والجواب عن هذه المسألة من ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: كتمان الشهادة: والكتمان يعني إخفاء العلم بالشيء، وعدم إظهاره بما يدل عليه قولا أو عملا، وكتمان الشهادة له وجهان:
الأول: كتمانها فيما يتعلق بأمر حرمه الله، ولهذا التحريم صفتان:
الصفة الأولى: تحريم لم يرد فيه قول بستر، ومن ذلك: العلم بمعاشرة الرجل لامرأة طلقها ثلاث طلقات، فأصبحت بائنة منه، أو العلم بمن يستولي على الأوقاف العامة، فيتملكها لنفسه، ومن ذلك -أيضا-: العلم بمن يرتكب محرما على التأبيد، كزواج الرجل بمن تحرم عليه، ففي هذا ومثله لا يجوز كتمان الشهادة، بل يجب أداؤها([1])، عملا بقول الله -تعالى-: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} [النساء:135]، وقوله -تعالى-: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق:2].
فإن كتمها في حق غيره فقد أثم، وإن كتمها في حق نفسه -كما لو كان هو مرتكب المحرم- تضاعف إثمه؛ لأنه قد ارتكب معصية، واستمر عليها، والاستمرار في المعصية يعتبر معصية ثانية.
الصفة الثانية: كتمان الشهادة في أمر محرم ورد القول بالستر فيه، ومن ذلك: معرفته بأن شخصا يرتكب محرما كالقذف أو شرب الخمر أو نحو ذلك من أنواع الحدود، فهذا له الخيار في أن يشهد، أو لا يشهد عليه، ولا يأثم في تركه الشهادة إذا كان قصده الستر على المسلم، أو عدم تتبع عورته، وقد استدل من قال من الفقهاء بعدم إثمه بقول رسول الله -ﷺ-: «من ستر مسلما ستره الله يوم القيامة»([2])، وبقوله -عليه الصلاة والسلام- لهذال في قصة مالك الأسلمي: «لو سترته بردائك»([3])، ولكن هذا كما يقول الإمام ابن رشد في حق من يندر منه ذلك، أما من اشتهر بارتكاب المحرم، ولم ينفك عنه، فينبغي أن يُشهد عليه([4]).
الوجه الثاني: كتمان الشهادة فيما يتعلق بحقوق الآدميين: كمن يعرف أن تلك الدار لهذا الرجل، وليست لذاك، وأن لدى هذا الرجل حقا نقديا أو عينيا لذاك، فهذا الكتمان لا يجوز؛ لقول الله -تعالى-: {وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ} [البقرة:282]، وقوله -عز وجل-: {وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة:283].
ولكي يجب أداء الشهادة ينبغي أن تتوافر عدة شروط:
منها: أن يُدْعى الشاهد لأداء الشهادة؛ لقول الله -تعالى-: {وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ}، فإن لم يُدع لم تجب عليه، بل ولا تقبل منه.
ومنها: عدم وجود شاهد غيره، فإن وجد لم تجب عليه.
ومنها: أن يتعذر أداء الشهادة من شهود آخرين، إما لجهل مكانهم، وإما لغيبتهم غيبة طويلة.
ومنها: أن يعلم الشاهد أن القاضي لن يقبل شهادته؛ لأن عدم قبولها منه فيه ضرر له، وليس المطلوب منه أن يضر بسمعته.
ومنها: أن يكون الشاهد قريبا من محل الدعوى، فإن كان بعيدا عنها لم تجب عليه؛ درءا لتكليفه؛ عملا بقول الله -تعالى-: {وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ} [البقرة:282]، وقول رسوله -ﷺ-: «لا ضرر ولا ضرار»([5]).
ومنها: تيقنه أن القاضي الذي تطلب شهادته عنده غير عدل، وهنا لا إثم على الشاهد في عدم أداء الشهادة؛ لأن في أدائها عند غير العدل مظنة الرفض، فيتأذى الشاهد بذلك، وليس من المطلوب منه إيذاء نفسه لمصلحة غيره.
وآخر هذه الشروط: خوف الشاهد على نفسه([6]) كما سنرى.
الوجه الثالث: امتناع الشاهد عن أداء الشهادة بسبب الخوف على نفسه:
المفروض أن الشهادة تُبَيِّنُ من هو صاحب الحق، ولكن أحد الخصمين قد لا يرضى عن هذا البيان، إما لكونه يظن أو يتيقن خطأه، وفي كلتا الحالتين يغضب من الشاهد، فيجرحه، وربما يتهدده بالاعتداء عليه، فيجد الشاهد نفسه مضطرا إلى كتمان شهادته خوفا على نفسه.
والخوف غريزة طبيعية في الإنسان تتفرع من غريزته في حب البقاء، وقد يكون الخوف حقيقيا أو وهميا، ولكنه بدافع غريزته قد لا يفرق بين هذا وذاك، فيترك كل ما يخيفه، وخاصة إذا لم يكن له مصلحة فيه، ومن ذلك: تركه الشهادة إذا ظن أن في أدائها ضررا عليه، ومع أن التعاون في إظهار الحق، ونصرة المظلوم من واجبات المسلم على المسلم؛ عملا بقول الله -تعالى-: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة:2]، وعملا بقول رسوله -ﷺ-: «انصر أخاك ظالما أو مظلوما»([7])، فإن الشاهد لا يأثم بتركه الشهادة إذا كان يخاف على نفسه؛ لأن مصلحته أولى من مصلحة غيره.
ولكي ينتفي الإثم عنه ينبغي توافر شرطين:
أحدهما: أن يكون الخوف حقيقيا؛ لكون المشهود عليه ظالما، أو لا يتورع عن الاعتداء على غيره، أو كان من أصحاب السلوك المشين، وممن له شواهد تدل على طمعه، وعدم تورعه عن الاعتداء.
الثاني: أن يكون الخوف على نفسه أو على عرضه أو ماله أو سمعته، كما لو كان سيتبذل أو يُضار في طلب تزكيته ونحو ذلك.
وخلاصة الجواب في هذه المسألة: أنه لا يجوز للشهود كتمان شهادتهم، فإن كتموها أثِمُوا ما لم يكن لهم عذر شرعي في ذلك، ومن هذا العذر: خوف الشاهد على نفسه إذا كان هذا الخوف حقيقيا يتهدده في نفسه أو عرضه أو ماله أو سمعته، وما عدا ذلك فإن الشاهد يأثم بتركه الشهادة؛ لما في ذلك من إضاعة الحقوق، وعدم نصرة الضعيف. والله أعلم.
([1]) انظر: تبصرة الحكام لابن فرحون المالكي، ج2 ص165، والقوانين الفقهية لابن جزي، ص205.
([2]) أخرجه البخاري (٢٤٤٢)، ومسلم (٢٥٨٠)، أخرجه الإمام أحمد في المسند، ج2 ص91.
([3]) أخرجه الإمام مالك في الموطأ، كتاب الحدود، باب ما جاء في الرجم، من رواية الليثي، برقم (149)، ص590، صححه ابن عبد البر في التمهيد، (٢٣/١٢٥).
([5]) أخرجه الإمام مالك في الموطأ، كتاب الأقضية، باب القضاء في المرفق، من رواية الليثي، برقم (1426)، ص529، صححه الألباني في السلسلة الصحيحة، (٢٥٠).
([6]) انظر فيما سبق: بدائع الصنائع للكاساني، ج6 ص282، وحاشية قرة عيون الأخبار تكملة رد المحتار على الدر المختار لمحمد علاء الدين أفندي، ج7 ص66، ومواهب الجليل للحطاب، ج6 ص194- 196، والقوانين الفقهية لابن جزي ص205، ودرر الحكام شرح مجلة الأحكام لعلي حيدر، ج4 ص301-303، والمغني والشرح الكبير، ج12 ص3-4.