وخلاصة المسألة سؤال مفاده: أن صاحب أرض رغب من دلال العقار أن يبيعها حسب سعر السوق، فتعهد له الدلال أنه سيبذل كل ما في وسعه لبيع الأرض بأغلى سعر لها في السوق، وبعد مضي مدة قليلة أخبر الدلال صاحب الأرض أنه باع أرضه بقيمة سماها له، فقبل البائع، وأفرغ الأرض للمشتري بعد أن سلمه هذا قيمة الأرض. وقد تبين للبائع فيما بعد أن الأرض بيعت بأقل من قيمة مثيلاتها في السوق، وأن الدلال قد تواطأ مع المشتري بحيث يشتريان الأرض معًا، على أن يظهر المشتري وكأنه قد اشترى الأرض وحده، وبعد مواجهة الدلال بذلك ادعى أن البيع قد تم برضا البائع، ولهذا فلا وجه لاعتراضه. والسؤال هو: ما حكم هذا التواطؤ؟، وماذا يحق للبائع؟.

حكم ما إذا تواطأ الدلَّالُ مع مشتري السلعة، فباعها له على شرط مشاركته فيها

والجواب أن التعامل في الشرع الإسلامي مبني على الصدق والأمانة عملًا بقول الله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِين} [التوبة: 119]، وقوله -عزوجل-: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58]، والأمر في هاتين الآيتين الكريمتين أمر وجوب وتكليف، يقتضي تحريم الكذب، وتحريم الخيانة؛ بدلالة قول الله -تعالى- في ذم الكذب وتحريمه: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَأُوْلـئِكَ هُمُ الْكَاذِبُون} [النحل: 105]، وقولــه -تعالى- في ذم الخيانة والخائنين: {إِنَّ اللّهَ لَا يُحِبُّ الخَائِنِين} [الأنفال: 58]، وقوله  -عز وجل-: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُور} [الحج: 38].

وأَمْرُ اللهِ عبادَه بالصدق وأداء الأمانة، وتحريمه عليهم الكذب والخيانة تشريعٌ إلهيٌّ يقتضيه حفظ حقوق العباد، وصلاح أحوالهم، وقد جاءت سنة رسول الله -ﷺ- مبينةً تحريم الكذب والخيانة، ووصف من يفعل ذلك بالنفاق، بدلالة قوله -عليه الصلاة والسلام-: (آية المنافق ثلاث: إذا حدَّثَ كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان)([1])، كما جاءت سنته -عليه الصلاة والسلام- مبينة ما يناله التاجر الصدوق من الفضل العظيم، وذلك فيما رواه الترمذي أن رسول الله -ﷺ- قال: (التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء)([2])، والتعامل في الشرع الإسلامي مبني -أيضا- على توازن العلاقة والمصالح بين المسلم وأخيه؛ درءًا لما قد يقع من ظلم أحدهما للآخر، ولهذا قال رسول الله -ﷺ-: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)([3])، وقال -ﷺ-: (المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره)([4]).

هذا من حيث العموم في التعامل، أما بالنسبة لما ورد في السؤال عن سلوك الدلال فعلى فرض صحة ما ذكر عنه فإن المسألة فيها غرر وغبن.

ففي المذهب الحنفي: “إذا غرر أحد المتبايعين أو الدلال الطرف الآخر، وكان في البيع غبن فاحش، فيثبت للمغبون خيار الغبن والتغرير”([5])، فإن كان هناك غبن فاحش، وليس هناك تغرير، فليس للمغبون فسخ البيع، باستثناء ما إذا كان الغبن وحده في حال اليتيم، ومال الوقف، وبيت المال”([6]).

وفي مذهب الإمام مالك أقوال حول رد المبيع بالغبن:

منها: أنه لا يرد إلا إذا كان الغبن فوق الثلث؛ استدلالًا بأن رسول الله -ﷺ- جعل الخيار لصاحب الجلب إذا تلقى خارج المصر.

ومنها: أن بيع المستسلم المستنصح يوجب للمغبون الخيار فيه.

ومنها: أنه إذا كان المغبـون جاهـلًا فله الخيار، أما إن كـان عارفًا فلا خيار له، فإن استسلم الجاهـل فله رد المبيع.

والمشهور في المذهب أن الغبن إذا كان موافقـًا للعادة -أي: لا يتغابن الناس بمثله-فلا خيار في رد المبيع، أما إن كان غير موافق للعادة فللمغبون الخيار برده([7]).

وفي مذهب الإمام الشافعي: يثبت الخيار بوجود النقص والضرر، فلو تلقى المشتري القافلةَ، وأخبرهم بكساد ما معهم من المتاع ليغبنهم، ففعله هذا حرام؛ لما فيه من التدليس والغرر، فإذا دخلت القافلة البلد، فبان لهم الغبن كان لهم الخيار([8]).

وفي مذهب الإمام أحمد: يثبت خيار الغبن لِمَا خرج عن العادة، ويُرجع فيه إلى العرف، وممن يثبت له الخيار: المسترسل، وهو المعتمد على صدق غيره؛ لسلامة سريرته([9]).

وينبني على ما سبق: أن للمغبون الخيار في رد المبيع إذا كان الغبن مما يتغابن فيه الناس، وعلى فرض صحة ما ورد في السؤال فإن الدلال قد ارتكب أخطاءً ثلاثةً:

أولها: خيانة الدلال لمهنته، وذلك حين اشترى الأرض لنفسه دون علم صاحبها؛ لأن هذا وضعها عنده بوصفه دلَّالًا يبيع لغيره، ولا يبيع لنفسه، فإن باع لنفسه دون علم البائع وموافقته فيعد فعله هذا بمثابة الخيانة في مهنته، وقد نهى الله عن ذلك في قوله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَا تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُون} [الأنفال: 27]، وخيانة الأمانة تعد من صفات النفاق كما مر ذكره.

وثانيها: كذب الدلال؛ لكونه قد تواطأ مع غيره لإخفاء حقيقة شراكته في الأرض، وفي الكذب ما فيه من الإثم العظيم، وسوء التعامل، والفساد في الأرض.

وثالثها: وضع الدلال نفسه موضع التهمة؛ لأن شراءه للأرض، أو مشاركته فيها يضعه مظنة التهمة، وقد نهى عن ذلك رسول الله -ﷺ-في قوله: (الحلال بين، والحرام بين، وبينهما أمور مشبهات، لا يعلمها كثير من الناس، فمن اتقى المشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات كراع يرعى حول الحمى، يوشك أن يواقعه، ألا وإن لكل ملك حمًى، ألا وإن حمى الله محارمه)([10])، ولاتنتفي التهمة عن الدلال في محاباته لنفسه إلا إذا أخبر البائع عن نيته في ابتياع الأرض لنفسه، أو مشاركته في شرائها.

ومع أن هذه الأخطاء الثلاثة مدعاة إلى القول بغبن البائع في أرضه إلا أن مسألة الغبن تقتضي حكمًا الإثباتَ، كما تقتضي كون الغبن مما يتغابن فيه الناس في تعاملهم في زمانهم ومكانهم، وهذا لا يتحقق إلا أمام القضاء.

وخلاصة المسألة: أن التعامل في الشرع الإسلامي مبنيٌّ حكمًا على الصدق والأمانة، وهذا يقتضي تحريم الكذب والخيانة، كما أن التعامل في الشرع الإسلامي مبني -أيضًا- على توازن العلاقة والمصالح بين المسلم وأخيه؛ درءًا لما قد يقع من ظلم أحدهما للآخر، وقد ارتكب الدلال في المسألة أخطاء ثلاثة، أولها: خيانته لمهنته حين اشترى الأرض لنفسه دون علم صاحبها.

والثاني: تواطؤه بالكذب مع غيره لإخفاء حقيقة شراكته.

والثالث: وضع نفسه موضع التهمة، وهذا يدل على عدم إخلاصه في بيع الأرض بما تستحقه من قيمة.

ومع أن هذه الأخطاء الثلاثة مدعاة إلى القول بغبن البائع في أرضه إلا أن مسألة الغبن تقتضي الإثبات، كما تقتضي كون الغبن في حال وقوعه مما يتغابن فيه الناس.

والله أعلم.

 

([1]) سبق تخريجه .

([2]) سبق تخريجه .

([3]) متفق عليه، أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب “من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه”، صحيح البخاري، ج1 ص9، وأخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب “من خصال الإيمان أن تحب لأخيك ما تحب لنفسك”، صحيح مسلم بشرح النووي، ج2 ص16-17.

([4]) أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم ظلم المسلم وخذله واحتقاره، صحيح مسلم بشرح النووي ج 16 ص120.

([5]) درر الحكام شرح مجلة الأحكام العدلية لعلي حيدر ج1 ص312، تعريب المحامي فهمي الحسيني.

([6]) درر الحكام ج1 ص313-314، وانظر: حاشية رد المحتار على الدر المختار لابن عابدين ج5 ص143-144، بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع للكاساني ج5 ص223-225.

([7]) بداية المجتهد ونهاية المقتصد لابن رشد ج2 ص168، وانظر: مواهب الجليل للحطاب ج4 ص468-469، وبلغة السالك لأقرب المسالك للصاوي ج2 ص68، وشرح منح الجليل لعليش ج5 ص216-218، وشرح الزرقاني على مختصر خليل للزرقاني ج 5 ص181.

([8]) المهذب في فقه الإمام الشافعي للشيرازي ج1 ص290-292، وانظر: المجموع للنووي ج 13 ص23، ونهاية المحتاج إلى شرح المنهاج للرملي ج3 ص466-467، ومغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج للشربيني ج2 ص36، والوجيز في فقه الإمام الشافعي للغزالي ج1 ص139.

([9]) مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى للرحيباني ج3 ص100-101، وكشاف القناع عن متن الإقناع للبهوتي ج1 ص211-214، والمغني والشرح الكبير لابن قدامة ج4 ص90-91، ومجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ج29 ص258-359، والإنصاف للمرداوي ج 4 ص394-396.

([10]) أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب فضل من استبرأ لدينه، صحيح البخاري، ج1 ص19، وأخرجه مسلم في كتاب المساقاة والمزارعة، باب أخذ الحلال وترك الشبهات، صحيح مسلم بشرح النووي، ج11 ص27.