والجواب عن هذه المسألة من وجهين:
الوجه الأول: علاقة التاجر الوكيل بالمصنع، وعلاقته بالتاجر الذي تجاوز عليه.
علاقة التاجر الوكيل بالمصنع: هذه العلاقة تُحْكَمُ بالعقد بينهما، والأصل فيه رضا طرفيه أو أطرافه، فإن كانت مدته محدودة بأجل -كما لو كان لمدة سنة أو أكثر- انتهت بانتهاء هذا الأجل، وليس لأحد من أطرافه الادعاء بغير ذلك؛ لكونه جاء نتيجة للتراضي بينهم، وإن كانت مدة العقد محكومة بشروط لم تنته إلا بتحقق هذه الشروط، ومن ذلك: ما لو كان الوكيل قد اشترط على المصنع أن يقوم بتسويق عدد أو كمية محددة من إنتاجه، أو اشترط عليه أن يبلغه بمدة معينة قبل انتهاء العقد، ونحو ذلك فـ”مقاطع الحقوق عند الشروط”([1]) كما قال ذلك عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-.
فعلاقة التاجر إذًا بالمصنع علاقة عقْدية، وليس لأحد منهما التحلل من هذه العلاقة إلا بموجب العقد نفسه، أو بموجب التراضي بينهما، كما لو قررا فسخه قبل نهاية مدته.
الوجه الثاني: علاقة التاجر مع التاجر:
هذه العلاقة محكومة بقواعد الشريعة وأحكامها، ففي عمليات البيع والشراء والاتجار بوجه عامٍّ ليس لأحد أن يسوم على سوم أخيه، أو يشتري على شرائه، وصفة السوم على السوم: أن يتساوم رجل وآخر على سلعة معينة، فيحدد لهما البائع الثمن الذي يطلبه لها، ثم يأتي رجل آخر، فيدفع للسلعة ثمنًا أزيد مما طلبه البائع، فيبيعه على هذا الأساس، أو يبيعه بنفس الثمن الذي طلبه بعد أن فضله على صاحب السوم الأول.
وصفة الشراء على الشراء: أن يتدخل الرجل في عملية البيع بعد أن تمت، فيطلب من البائع فسخ ما تم العقد عليه؛ ليقوم هو بشرائه بأكثر، أو يدفع له قبل تمام العقد أكثر من الثمن الذي اشتراه المشتري به، وهذا البيع في صفتيه منهيٌّ عنه؛ لما رواه أبو هريرة أن رسول الله -ﷺ-قال: (لا يَسْتَامُ الرجل على سوم أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه)([2]).
وفي مذهب الإمام أبي حنيفة: النهي عن السوم على السوم، ولكن هذا النهي لمعنى في غير البيع، وهو (الإيذاء)، فكان نفس البيع مشروعًا، فيجوز شراؤه، ولكنه يكره، وهذا إذا جنح البائع للبيع بالثمن الذي طلبه المشتري الأول، فإن كان لم يجنح البائع له فلا بأس للثاني أن يشتريه؛ لأن هذا ليس استيامًا على سوم أخيه، فلا يدخل تحت النهي؛ لانعدام معنى الإيذاء([3]).
وفي مذهب الإمام مالك: النهي عن السوم على السوم بدلالة ما رواه أبو هريرة أن رسول الله -ﷺ- قال: (لا تَلَقَّوُا الركبانَ للبيع، ولا يبع بعضكم على بيع بعض…الحديث)([4]).
وفي أوجز المسالك: أن الإمام مالكًا فسر هذا بالسوم على سوم أخيه، ونقل عن الحافظ قوله: “قال العلماء: البيع على البيع حرام، وكذلك الشراء على الشراء. وقال الزرقاني: ذِكْرُ المسلمِ ليس للتقييد، فلا فرق بين المسلم وغيره عند الجمهور”([5]).
وقال الباجي: “فإن وقع، وساوم رجل على سوم أخيه فقد روى ابن حبيب عن مالك أنه يستغفر الله، ويعرضها على الأول بالثمن، زادت أو نقصت، فإن شاء أخذ، وإن شاء ترك، وروى سحنون عن ابن القاسم أنه لا يفسخ، ولكن يؤدب، وقال غيره: بل يفسخ ذلك. وقال الموفق: فإن خالف وعقد فالبيع باطل؛ لأنه منهي عنه، والنهي يقتضي الفساد”([6]).
وفي مذهب الإمام الشافعي: يحرم على الرجل أن يدخل على سوم أخيه، وهو: “أن يجيء إلى رجل أنعم لغيره في بيع سلعة بثمنٍ، فيزيده ليبيع منه، أو يجيء إلى المشتري، فيعرض عليه مثل السلعة بدون ثمنها، أو أجود منها”([7])؛ لحديث رسول الله -ﷺ- الذي نهى فيه عن سوم الأخ على أخيه([8]).
وفي مذهب الإمام أحمد: تفصيل في هذه المسألة، وفيما جاء من النهي عن السوم على السوم في حديث أبي هريرة السابق ذكره، فالسوم على السوم لا يخلو من أربعة أقسام:
أولها: أن يوجب من البائع تصريح بالرضا بالبيع، فهذا يحرم السوم على غير ذلك للمشتري، وهو الذي تناوله النهي.
والثاني: أن يَظهر من البائع ما يدل على عدم رضاه، فلا يحرم السوم؛ استدلالًا بأن رسول الله -ﷺ- باع فيمن يزيد، وذلك حين شكا إليه رجل من الأنصار الشدة، فأمره أن يأتيه بما بقي عنده، فلما أتاه بقدح، وجلس، قال -عليه الصلاة والسلام-: (من يبتاعهما)؟، فقال رجل: أخذتهما بدرهم، فقال: (من يزيد على درهم)؟، فأعطاه رجل درهمين، فباعهما منه([9]).
والثالث: ألا يوجد من البائع ما يدل على الرضا أو عدمه، فلا يجوز السوم ولا الزيادة، بدليل حديث فاطمة بنت قيس حين ذكرت للنبي -ﷺ- أن معاوية وأبا جهم خطباها، فأمرها أن تنكح أسامة، وقد نهى عن الخطبة على خطبة أخيه([10]).
والرابع: أن يظهر من البائع ما يدل على الرضا من غير تصريح، فلا تحرم المساومة، قاله ابن القاضي، وذكر أن الإمام أحمد نص عليه في الخطبة استدلالًا بحديث فاطمة المشار إليه، ولأن الأصل إباحة السوم والخطبة، فحرم منع ما وجد فيه التصريح بالرضا، وما عداه يبقى على الأصل، ذكره الإمام ابن قدامة في المغني، ثم قال: “ولو قيل بالتحريم هنا لكان وجهًا حسنًا، فإن النهي عامٌّ، خرجت منه الصور المخصوصة بأدلتها، فتبقى هذه الصورة على مقتضى العموم؛ ولأنه وجد منه دليل الرضا أشبه ما لو صرح به، ولا يضر اختلاف الدليل بعد التساوي في الدلالة، وليس في حديث فاطمة ما يدل على الرضا؛ لأنها جاءت مستشيرة للنبي -ﷺ-، وليس ذلك دليلًا على الرضا”([11]).
وفي المذهب الظاهري: مثل ذلك، حيث ذكر الإمام ابن حزم أنه لا يحل لأحد السوم على سوم أخيه، أو البيع على بيعه، المسلم والذمي سواءٌ، فإن فعل فالبيع مفسوخ، وقد استدل أبو محمد على ذلك بالأحاديث التي مر ذكرها([12]).
ويظهر مما سبق أن السوم على السوم وما في حكمه مدعاة للأذى والضرر؛ لما ينتج عنه من ظلم الكبير للصغير، والقوي للضعيف، فقد يكون التاجر الوكيل المذكور في المسألة ضعيفًا بجانب التاجر الذي أخذ الوكالة منه باتفاقه مع المصنع، وهو ما أشار إليه الفقهاء بـ”الوجاهة” حين يكون الرجل وجيهًا وصاحبَ مكانةٍ، فيفضله البائع رغم أن سومه كان على سوم أخيه.
والنهي عن السعي على السوم، أو الشراء على الشراء حكم عام يشمل كل عملية تتم خارج إطار الأخلاق التي أوجبها الشارع في التعامل بين الناس، سواءٌ في بيعهم وشرائهم، أو في سائر أمورهم الأخرى.
فما كان النهي عن الخطبة على الخطبة إلا لما فيه من الأذى وفساد العلاقة، وما كان النهي عن الغيبة إلا لما فيها من الأذى والظلم وفساد الأحوال بين الناس، وهكذا في كل أمر يختل فيه ميزان التعامل بينهم.
والنهي عن هذه البيوع ليس مجرد موعظة قد يأخذ بها شخص، ويتركها آخر، وإنما هو أمر يقتضي إلزام المُكلفِينَ به، وتنفيذه بقوة السلطة حفاظًا على سلامة التعامل بين الناس، واستقرار أحوالهم، وانتظام أمورهم.
وينبني على هذا أن من حق المصنع أن يتعامل مع وكيله وفقًا للعقد القائم بينهما، سواء بالنسبة لمدته أو شروطه، ولكن ليس من حق التاجر أن يتجاوز على حق التاجر الآخر، فيستميلَ المصنع إليه على حساب غيره، فذلك من باب السوم على السوم، والبيع على البيع المنهي عنه، وبالتالي من باب الأذى والإضرار المحرم؛ لما يؤدي إليه من الظلم والفساد في الأرض.
وخلاصة المسألة: أن العلاقة بين التاجر الوكيل علاقة عقد، سواء بالنسبة لشرط المدة طولًا وقِصَرًا، أو بالنسبة لأي شرط آخر ورد النص عليه في العقد؛ لأن “مقاطع الحقوق عند الشروط”.
أما علاقة التاجر بالتاجر فتخضع للقواعد الشرعية العامة، حيث نهى الله -تعالى-عن التعدي على الغير، سواءٌ كان هذا في صورة فعل مادي، أم كان في صورة فعل معنوي؛ لما يؤدي إليه ذلك من الأذى والظلم والفساد في الأرض.
كما تخضع هذه العلاقة للقواعد الشرعية في البيوع، حيث نهى رسول الله -ﷺ- عن السوم على السوم، والبيع على البيع؛ لقوله-عليه الصلاة والسلام-: (لا يستام الرجل على سوم أخيه)([13])، وقوله: (.. ولا يَبِعْ بعضكم على بيع بعض)([14])، وهذا النهي ليس مجرد موعظة، بل هو أمر يقتضي إلزام المكلفين به، وتنفيذه بقوة السلطان؛ حفاظًا على سلامة التعامل بين الناس، واستقرار أحوالهم، وانتظام أمورهم.
والله أعلم.
([1]) كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال، لعلاء الدين علي المتقي، ج5 ص837، صححه الألباني في إرواء الغليل، (١٨٩١).
([2]) أخرجه الإمام أحمد في المسند، ج2 ص457، قال شعيب الأرنؤوط في تخريج المسند (٩٩٥٩): إسناداه صحيحان على شرط مسلم.
([3]) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع للإمام الكاساني، ج5 ص232-233، وانظر: شرح فتح القدير للإمام ابن الهمام، ومعه شرح العناية على الهداية للإمام البابرتي، حيث علل النهي عن السوم على السوم بأنه يؤدي إلى الإيحاش والإضرار، حيث يدفع الرجل على السوم أكثر أو مثل ما طلبه المالك، فيبيعه لوجاهته، ج6 ص476-477، وحاشية رد المحتار على الدر المختار لابن عابدين، ج5 ص101-102، واللباب في شرح الكتاب للغنيمي، ج2 ص29.
([4]) أخرجه الإمام مالك في الموطأ، في كتاب البيوع، باب ما يُنهى من المساومة والمبايعة، برقم (1379)، رواية يحيى الليثي، إعداد أحمد عرموش، ص476، والحديث صححه الألباني في صحيح الجامع، (٧٤٤٩). وانظر: القوانين الفقهية لابن جزي، ص175، والتاج والإكليل لمختصر خليل هامش مواهب الجليل للمواق، ج4 ص379-380، ومقدمات ابن رشد مع المدونة الكبرى، ج3 ص203.
([5]) أوجز المسالك إلى موطأ الإمام مالك للكاندهلوي، ج11 ص366-367.
([6]) أوجز المسالك، ج11 ص 366-367.
([7]) المجموع شرح المهذب للإمام النووي، ج13 ص16-18، ونهاية المحتاج إلى شرح المنهاج للرملي، ج3 ص467-469، وقليوبي وعميرة على منهاج الطالبين، ج2 ص183-184، ومغني المحتاج للشربيني، ج2 ص37، وفتح الوهاب بشرح منهاج الطلاب، ج1 ص166-167.
([8]) أخرجه الإمام أحمد في المسند، ج2 ص457، قال شعيب الأرنؤوط في تخريج المسند (٩٩٥٩): إسناداه صحيحان على شرط مسلم، وأخرجه مسلم في صحصحه برقم (1515).
([10]) أخرجه الإمام أحمد في المسند، ج2 ص457، قال شعيب الأرنؤوط في تخريج المسند (٩٩٥٩): إسناداه صحيحان على شرط مسلم، وأخرجه مسلم في صحصحه برقم (1515) حسنه الترمذي في سننه/ (١٢١٨).
([11]) المغني والشرح الكبير للإمام ابن قدامة، ج4 ص279، والبهوتي في كشاف القناع عن متن الإقناع، ج3 ص183، وشرح منتهى الإرادات، ج2 ص156، والإنصاف للمرداوي، ج4 ص231-332، ومطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى للرحيباني، ج3 ص56.
([12]) المحلى بالآثار لابن حزم، ج7 ص370-371.
([13]) أخرجه الإمام أحمد في المسند، ج2 ص457، قال شعيب الأرنؤوط في تخريج المسند (٩٩٥٩): إسناداه صحيحان على شرط مسلم.
([14]) أخرجه الإمام مالك في كتاب البيوع، باب ما ينهى من المساومة والمبايعة، برقم (1379)، موطأ الإمام مالك رواية الليثي، ص476، والحديث صححه الألباني في صحيح الجامع، (٧٤٤٩).