وخلاصة السؤال: هل يجوز لمن يملك أرضا في حي يسكنه كثير من الناس أن يقيم عليها مصنعا؟، ويشمل هذا السؤال أمثلة كثيرة، منها: بناء الأفران، والمطابخ، ومولدات الكهرباء، وأماكن الحدادة، والنجارة، ونحو ذلك مما له آثار ضارة على جيران هذه المواقع والأحياء التي توجد فيها؟.

حكم من بنى مصنعًا بالقرب من الأحياء السكنية

والجواب: أن التقنية المعاصرة وحجم الآلات الصناعية قد تسبب عددا من الآثار الضارة للصحة والبيئة، وإذا كان بعض هذه الآثار يمكن تلافيه، فإن بعضها الآخر لا يمكن تلافيه إلا بإبعاد هذه الآلات عن سكن الإنسان ومواقع وجوده.

وفي الماضي كانت آثار هذه الآلات محصورة في الروائح التي تنتج عن حظائر الأغنام، أو في الدخان الذي يخرج من الأفران، أو في وهن الحيطان نتيجة الدق الذي قد يحدث من بعض الحرف والمهن.

وللفقهاء أقوال في هذه المسائل:

ففي المذهب الحنفي: قول يفيد أن لصاحب الأرض أن يبني على أرضه ما يريد، فلو اتخذ مثلا بئرا في ملكه، أو بالوعة، فتأثر منها حائط جاره، وطلب هذا منه تحويله؛ لم يجبر عليه، فإن سقط الحائط من ذلك لا يضمن، ولو اتخذ داره حظيرة للغنم، والجيران يتأذون من نتن السرقين، ولا يأمنون على الرعاة؛ فليس لهم منعه.

وفي قول آخر أن للقاضي المنع من ذلك، وأن ‏«‏الدار إذا كانت مجاورة لدور، فأراد صاحب الدار أن يبني فيها تنورا للخبز الدائم، أو رحى للطحن، أو مدقة للقصارين؛ يمنع منه؛ لأنه يتضرر به جيرانه ضررا فاحشا..، وأجمعوا على منع الدق الذي يهدم الحيطان ويوهنها ودوران الرحى من ذلك‏»‏‏.

وفي قول آخر أن القياس في جنس هذه المسائل أن يفعل صاحب الملك في ملكه ما بدا له مطلقا؛ لكونه يتصرف في خالص ملكه، وإن كان يلحق الضرر بغيره، ولكن يترك القياس في موضع يتعدى ضرره إلى غيره ضررا فاحشا([1]).

ويفهم من الجمع بين هذه الأقوال أن للمالك حق التصرف في ملكه، ما لم ينتج عن تصرفه هذا ضرر فاحش بغيره.

وفي مذهب الإمام مالك: أنه إذا كان للرجل في داره بئرٌ إلى جانب جداره، فحفر جاره في داره بئرا إلى جانب داره من خلفها، فإن كان ذلك يضر ببئر جاره منع من ذلك([2])، والعبرة في ذلك بوجود الضرر، وهذا ينقسم إلى قسمين: أحدهما متفق عليه في المذهب، والآخر مختلف فيه.

فمن المتفق عليه: أن يبني في داره فرنا أو حماما أو كير حداد أو صائغ مما يضر بجاره، فيمنع منه إلا إن احتال في إزالة الدخان. ومن الضرر المتفق على منعه: أن يصْرِف ماءه على دار جاره، أو على سقفه، أو يجري في داره ماء، فيضر بحيطان جاره.

وأما الضرر المختلف فيه فمثل أن يعلي بنيانه بما يمنع جاره الضوء والشمس، فالمشهور ألا يمنع منه، وهناك قول بمنعه([3]).

وفي مذهب الإمام الشافعي: خلاف ذلك، فلو جعل داره مدبغة أو حماما يضر بعقار جاره برائحته أو غيرها، أو يجعل داره مخبزا في وسط العطارين ونحو ذلك مما يؤذي الجيران فله ذلك؛ لأنه تصرف مباح في ملكه، ولكن إذا ألصق الحائط بالحائط بغير مسافة -ولو يسيرة- منع من ذلك، وفي المذهب قول بأنه إذا طرح في أصل حائطه فضلات عفنة تسري في مسام الأرض، فتحدث في البناء العطب والتلف، منع من ذلك؛ لأنه تصرف باشر ملك غيره بما يضره([4]).

وفي مذهب الإمام أحمد: تفصيل في هذه المسألة، فبالنسبة لغصون الشجر وعروقه ‏«‏إذا حصلت أغصان شجرته في هواء ملك غيره، أو هواء جدار له فيه شركة، أو على نفس الجدار؛ لزم مالكَ الشجرة إزالةُ تلك الأغصان، إما بردها إلى ناحية أخرى، وإما بالقطع؛ لأن الهواء ملك لصاحب القرار، فوجب إزالة ما يشغله من ملك غيره كالقرار، فإن امتنع المالك من إزالته لم يجبر؛ لأنه من غير فعله، فلم يجبر على إزالته، ويضمن ما تلف به إذا أُمِر بإزالته فلم يفعل؛ بناء على ما إذا مال حائطه إلى ملك غيره.

وعلى كلا الوجهين إذا امتنع من إزالته كان لصاحب الهواء إزالته بأحد الأمرين؛ لأنه بمنزلة البهيمة التي تدخل داره، له إخراجها، كذا ههنا… فإن أمكنه إزالتها بلا إتلاف ولا قطع من غير مشقة تلزمه ولا غرامة لم يجز له إتلافها، فإن أتلفها في هذه الحال غرمها، وإن لم يمكنه إزالتها إلا بالإتلاف فله ذلك، ولا شيء عليه، فإنه لا يلزمه إقرار مال غيره في ملكه‏»‏‏([5]).

وبالنسبة لتصرف المالك في ملكه ليس له ذلك بما يضر جاره نحو ‏«‏أن يبني فيه حماما بين الدور، أو يفتح خبازا بين العطارين، أو يجعله دكان قصارة يهز الحيطان ويخربها، أو يحفر بئرا إلى جانب بئر جاره يجتذب ماءها…‏»‏‏. وعن الإمام أحمد رواية بعدم منعه، وهو قول الإمام الشافعي وبعض أصحاب أبي حنيفة، كما سلفت الإشارة إليه.

وقد عقب على ذلك صاحب المغني بالاستشهاد بقول النبي -ﷺ-: «لا ضرر، ولا ضرار»([6])، وقال: “لأن هذا إضرار بجيرانه، فمنع منه كالدق الذي يهز الحيطان وينثرها، وكسقي الأرض الذي يتعدى إلى هدم حيطان جاره، أو إشعال نار تتعدى إلى إحراقها، قالوا: ههنا تعدت النار التي أضرمها، والماء الذي أرسله، فكان مرسلا لذلك في ملك غيره، فأشبه ما لو أرسله إليها قصدا. قلنا: والدخان هو أجزاء الحريق الذي أحرقه، فكان مرسلا له في ملك جاره، فهو كأجزاء النار والماء، وأما دخان الخبز والطبيخ فإن ضرره يسير، ولا يمكن التحرز منه، وتدخل المسامحة‏»‏‏([7]).

ومن مجمل أقوال الفقهاء هذه يتبين أن للمالك حق التصرف في ملكه، ولكن هذا يتوقف على عدم الضرر لجيرانه، سواء كان هذا الضرر في صورة روائح يتأذون منها في أنفسهم، كتلك التي تنتج عن حظائر الأغنام، أو كير الحدادين، أم كان في صورة تسبب الخطر كالأفران، أم كان في صورة تسبب الخطر لأملاكهم كالدق في حيطانها، أو صرف الماء إليها، أم كان في أي صورة من صور الأذى كأغصان الشجر وعروقه، أو نحو ذلك مما يكون ضرره بينا أو احتمالاته ظاهرة.

وإذا كان هذا هو الحكم في الماضي عندما كانت الآلات فيه قليلة الأذى والخطر، فإن تقدم التقنية وأخطار الآلات المعاصرة أصبحت تحتم أخذ الحيطة والحذر والتشديد في المسؤولية عن هذه الآلات.

وعلى هذا لا يجوز للمالك إيذاء جيرانه ببناء مصنع، أو محطة وقود، أو مولد كهرباء أو نحو ذلك من الوسائل والآلات المزعجة أو الخطرة، مثل ورش السيارات والحدادة والمطابخ والمولدات الكهربائية.

وخلاصة المسألة: أنه لا يجوز لمن يملك أرضا في حي يسكنه الناس أن يبني فيها مصنعا، أو فرنا، أو مولدا كهربائيا أو محطة وقود، أو ورش سيارات أو حدادة أو نحو ذلك من الوسائل والآلات المزعجة أو الخطرة مما يكون ضرره بينا، أو احتمالاته ظاهرة. والله أعلم.

 

([1])  فتح القدير للإمام ابن الهمام على الهداية للمرغيناني، ج7 ص325-327، وحاشية رد المحتار على الدر المختار للإمام ابن عابدين، ج5 ص447-449.

([2])  المدونة الكبرى للإمام مالك رواية الإمام سحنون ومع مقدمات ابن رشد، ج4 ص378، وشرح منح الجليل للشيخ عليش، ج8 ص77-78.

([3])   القوانين الفقهية لابن جزي، ص223-224.

([4])  المجموع شرح المهذب للإمام النووي، ج15 ص219، ونهاية المحتاج إلى شرح المنهاج للرملي، ج5 ص337-338.

([5])  المغني للإمام موفق الدين عبد الله بن قدامة مع الشرح الكبير للإمام عبد الرحمن بن قدامة، ج5 ص22.

([6]) أخرجه ابن ماجة في كتاب الأحكام، باب من بنى في حقه ما يضر بجاره، برقم (2430)، ج2 ص784، قال محمد فؤاد عبد الباقي في تعليقه على الحديث: ‏”‏في الزوائد: في حديث عبادة هذا إسناد رجاله ثقات، إلا أنه منقطع؛ لأن إسحاق بن الوليد، قال الترمذي وابن عدي: لم يدرك عبادة بن الصامت وقال البخاري: لم يلق عبادة‏»، صححه الألباني في السلسلة الصحيحة، (٢٥٠).‏‏.

([7]) المغني والشرح الكبير، ج5 ص52.