وسؤال السائل في هذه المسألة هو: أنه تاجر يستورد بضائع كثيرة من الخارج، ومن أجل ترويجها، وتعريف الناس بها ينوه في وسائل الإعلان بجودتها ومنافعها، ويحث الناس على شرائها، ولكنه غير متأكد من أن ما يقوله عن جودتها ثابت على وجه اليقين، ويخشى أن يبالغ في وصفها. ويسألُ عن شرعية الإعلان التجاري، وما إذا كان عليه حرج فيما يفعله.

الإعلان والترويج للسلع دون التأكد من جودتها وما وصفت به( )

والجواب عن هذا من وجهين:

الوجه الأول: أن التعريف بالتجارة بما يهدف إليه صاحبها من انتشارها وشيوعها أمر جائز شرعًا، بل إن له فيه أجرًا حين يقصد به ثلاثة أمور:

الأمر الأول: أن يكون قصده من الإعلان تسهيل البيع والشراء بين الناس بما يخدم حياة الأمة في معاشها، وهذا يشمله قول رسول الله -ﷺ-: (رحم الله رجلًا سمحًا إذا باع، وإذا اشترى، وإذا اقتضى)([1]).

الأمر الثاني: أن يكون قصدُه خدمةَ الناسِ عن طريق تعريفهم بحوائجهم، وتسهيل معاملاتهم، وهذا يدخل في معنى النصح لهم؛ امتثالًا لقول رسول الله -ﷺ-: (الدين النصيحة)، قيل: لمن يا رسول الله؟، قال: (لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم)([2])، وما رواه جرير بن عبد الله -رضي الله عنه-بقوله: “بايعت رسول الله -ﷺ-على النصح لكل مسلم”([3]).

وثالث الأمور: أن يكون قصده من الإعلان الإحسان إلى الناس بالتسامح عن محتاجهم، ونظرة المعسر منهم إلى ميسرته؛ امتثالًا لقوله الله -تعالى-: {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280]، وقوله -تعالى-: {وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [القصص: 77]، وامتثالًا لقول رسول الله -ﷺ-: (من أنظر معسرًا، أو وضع له أظله الله يوم القيامة تحت ظل عرشه، يوم لا ظل إلا ظله)([4]).

الوجه الثاني: أن التعريف بالتجارة أو الإعلان عنها مقيد بالشروط الآتية:

الأول: ألا يكون القصد من الإعلان الثناء المجرد الهادف إلى جذب الناس إلى تجارة المعلِنِ، بصرف النظر عن المقاصد الشرعية من التجارة، ويرى الغزالي أن ثناءه على السلعة بما فيها يعتبر هذيانًا، وهو محاسَبٌ على كل كلمة تصدر منه أنه لم يتكلم بها، إلا أن يثني على السلعة بما فيها مما لا يعرفه المشتري، ما لم يذكره، وأورد في ذلك ورع السلف الصالح في هذه الأمور بما روي عن يونس بن عبيد -وكان خزازًا-، فقد طُلِبَ منه خَزٌّ للشراء، فأخرج غلامه سَقَطَ الخزِّ، ونشره، ونظر إليه، وقال: اللهم ارزقنا الجنة، فقال لغلامه: رده إلى موضعه. ولم يبعه، وخشي أن يكون ذلك تعريضًا بالثناء على السلعة([5]).

ثانيها: أن يكون صاحب الإعلان صادقًا فيما أعلنه عن تجارته، وقد رغب رسول الله -ﷺ- في الصدق في ذلك؛ لما رواه أبو سعيد الخدري -رضي الله عنه- أنه -عليه الصلاة والسلام- قال: (التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء)([6]).

ولكنه -عليه الصلاة والسلام- حذر التجار من الكذب؛ لما رواه إسماعيل بن عبيد بن رفاعة عن أبيه عن جده -رضي الله عنهم- أنه خرج مع رسول الله -ﷺ- إلى المصلى، فرأى الناس يتبايعون، فقال: (يا معشر التجار)! فاستجابوا له، ورفعوا أعناقهم وأبصارهم إليه، فقال: (إن التجار يبعثون يوم القيامة فجارًا، إلا من اتقى الله، وبَرَّ، وصدق)([7]).

وثالث الشروط: أن يكون الإعلان عن البضاعة مطابقًا لحقيقتها، فإن لم يكن كذلك يصبح في حكم التزوير بالقول، وتغرير الناس، والتحايل عليهم، وإيذائهم، وقد ذم الله زخرف القول الذي تعرض به شياطين الإنس والجن لأنبياء الله في قوله -تعالى-: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} [الأنعام: 112]، ومعنى “زخرف القول” تزيين الباطل بالألسنة([8])، أو هو ما يكون باطنه باطلًا، وظاهره مزينًا، فيقال: فلان زَخْرَفَ كلامه: إذا زينه بالباطل، وهو بالمعنى الآخر التغرير([9])، كما ذم الله منكر القول في قوله -تعالى-: {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَرًا مِّنَ الْقَوْلِ وَزُورًا} [المجادلة: 2]، والمنكر من القول: ما لا تُعرف صحته، والزور: الكذب([10]).

ومن وجه آخر يعتبر الإعلان المغاير للحقيقة ضربًا من الغش، وقد ساوى رسول الله -ﷺ- في الوصف بين الغش والخروج على الأمة بالسلاح، فقال: (من حمل علينا السلاح فليس منا، ومن غشنا فليس منا)([11]وجماع ذلك: خروج الغاشِّ عن هدي رسول الله -ﷺ- وطريقته وسنته، وقال: (من باع عيبًا لم يبينه لم يزل في مقت الله، ولم تزل الملائكة تلعنه)([12]).

ورابع الشروط: ألا يكون في التجارة المعلَنِ عنها عيبٌ ظاهرٌ أو باطنٌ، فالمعلِنُ إذا علم عيبًا في بضاعته، ولم يبينه للناس، بل أثنى عليها، ودعا الناس إلى شرائها، فهو بمثابة البائع الغاشِّ، بل هو أشد منه جرمًا؛ لأنه كتم العيب، وزين بضاعته بالكذب، وفي ذلك قال رسول الله -ﷺ-: (لا يحل لأحد أن يبيع شيئًا إلا بَيَّنَ ما فيه)([13])، ويترتب على فعل المعلن ما يترتب على بائع العيب، وللمشتري الخيار في الإبقاء على المبيع المعيب أورده؛ لأن الأصل في الشرع صدق التعامل، وسلامة المبيع من العيب والغش، ومن المهم القول: إن رد المبيع لا ينفي الضرر المترتب من إجراء العيب، فلو أعلن البائع عن سيارة أو آلة، ثم ظهر عيب في صنعتها، نشأ عنه ضرر للمشتري، فلا يمنع ردها من مطالبة المعلن بالتعويض عن الضرر.

وخامس الشروط: ألا يتعدى على غيره، بحيث يجعل من الإعلان عن تجارته وسيلة لذم تجارة غيره، سواءٌ بالتصريح أو التعريض؛ لما في ذلك من الإضرار به، والإساءة إليه، خلافًا لقول رسول الله -ﷺ-: (لا ضرر ولا ضرار)([14])، وقوله: (مَنْ ضارَّ أضر الله به)([15])، وقوله: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)([16]).

وخلاصة المسألة: أن الإعلان عن التجارة، والتعريف بها أمر جائز شرعًا، ولا حرج على المعلن في إعلانه، والثناء على تجارته، ما لم يخالف في ذلك المقاصد الشرعية للتجارة مما أشير إلى بعض منها أعلاه.

والله أعلم.

 

([1]) أخرجه البخاري في كتاب البيوع، باب السهولة والسماحة في الشراء والبيع، ومن طلب حقًّا فليطلبه في عفاف، برقم (2076)، فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ج4 ص359.

([2]) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان باب الدين النصيحة، صحيح مسلم بشرح النووي، ج2 ص37-38.

([3]) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان باب الدين النصيحة، صحيح مسلم بشرح النووي، ج2 ص39.

([4]) أخرجه الترمذي في كتاب البيوع، باب ما جاء في إنظار المعسر والرفق به، برقم (1306)، سنن الترمذي ج3 ص599، صححه الألباني في صحيح الجامع، (٦١٠٧).

([5]) إحياء علوم الدين للغزالي، ج2 ص71.

([6]) سبق تخريجه.

([7]) أخرجه ابن ماجة في كتاب التجارات، باب التوقي في التجارة، برقم (2146)، سنن ابن ماجة ج2 ص 726، وأخرجه الترمذي في كتاب البيوع، باب ما جاء في التجار، وتسمية النبي-ﷺ-إياهم، برقم (1210)، سنن الترمذي ج3 ص515-516، صححه الألباني في صحيح ابن ماجه، (٢/٢٠٨).

([8]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري، ج8 ص3-5.

([9]) تفسير الفخر الرازي، ج13 ص163.

([10]) جامع البيان، ج28 ص27.

([11]) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب كفر من استحل قتال المسلم، صحيح مسلم بشرح النووي، ج2 ص108.

([12]) أخرجه ابن ماجة في كتاب التجارات، باب “من باع عيبًا فليبينه”، سنن ابن ماجة، ج2 ص755، ضعفه الألباني في ضعيف ابن ماجه، (٤٤٢).

([13]) أخرجه الحاكم في كتاب البيوع، المستدرك على الصحيحين، ج2 ص 12، وقال: “هذا حديث صحيح، ولم يخرجاه” قال الشوكاني في السيل الجرار، (٣/١٠٧): في إسناده مقال.

([14]) أخرجه ابن ماجة في كتاب التجارات، باب من بنى في حقه ما يضر بجاره، برقم (2340، 2341)، سنن ابن ماجة، ج2 ص 784، حسنه السيوطي في الجامع الصغير، (٩٨٨٠).

([15]) أخرجه ابن ماجة في كتاب التجارات، باب من بنى في حقه ما يضر بجاره، برقم (2342)، سنن ابن ماجة، ج2 ص 785، حسنه الألباني في صحيح ابن ماجه، (١٩١١).

([16]) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب “من خصال الإيمان أن تحب لأخيك ما تحب لنفسك”، صحيح مسلم بشرح النووي، ج2 ص 16.