والجواب من حيث العموم: أن للزوجين حقوقًا وواجبات نحو كل منهما يقتضي حسن المعاشرة أداء كل منهما لهذه الحقوق، وقيامه بهذه الواجبات، والأصل في هذا قول الله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم:21]، وقوله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ} [البقرة:228]، وقوله عزوجل: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء:19]، فالسكينة والمودة في الآية الأولى تقتضيان قيام كل من الزوجين بواجبه تجاه الآخر، وهذا واضح في الآية الثانية في قوله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ}، فكما أن للزوجة حقوقًا على الزوج من سكنى ونفقة وعلاج ونحو ذلك فإن له حقوقًا عليها، ومن ذلك طاعته في غير معصية، وحفظ فراشه وماله، والإحسان إلى أهله وولده ونحو ذلك مما تقتضيه المعاشرة بالمعروف، وفي الآية الثالثة أمر للأزواج بحسن المعاشرة لأزواجهم، وهذا في الوقت نفسه أمر للزوجات بحسن المعاشرة لأزواجهن بالمعروف، وقد اقتضت حكمة الله أن ينفرد كل من الزوج والزوجة بخصائص بيولوجية تتناسب مع واجب كل منهما تجاه الآخر، فلما كانت المسؤولية الكبرى عن بيت الزوجية تقع على الزوج، بما فيها من أعباء وتكاليف النفقة والسكنى والكساء ونحو ذلك، جعل الله للزوج القوامة في قوله تعالى: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة:228]، وقوله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء} [النساء:34]، وليس في هذه القوامة تنقيص لحق الزوجة -كما يظن أولئك الذين لا يدركون حكمة الله- بل هي تكريم لها؛ لأن الزوج (بهذه القوامة) سيتكلف من الأعباء ما لا تتكلفه الزوجة.
هذا من حيث العموم؛ أما من حيث سؤال الأخ السائل فإن خروج الزوجة من بيت زوجها دون إذنه إما أن يكون لأداء واجب عليها وإما أن يكون خروجها لغير هذا الواجب.
وقبل البحث في هذا تنبغي الإشارة إلى أن الأصل ألا تخرج الزوجة إلا لحاجة، فقد حدث فردة بن أبي المغراء عن علي بن مسهر عن هشام عن أبيه عن عائشة قالت: خرجت سودة بنت زمعة ليلًا فرآها عمر فعرفها، فقال: إنك والله يا سودة ما تخفين علينا، فرجعت إلى النبي ﷺ فذكرت ذلك له وهو في حجرتي يتعشى وإن في يده لعرقًا، فأنزل عليه فرُفِع عنه وهو يقول: ‹‹قد أذن الله لكن أن تخرجن لحوائجكن››([1]).
قلت: فإن خرجت لغير حاجة فأخشى أن تكون في حكم المتبرجة، وهذا مما نهى الله عنه في قوله تعالى: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاء اللاَّتِي لاَ يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ} [النور:60]، وقوله عز وجل: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} [الأحزاب:33]، وفي هذه الآية ثلاثة أحكام:
أولها: أن الأمر وإن كان خاصًا بنساء النبي فهو عام للمسلمات؛ لأنهن تبع لنساء النبي فيما خوطبن به.
وثانيها: الأمر أن تلزم المرأة بيتها ما لم يكن لخروجها حاجة.
وثالث الأحكام: النهي عن التبرج أي الخروج للمشي بين الرجال كما كان حال النساء في الجاهلية. هذا في كتاب الله.
أما في سنة رسوله ﷺ: فقد روت عائشة -رضي الله عنها- أنه بينما كان رسول الله ﷺ جالسًا في المسجد دخلت امرأة من مزينة، ترفل في زينة لها في المسجد، فقال النبي ﷺ: ‹‹يا أيها الناس انهوا نساءكم عن لبس الزينة والتبختر في المسجد فإن بني إسرائيل لم يلعنوا حتى لبس نساؤهم الزينة وتبخترن في المسجد››([2]).
كما روى موسى بن يسار -رضي الله عنه- قال: مرت بأبي هريرة امرأة وريحها تعصف، فقال لها: أين تريدين يا أمة الجبار؟ قالت: إلى المسجد، قال: وتطيبت؟ قالت: نعم، قال فارجعي واغتسلي، فإني سمعت رسول الله ﷺ يقول: ‹‹لا يقبل الله صلاة من امرأة خرجت إلى المسجد وريحها تعصف حتى ترجع فتغتسل››([3]).
كما أن الأصل ألا تخرج الزوجة إلا بإذن زوجها، فإن خرجت دون إذنه عد ذلك منها نشوزًا.
ففي مذهب الإمام مالك: إن المرأة راعية على بيت زوجها وذات يده فعليها أن تحفظه في نفسه وماله ولا تخرج إلا بإذنه([4]).
وفي مذهب الإمام الشافعي قال الإمام النووي: ومن سافرت وحدها بغير إذن زوجها فهي ناشز([5]).
وفي مذهب الإمام أحمد: للزوج منعها من الخروج عن منزله بلا نزاع من حيث الجملة، ويحرم عليها الخروج بلا إذنه([6]).
خروج المرأة وسفرها لأداء واجب:
ويدخل في ذلك سفرها للحج، وخروجها لزيارة أهلها، وخروجها لطلب العلم.
سفر الزوجة للحج:
الحج أحد أركان الإسلام الخمسة فمن كان له طعام ووسيلة نقل، وجب عليه الحج لقول الله تعالى: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران:97]، ولقول النبي ﷺ: ‹‹يوجب الحج الزاد والراحلة››([7])، ويجب الحج على الفور لقول النبي ﷺ: ‹‹من أراد الحج فليعجل››([8])، فإذا أرادت الزوجة الحج المفروض وهي تستطيعه فليس لزوجها منعها منه؛ لأن الحج عبادة لله، وليس للزوج أن يمنع زوجته من عبادة الله وطاعته سواء كانت صلاة أو صيامًا أو حجًا؛ لأن منعها يعد معصية لله،
ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق كما قال ذلك رسول الله ﷺ([9]).
وهل يجب عليه صحبتها في سفرها، وبذل نفقة حجها؟ الأفضل أن يصحبها، فإن لم يفعل وجب أن يكون معها محرم في سفرها سواء كان أحد أوليائها، أو تكون في رفقة نسوة ليس معهن رجال، أما نفقة حجها فالأصل أن الزوج ملزم بنفقتها العامة من سكنى وغذاء وخلافه.
قلت: ونفقة حجها مما يدخل في نفقتها العامة (ما لم يكن لها مال وأرادت قضاء حجها منه)، وذلك أن الحج ركن من أركان الإسلام، وقضاؤه يعد طاعة لله، والتعاون على الطاعة مما أمر الله به عباده في قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة:2]، فإذا كان هذا الأمر عام للأمة فهو بين الزوج وزوجته آكد وأولى. هذا إلى جانب أن الله قد أمر الزوجين بالمعاشرة بالمعروف، ومن أهم أسباب حسن المعاشرة تحقيق نفع للزوجة في دينها، فإذا كانت النفقة على الغذاء والسكن واللباس حقًا لها، فإن النفقة على أدائها ركنًا من أركان دينها حق عليها من باب أولى؛ لأن أساس الخلق للعبادة قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُون} [الذاريات:56]،
خروج الزوجة لزيارة أهلها:
الأصل أن تستأذن الزوجة من زوجها لزيارة أهلها للسلام عليهم، أو عيادتهم في مرضهم أو نحو ذلك مما تقتضيه أحوال البر والصلة، فإن لم يأذن لها امتنعت من الزيارة، قال الإمام أحمد في امرأة لها زوج وأم مريضة: طاعة زوجها أوجب عليها من أمها إلا أن يأذن لها. وقد روى ابن بطة في أحكام النساء عن أنس أن رجلًا سافر ومنع زوجته الخروج فمرض أبوها، فاستأذنت رسول الله ﷺ في عيادة أبيها فقال لها رسول الله ﷺ: ‹‹اتقي الله ولا تخالفي زوجك›› فمات أبوها فاستأذنت رسول الله ﷺ في حضور جنازته، فقال لها: ‹‹اتقي الله ولا تخالفي زوجك›› فأوحى الله إلى النبي ﷺ أني قد غفرت لها بطاعة زوجها([10]).
وفي هذا قال الإمام ابن قدامة: “ولأن طاعة زوجها واجبة، والعيادة غير واجبة؛ فلا يجوز ترك الواجب لما ليس بواجب، ولا يجوز لها الخروج إلا بإذنه”([11]).
هذا هو الحكم، ولكن ليس من المعاشرة بالمعروف ولا من المودة والسكينة بين الزوج وزوجته أن يمنعها من زيارة أهلها في سرورهم وحزنهم؛ لأن ذلك يؤدي إلى قطيعة الرحم وما ينشأ عنه من عداوة وضغينة تنعكس آثارها على علاقة الزوج بزوجته وأولاده وأصهاره، فيكون الزوج بمنعه زوجته من زيارة أهلها، قد تسبب في قطيعتها لهم فيحمل وزر هذه القطيعة التي قال الله فيها: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُم} [محمد:22]، {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُم} [محمد:23].
خروج الزوجة لطلب العلم:
كل ما فرض الله على المسلم من العلم بأحكام دينه يجب عليه معرفته؛ فإذا كانت الزوجة عالمة بهذا العلم فلا يجوز لها أن تخرج لطلب علم إضافي إليه إلا بإذن زوجها، فإن لم تكن عالمة بما فرضه الله عليها وجب على زوجها أن يعلمها ذلك، فإن لم يكن عالمًا به فلا يجوز له أن يمنعها من طلبه، فإن منعها فلها أن تخرج إلى هذا الطلب دون إذنه.
خروج الزوجة أو سفرها لغير أمر واجب عليها:
هناك أمور ليست واجبة على الزوجة كالعمل، والتجارة، والسفر للسياحة إلا أن بعض هذه الأمور قد يكون له أهميته من حيث طبيعته والحاجة إليه، فالناس مثلًا يحتاجون إلى عمل الطبيبة في مكان لا يوجد فيه غيرها، فيكون عملها من باب الضرورة في علاج المرضى، والناس يحتاجون كذلك إلى عمل الممرضة، والقابلة، والمعلمة ونحو ذلك ممن يحتاج الناس إلى عملهن، والزوجة قد تكون في حاجة إلى تنمية مالها، وعدم تركه للضياع، والأمر على خلاف ذلك للزوجة حين يكون هدفها السفر لمجرد السياحة.
فإن كانت الزوجة قد شرطت على زوجها عند عقدها أن تعمل أو تتجر أو نحو ذلك، وقبل بهذا الشرط، فليس له منعها لقول رسول الله ﷺ: ‹‹إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج ››([12]). وقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “مقاطع الحقوق عند الشروط”([13])، أما إن كانت لم تشترط عليه ذلك فالأصل أن تستأذنه، ولا تخرج إلا بإذنه ما لم يكن الأمر يتعلق بضياع منفعة ظاهرة، ويترتب على المنع منها ضرر بين، وفي هذا قال ابن عابدين: “والذي ينبغي تحريره أن يكون منعها من كل عمل يؤدي إلى تنقيص حقه أو ضرره أو إلى خروجها من بيته، أما العمل الذي لا ضرر فيه فلا وجه لمنعها منه”([14]).
وخلاصة المسألة: أن للزوجين حقوقًا وواجبات نحو كل منهما، ويقتضي حسن المعاشرة أداء كل منهما لهذه الحقوق وقيامه بهذه الواجبات، ومن حق الزوج على زوجته ألا تخرج إلا بأذنه، فإن خرجت دون الإذن فإما أن يكون خروجها لأداء واجب عليها كالسفر للحج، وإما زيارة أهلها وطلبها العلم، فإن منعها عن أداء الحج المفروض عليها فلها أن تخرج له دون إذنه على أن تكون مع محرم؛ لأن خروجها هذا لفعل عبادة، ومنعها لا يجوز، لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. وإن منعها عن زيارة أهلها فلا يجوز لها مخالفته، ولكن حسن المعاشرة يقتضي إذن زوجها لها حتى لا يكون ذلك سببًا في قطيعة رحمها. وإن منعها عن طلب علم واجب عليها كمعرفة دينها جاز لها أن تخرج دون إذنه.
وللزوج منع زوجته من الخروج إلى ما هو ليس بواجب عليها كالعمل والتجارة والسفر للسياحة، ما لم تكن الزوجة قد شرطت ذلك عليه فعندئذٍ يجب عليه الوفاء بالشرط. كما أنه ليس لزوجها منع زوجته من العمل إذا كانت طبيبة مثلًا في مكان لا يوجد فيه غيرها، أو كان لها مال يلحقها ضرر من عدم الاتجار فيه.
وفي كل الأحوال يجب أن يكون حسن المعاشرة هو الأساس في علاقة الزوج بزوجته عملًا بقول الله عز وجل: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء:19].
والله أعلم.
([1]) أخرجه البخاري في كتاب النكاح، باب خروج النساء لحوائجهن، برقم (5237)، فتح الباري ج9 ص249.
([2]) أخرجه ابن ماجه في كتاب الفتن باب فتنة النساء برقم (4001) ج2 ص1326، قال محمد فؤاد عبدالباقي: ‹‹في الزوائد: في إسناده داود بن مدرك. قال فيه الذهبي في كتاب الطبقات: نكرة لا يعرف، وموسى بن عبيدة، ضعيف ››.
([3]) صحيح ابن خزيمة كتاب الصلاة باب إيجاب الغسل على المتطيبة للخروج إلى المسجد ونفي قبول صلاتها إن صلت قبل أن تغتسل الحدث في ج3 ص92، وأخرجه ابن ماجه كتاب الفتن، باب فتنة النساء برقم (4002) ج2، قال الذهبي في المهذب في اختصار السنن، (٢/١٠٦٨): إسناده صالح، وقال المنذري في الترغيب والترهيب، (٣/١٢٦): إسناده متصل ورواته ثقات.
([4]) الكافي في فقه أهل المدينة المالكي لابن عبد البر ج2 ص563.
([5]) زاد المحتاج ج3 ص328 وانظر نهاية المحتاج ج6 ص386.
([7]) رواه الدار قطني في سننه كتاب الحج ج2 ص215، وهو حديث حسن، وأخرجه الترمذي باب ما جاء في إيجاب الحج بالزاد والراحلة ج3 ص177.
([8]) أخرجه الإمام أحمد عن ابن عباس ج3 ص300، وأخرجه أبو داود والحاكم في المستدرك، قال الألباني في هداية الرواة، (٢٤٥٧): حسن لغيره.
([9]) مجمع الزوائد ومنبع الفوائد ج5 ص226، ورواه أحمد بألفاظ والطبراني باختصار، صححه الألباني في صحيح الجامع، (٧٥٢٠)..
([10]) ضعفه الألباني في إرواء الغليل، (٢٠١٤).
([11]) المغني والشرح الكبير، ج8 ص129.
([12]) أخرجه البخاري في صحيحه باب الشروط في المهر عند عقدة النكاح ج3 ص249.
([13]) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ج9 ص 125 ـ 126، قال الألباني في إرواء الغليل، (٦/٣٠٤): إسناده صحيح على شرط الشيخين.
([14]) رد المحتار لابن عابدين على الدر المختار شرح تنوير الأبصار في فقه مذهب الإمام أبي حنيفة النعمان، ج3 ص603.