ويقول السائل: إنه عرض على الورثة أن يخرجوا لوالده شيئًا من ماله ينفعه بعد مماته، فوافق بعضهم، ولم يوافق بعضهم الآخر، ويسأل عما إذا كان يجب على الورثة أن يتصدقوا على والده من ماله قبل قسمته.
والجواب عن هذه المسألة يتبين بما يأتي:
أولًا: الكلام عن مشروعية الوصية وأهميتها، فالأصل فيها ما ورد في كتاب الله وسنة نبيه محمد-ﷺ-.
فأما الكتاب: فقول الحق -تبارك وتعالى-: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ} [البقرة: 180]، وقوله -تعالى-: {من بَعْد وَصيَّةٍ يُوصي بهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 11]، وقوله -تعالى-: {مِّن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 12]، وقوله -تعالى-: {يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ} [المائدة: 106].
وأما السنة: فقول رسول الله -ﷺ-: (ما حق أمرئ مسلم له بشيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته عنده مكتوبة)([1])، وقوله -عليه الصلاة والسلام-: (إن الله -تبارك وتعالى- تصدق عليكم بثلث أموالكم عند وفاتكم زيادةً في حياتكم؛ ليجعلها لكم زيادة في أعمالكم)([2])، وقوله -عليه الصلاة والسلام-: (إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، وعلم ينتفع به، وولدٌ يدعو له)([3]).
ولما قال سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه-: يا رسول الله! إن لي مالًا، ولا يرثني إلا ابنة لي، أفأوصي بثلثي مالي؟، قال -عليه الصلاة والسلام-: (لا)، قال: فبالشطر؟، قال: (لا)، قال: فالثلث؟، قال: (الثلث، والثلث كثير، إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس)([4]).
وقد تعددت آراء الفقهاء في أحكام الوصية: أهي فرض أم واجبة أم مستحبة؟.
ففي مذهب الإمام أبي حنيفة: الوصية غير واجبة، وإنما هي مستحبة، وإن كانت لا تجوز قياسًا؛ لأنها تمليك من الموصي بعد موته، والموت يزيل الملك، ولكن القياس يُهْمَلُ بما ورد في الكتاب والسنة من الآيات والأحاديث([5]).
وفي مذهب الإمام مالك: قول بأن حكمها الندب، وقول بأنها فرض، وقول بأنها واجبة، أما الإمام مالك فقد شبهها بالهبة([6]).
وفي مذهب الإمام الشافعي: أنها سنة مؤكدة([7]).
وفي مذهب الإمام أحمد: تجب الوصية في ثلاثة أمور فقط، هي: وصية من عليه دين، ووصية من عنده وديعة، ووصية من عليه واجب يوصي بالخروج منه، أما ما عدا ذلك فالوصية مستحبة بجزء من المال لمن ترك خيرًا بدليل قول الله -تعالى-: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ} فهذه الآية نسخت الوجوب فيها، وبقي الاستحباب لها في حق من لا يرث([8]).
وعلى هذا فإن جمهور العلماء يرون أن الوصية غير واجبة إلا على من عليه حقوق، واستدلوا على ذلك بأن رسول الله -ﷺ- لم يوص، وأن كثيرًا من صحابته لم يوصوا بشيء، ولو كانت الوصية واجبة لفعلوها، وخالف الإمام أبو محمد بن حزم من قال بعدم فرضها، ورأى أنها فرض على كل من ترك مالًا([9]).
ثانيًا: من مات، ولم يوص من ماله بشيء لا يلزم ورثته (حكمًا) الإيصاء عنه بشيء، وذلك ترتيبًا على ما تقدم من أن الوصية غير واجبة؛ لأن ما كان غير واجب على المورث يكون من باب أولى غير واجب على الوارث، باستثناء الدين والأمانة، وما على الميت من واجب كالزكاة، أو الوصية بالحج أو النذر، أو نحو ذلك، فهذه لازمة في ماله في حياته، وبعد مماته.
ويرى الإمام ابن حزم “أن من مات، ولم يوص ففرض أن يتصدق عنه بما تيسر، ولا بد؛ لأن فرض الوصية واجب..، فصح أنه قد وجب أن يُخْرَجَ شيءٌ من ماله بعد الموت، فإذا كان ذلك كذلك فقد سقط ملكه عما وجب إخراجه من ماله، ولا حد في ذلك إلا ما رآه الورثة أو الوصي مما لا إجحاف فيه على الورثة، وهو قول طائفة من السلف، وقد صح به أثر عن النبي-ﷺ-([10]).
واستدل على ذلك بما روي عن عائشة -رضي الله عنها-أن رجلًا قال للنبي-ﷺ-: إن أمي افتلتت نفسها، وإنها لو تكلمت تصدقت، أفأتصدق عنها يا رسول الله؟، فقال رسول الله -ﷺ-: (نعم! فتصدق عنها)، وما روي عن أبي هريرة أن رجلًا قال لرسول الله -ﷺ-: إن أبي مات، ولم يوص، فهل يكفر عنه أن أتصدق عنه؟، قال -عليه الصلاة والسلام-: (نعم)، فهذا أمر منه -عليه الصلاة والسلام-في الروايتين، وأمره فرض([11]).
والأحرى بالورثة في هذه المسألة أن يَبَرُّوا مورثهم، فيخرجوا من ماله صدقة تنفعه، وذلك “تبرعًا” منهم بعد أن انقطع عمله من الدنيا، إضافة إلى أن ولده قد شهد بأن أباه كان يعد نفسه بكتابة وصيته، وإخراج جزء من ماله.
وخلاصة المسألة: أن الواجب على المسلم أن يوصي بما عليه من ديْن لله، ولعباده، أو ما عليه من واجب يوصي بالخروج منه، كما أن الأفضل له أن يوصي بما يريد الإيصاء به إن كان لديه وفرة من المال، وذلك بِرًّا بنفسه، وبِرًّا بمن يريد الإيصاء لهم من أقربائه من غير الورثة، أو من المحتاجين، أو غير ذلك من وجوه البر الأخرى، إضافة إلى ما في الوصية من درء للنزاع المحتمل بين الورثة، كما هو الحال في السؤال، حيث أراد بعضهم إخراج صدقة عن مورثهم، واعترض بعضهم الآخر.
فإن عاجل المسلم الموت قبل إيصائه فالأحرى بورثته أن يتبرعوا من ماله بما ينفعه بعد انقطاع عمله؛ عملًا بما أجاب به رسول الله -ﷺ-السائل حين سأله أن يتصدق عن أبيه وأمه.
والله أعلم
([1]) متفق عليه، انظر: اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان، كتاب الوصية، برقم (1052)، ورواه أبو داود في كتاب الوصايا، باب ما جاء فيما يؤمر به من الوصية، برقم (2862)، سنن أبي داود ج3 ص: 112.
([2]) أورده الهيثمي في مجمع الزوائد، ج4 ص212، حسنه الألباني في صحيح ابن ماجه، (٢٢٠٧).
([3]) أخرجه الترمذي في سننه، في كتاب الأحكام، باب في الوقف، برقم (1376)، وقال: “هذا حديث حسن صحيح”، سنن الترمذي ج3 ص: 2660، صححه الألباني في صحيح الترمذي، (١٣٧٦).
([4]) أخرجه البخاري، (١٢٩٥)، أخرجه أبو داود في سننه في كتاب الوصايا، باب ما يؤمر به من الوصية، برقم (2864)، ج3 ص: 112، ورواه النسائي في كتاب الوصايا، باب الوصية بالثلث ج6 ص: 241-242.
([5]) بدائع الصنائع للكاساني، ج7 ص330-331، وحاشية رد المحتار لابن عابدين، ج6 ص647-649، وانظر: نتائج الأفكار في كشف الرموز والأسرار لقاضي زاده، ج1 ص413-416، وحاشية الطحطاوي على الدر المختار، ج4 ص314.
([6]) انظر: مواهب الجليل لشرح مختصر خليل للحطاب، ج6 ص364، وبداية المجتهد، ج2 ص336، وسراج السالك شرح أسهل المسالك، ج2 ص245، والبهجة في شرح التحفة، ج2 ص310.
([7]) نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج، ج6 ص40، وبجيرمي على الخطيب، ج3 ص281، ومغني المحتاج، ج3 ص39، وقليوبي وعميرة، ج3 ص156.
([8]) المغني والشرح الكبير، ج6 ص414-416، وكشاف القناع، ج4 ص335-338، والروض المربع، ج3 ص4-5.
([9]) المحلى بالآثار، ج8 ص349-352.