذا استقل بذلك الأجير، ولكن لا يصلح له أن يضمنه إن نقص”([4]).

ومما سبق يتبين عدم جواز شرط مالك السيارة على السائق تحصيل مبلغ محدد، مع ضمان ما ينقص منه؛ لما في ذلك من الاستغلال والجهالة في العقد، فالاستغلال في هذه المسألة ظاهر في أن (مالك السيارة) قد يستغرق أجرة (السائق) كلها أو بعضها إذا لم يأتِ له بالمبلغ المطلوب، فيكون بذلك قد استغل جهده بدون سبب مشروع، والإسلام دين رحمة، وليس من الرحمة تكليف الأجير غير طاقته، أو فعل ما يؤذيه، أو يشق عليه.

وقد أخبر الله على لسان نبيه شعيب ما قاله لنبي الله موسى -عليهما السلام- حين اتفقا على الإجارة: {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِندِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِين} [القصص: 27]، ففي هذا نهي عن مشاقة الأجير، ونهي عن إيذائه، وفي الوقت نفسه نعْتٌ بالصلاح لمن لم يشاقه أو يؤذه.

والإسلام دين عدل، ومن العدل عدم استغلال الأجير، وفي ذلك قال رسول الله -ﷺ-: (قال الله: “ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة …الحديث)، ومنهم: “رجل استأجر أجيرًا، فاستوفى منه، فلم يعطه أجره”، والمقصود بـ”استوفى منه”: أخذ منفعته بغير عوض، وكأنه أكلها، ولَمَّا لم يعطه أجره فكأنه استعبده([5]).

والجهالة في العقد في هذه المسألة ظاهرة في أن راتب السائق سيبقى مجهولًا في مقداره؛ وذلك لأن العقد، وإن بين هذا المقدار، إلا أن حصول السائق عليه غير معلوم بحكم ما سيُنْقصُ منه، فأصبح في حكم المجهول حقيقة.

وفي مذهب الإمام أبي حنيفة: أن المقصود من العقد لا يحصل إذا كانت الجهالة فيه تؤدي إلى المنازعة، فينبغي “أن تكون المنافع معلومة، والأجرة معلومة”([6]) أي: “قدرًا ونوعًا، أي: لا يكون شيء منها مجهولًا، كُلًّا أو بعضًا؛ لأن جهل الأجرة يفضي إلى المنازعة؛ لقوله-عليه الصلاة والسلام-: (من استأجر أجيرًا فليعطه أجره)([7]).

وفي مذهب الإمام الشافعي: لا بد أن تكون المنفعة معلومة، فإن كانت مجهولة لم تصح الإجارة([8]).

وفي مذهب الإمام أحمد: ينبغي معرفة الأجرة؛ لنهي رسول الله -ﷺ-عن استئجار الأجير حتى يبين له أجره([9]).

وخلاصة المسألة: أن مالك السيارة يمكن أن يستأجر سائقًا براتب محدد؛ لكي يقوم بتأجير سيارته، ويجيء له بغلتها حسب أمانته، كما أن من الممكن له أن يشترط على السائق تحصيل مبلغ معين في اليوم أو الشهر أو السنة، دون ضمان المبلغ المشروط، ولا يجوز له أن يشترط تحصيل مبلغ معين مع ضمانه؛ لما في ذلك من الاستغلال الذي حرمه الإسلام ولما فيه-أيضًا-من الجهالة في أجر السائق بحكم ما سينقص منه لأداء الضمان.

والله أعلم.

 

([1]) المدونة الكبرى للإمام مالك بن أنس رواية الإمام سحنون عن الإمام ابن القاسم، ج3 ص404.

([2]) المدونة ج3 ص404.

([3]) المدونة ج3 ص404 وما بعدها.

([4]) المدونة ج3 ص404 وما بعدها.

([5]) وتمام الحديث عن أبي هريرة-رضي الله عنه-عن النبي -ﷺ-قال: “قال الله: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرًّا، فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرًا، فاستوفى منه، ولم يعطه أجره”، أخرجه البخاري في كتاب البيوع، باب إثم من باع حرًّا، برقم (222)، فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر العسقلاني، ج4 ص487، وانظر: نيل الأوطار للشوكاني، ج6 ص35-37، وسبل السلام، ج3 ص180.

([6]) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع للكاساني، ج4 ص179-180، وانظر: نتائج الأفكار في كشف الرموز والأسرار، لقاضي زاده، ج9 ص61، وحاشية رد المحتار على الدر المختار، ج6 ص5، وحاشية الطحطاوي على الدر المختار، ج4 ص3.

([7]) انظر: درر الحكام شرح مجلة الأحكام لعلي حيدر، الكتاب الأول م 450-451، ص426-427.

([8]) انظر: المجموع شرح المهذب للنووي، ج15 ص9-10، ونهاية المحتاج إلى شرح المنهاج ج5 ص269، ومغني المحتاج، ج2 ص339، وقليوبي وعميرة، ج3 ص72، وفتح الوهاب بشرح منهج الطلاب، ج1 ص247.

([9]) شرح منتهى الإرادات للبهوتي، ج2 ص352-353، وكشاف القناع عن متن الإقناع، ج3 ص551، والمغني والشرح الكبير، ج6 ص9، ومطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى، ج3 ص587، والروض المربع شرح زاد المستقنع، ج2 ص297. والحديث أخرجه الإمام أحمد في المسند ج3 ص 59، مسند أبي سعيد الخدري-رضي الله عنه-.