هل يجوز للمكرَه -بفتح الراء- أن يمتثل لما يكره عليه من قول أو فعل أو تصرف؟.

هل يجوز للمكرَه أن يمتثل لما يكره عليه

الجواب: يجوز له الامتثال للإكراه إذا توافرت فيه الشروط الشرعية، والأساس الشرعي في ذلك قول الله -تعالى- في كتابه العزيز: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106]، وقول رسوله محمد -ﷺ-: «إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه»([1])، والإكراه هو قسر الإنسـان على قول أو فعل أو تصرف لا يريد أن يفعله لو كان ذلك بـاخـتـيـاره وإرادته، كما لو أكره على ارتكاب المحرمات خلافًا لنهي الله -تعالى- ونهي رسوله -ﷺ- عنها، أو كما لو أكره على ارتكاب المحرمات في حقوق العباد كالإتلاف أو الغصب أو الإرهاب أو الإخافة، أو نحو ذلك مما يروع الإنسان أو يفقده حرية التصرف.

وقد عرفه الإمام الشافعي بأنْ “… يصير الرجل في يدي من لا يقدر على الامتناع منه من سلطان أو لص أو متغلب على واحد من هؤلاء، ويكون المكـره يخاف خوفا عليه دلالة أنه إذا امتنع من قول ما أمر به يبلغ به الضرب المؤلم، أو أكثر منه، أو إتلاف نفسه، فـإذا خاف هذا سقط عنه حكم مـا أكره عليه من قول ما كان القول شـراء أو بيعًا، أو إقرارًا لرجل بحق أو حد، أو إقرار بنكاح أو طلاق، أو إحداث واحد من هذا وهو مكره، فأيَّ هذا أحدث وهو مكره لم يلزمه([2]).

والإكراه نوعان: ملجئ وغير ملجئ، فالإكراه الملجئ أو التام: ما أدى في حال تنفيذه إلى إتلاف النفس أو عضو من أعضاء الجسد، أو أدى إلى ضـرب مبرح، أو ضرر ظاهر، والإكراه غير الملجئ أو الناقص هو ما كـان على خلاف ذلك؛ كالضرب البسيط، أو الحبس لمدة قليلة؛ مما يعد في حقيقته ضررا غير بالغ.

وللإكراه شروط ثلاثة

أولها: أن يكون المكـره-بكسر الراء- يقدر على إيقاع الفعل، ومثال ذلك: رجل السلطة إذا قسر المكره -بفتح الراء- على الإقرار بالبيع أو التنازل عن تعويض يستحقه، أو قسره على إتلاف حق لآخر، أو غصبه، أو نحو ذلك من أنواع الإكراه الأخرى، ومثل ذلك: أي شخص معتد يقدر على إيقاع الضرر كالإرهابي والسارق والمحارب ومن في حكمهم ممن يقدر على تنفيذ الفعل الضار.

الشرط الثاني: كون الفعل المكره عليه يتلف النفس أو العضو، أو يعدم رضا المكـره -بالفتح -، بحيث لا يكون أمامه من خيار سوى تنفيذ ما أكره عليه أو إيقاع الضرر به.

الشرط الثالث: خشية المكـره -بالفـتـح- بما يغلب على ظنه الراجح من أن المكره -بالكسر- سينفذ إكراهه، وأنه قادر عليه، ومثال ذلك: ما لو كان يحمل سلاحا أو آلة حادة، أو كان يقدر على قتل أو حبس المكره بالفتح – أو تقييده.

ولكي يتحقق الإكراه بشروطه الشرعية ينبغي الأخذ في الاعتبار طبيعة الفعل وطبيعة المكره – بالفتح، فالفعل ينبغي أن ينصب على المكره بالفتح – في نفسه أو ماله، أو على من يتأثر من ضرره تأثرًا مباشرا كولده أو والديه([3]) أو أحدهما، وهذا على خلاف ما لو كان الفعل منصبًّا على أحد أصدقائه أو جيرانه.

كما ينبغي أن يكون الفعل مـؤثرًا، فلو كان مجرد وعيد أو تهديد أو ضرب يسير أو سجن قصير، فلا يعد ذلك سببًا مشروعًا لتنفيذ الفعل المكره عليه؛ إذ لا يجوز أن يسطو على مال غيره أو يسلبه بحجة أن المكره هدده بأن يفعل ذلك، ولا يجوز له أن يخون أمانته في الوظيفة أو نحوهـا بحجة أن شخصًا توعده بالعقاب إن لم يفعل، كما ينبغي أن تؤخـذ في الاعتبار طبيعة الشخص المكره-بالفتح-وحالته، فالصغير غير الكبير، والمريض غير السليم، والمرأة غير الرجل.

وإذا وقع الإكراه بـشـروطه المذكورة انتفى الإثم، ولم تجب العقوبة، فلو أكره على ارتكاب محرم فلا إثم عليه بدليل قول الله -تعالى-: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106]، وفي ذلك ورد في الأثر أن المشركين عذبوا عمار بن ياسر، فذكر آلهتهم بخيرن وسب النبي -ﷺ-، فشكا ذلك له -عليه الصلاة والسلام-، فقال: «إن عادوا فعد»([4]).

كما ورد في الأثر أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أُتي بإماء، استكرههن غلمان، فضربهم، ولم يتعرض للإماء بشيء([5]).

الإكراه على القتل:

والإكراه على القتل حالة خاصة في مسألة الإكراه، فمن أكره رجلًا على قتل رجل آخر فهل ينجو المكره -بالفتح – من العقوبة؟.

تباينت آراء الفقهاء في ذلك، فالإمام مالك يوجب القصاص على المكره والمكره، ما لم يكن المكره أبا المقتول، فيقتل مكرهه وحده([6])، ويرى الإمام أبو حنيفة أن القصاص على المكره دون المباشر؛ لدلالة الحديث: «إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه»([7])، ولأن المكره-بالفتح-آلـة للمـكـره -بالكسر-، وخالف زفر رأي الإمام أبي حنيفة، فرأى وجوب القصاص على المباشر دون المكره-بالكسر-([8]وعند الإمام الشافعي: لو أن رجلا في مصر أو في قرية لم يقهر أهلها كلهم، فأمر رجلًا بقتل رجل، فقتله، والمأمور مقهور، فعلى المامور القود في هذا دون الآمر، وعلى الآمر العقوبة إذا كان المأمور يقدر على الامتناع بجماعة يمنعونه منه أو بنفسه، أو أن يهرب، فعليه القود في هذا دون الآمر، وإذا لم يقدر على الامتناع منه بحال فعليهما القود معا([9]).

وفي المذهب الحنبلي: يجب القصاص على المكره والمكـره معًا، فالأول تسبب في القتل، والثاني قام به ظـلما ظنا منه أن ذلك نجاة نفسه([10]).

ولعل هذا هو الأوجه والأوفق، فإذا كان وجوب القصاص واضحًا في الآمر لكونه المسبب والمنشئ للقتل فهو كذلك ظاهر في المأمور؛ إذ ليس من المقبول أن يدرأ الإنسان عن نفسه القتل بقتل غيره، وتعرضه للإكراه لا يعفيه من مسؤوليته، ولو أعفي من هذه المسؤولية لأصبح من السهل عليه الإذعان للإكراه، وعدم مقاومته، ولتحول إلى أداة في يد من يأمره بالقتل تحت اسم الإكراه. والله أعلم.

([1]) أخرجه ابن ماجة في كتاب الطلاق، باب طلاق المكره والناسي، برقم (٢٠٤٣)، سنن ابن ماجة، ج1 ص659، صححه الألباني في صحيح ابن ماجه، (١٦٧٧)..

([2]) الأم، ج۳ ص ٢٣٦.

([3]) يري بعض الفقهاء أن حبس الوالدين مثلاً لا يعد إكراها ملجئا، ومنهم من يراه كذلك. انظر: حاشية رد المحتار فيما ورد عن الزيلعي في مسألة حبس الوالدين، والأصح اعتباره كذلك؛ لأن الولد بطبيعته يتاثر لمرض والديه أو فقدهما أو التعدي عليهما، ولا عبرة للشواذ.

([4]) أخرجه البيهقي في السنن الكبري، كتاب المرتد، باب المكره على الردة، ج۸ مر ۲۰۹، رواه الحاكم في المستدرك على الصحيحين، (٣٤٠٥)، وقال: صحيح على شرط الشيخين..

([5]) أورده عبد الرزاق في المصنف، باب زنا الأمة، ج۷ ص۳۹5.

([6]) منح الجليل شرح مختصر خلیل، ج9 ص27.

([7]) أخرجه ابن ماجة في كتاب الطلاق، باب طلاق المكره والناسي، برقم (٢٠٤٣)، سنن ابن ماجة، ج1 ص659، صححه الألباني في صحيح ابن ماجه، (١٦٧٧)..

([8]) الفتح القدير، ج9 ص٢٤٤.

([9]) الأم ۱، ج6 ص42.

([10]) المغني والشرح الكبير، ج9 ص33.