هكذا ورد السؤال من أحد الإخوة المسلمين في الولايات المتحدة الأمريكية دون تفصيل..ونفترض أن السؤال كما يلي: مسلم ترك أداء الصلاة المكتوبة حتى بلغ سن العشرين من عمره ويسأل عما إذا كان عليه قضاء ما فاته من الصلاة من وقت تكليفه حتى بلوغه السن المشار إليها؟

حكم من يبدأ أداء الصلاة بعد بلوغه سن العشرين وماذا يجب عليه.

 والجواب: إن من المعلوم من الدين بالضرورة: عِظَمَ أمر الصلاة لكونها أحد الأركان الخمسة بعد الشهادتين، وإنه لا يصح ولا ينفع عمل بدونها؛ وهي فرض عين على كل مسلم بالغ عاقل.

والأصل في فرضها الكتاب والسنة والاجماع.

أما الكتاب: فأمر الله تعالى لعباده بإقامتها أمر وجوب يقتضي منهم أداءها في قوله تعالى: {وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ}([1]). وقوله تعالى: {الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا}([2]). وقوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ}([3])، والآيات في الأمر بها كثيرة.

أما السنة: فقول النبي ﷺ: (بني الإسلام على خمس شهادة ألا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلًا)([4]). وقوله -عليه الصلاة والسلام-: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر)([5]). وفي رواية الإمام مسلم عن جابر -رضي الله عنه- قال: سمعت النبي ﷺ يقول: (إنّ بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة)([6]).

وقد أجمع المسلمون منذ فرضيتها على أنها خمس صلوات في اليوم والليلة والصلاة مخصوصة بوقت محدد، وهذا الوقت على قسمين: الأول وقت الوجوب، والثاني وقت الأداء. أما وقت الوجوب فيبدأ من البلوغ استدلالًا بقول رسول الله ﷺ (رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ وعن المجنون حتى يفيق وعن الصبي حتى يبلغ)([7])، وقيل إن وقت الوجوب يبدأ من سن العاشرة، استدلالًا بقول رسول الله ﷺ: (مروا أبناءكم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر..) الحديث([8])، ولعل الأصح وجوبها بعد البلوغ؛ لأن مراد رسول الله ﷺ من تأديب الصبي في سن العاشرة هو لتمرينه، وتعويده عليها فلا يتركها بعد بلوغه.

أما وقت الأداء: فإن للصلاة المكتوبة أوقاتًا محددة، ورد النص عليها إجمالًا في كتاب الله في قوله تعالى: {إنّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا}([9]) أي مفروضة في أوقات معينة. وقوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا}([10])، والدلوك من وقت زوال الشمس حتى غروبها فيدخل في معناه صلاة الظهر، وصلاة العصر، وصلاة المغرب. وقد تكون صلاة العشاء داخلة في معناه. وقد يكون المقصود بقرآن الفجر صلاة الصبح فتكون الآية قد بينت أوقات الصلاة إجمالًا، ثم جاءت السنة بتفصيلها على ما هو معلوم.

وينبني على ما سبق أن الصلاة تجب على المسلم وجوب عين من وقت بلوغه الحلم، وحينئذٍ لا يجوز له تركها أو تأخيرها عن أوقاتها، فإن تركها عمدًا وجحودًا من غير جهل فقد خرج من دين الإسلام([11]). وإن تركها تهاونًا وجبت عليه التوبة بشروطها الثلاثة وهي: الإقلاع عن المعصية التي ارتكبها، والندم على ما فعله، وأن يعزم على الا يعود إلى فعل المعصية.

ولكن ماذا يجب عليه أي هل يلزمه قضاء ما فاته، خاصة إذا كان تركه لها عدة سنوات كما هو الحال في المسألة؟.

لقد بحث الفقهاء قضاء الفوائت، وكيفيته وسنوجز ما قالوه في هذه المسألة..

ففي مذهب الإمام أبي حنيفة: يعد تأخير الصلاة بلا عذر، كبيرة لا تزول بالقضاء بل بالتوبة أو الحج.. ومن العذر مشاغلة العدو كما حدث للنبي ﷺ يوم الخندق حين شغله المشركون عن أربع صلوات ثم أقام فصلاها. ومنه أيضًا خوف المسافر من اللصوص أو قطاع الطرق. والمراد من التوبة أن تكون بعد القضاء، أما بدونه فالتأخير باق فلم تصح التوبة منه؛ لأن من شروطها الإقلاع عن المعصية. أما القول بزوال الكبيرة بالحج فالمراد منه أن الحج المبرور يكفر الكبائر([12]).

وفي مذهب الإمام مالك: من نسي صلوات كثيرة، أو ترك صلوات كثيرة فليصل على قدر طاقته، وليذهب إلى حوائجه فإذا فرغ منها صلى أيضًا، ما تبقى عليه حتى يأتي على جميع ما نسي أو ترك ويقيم لكل صلاة([13]).

وفي مذهب الإمام الشافعي: يجب على من ترك الصلاة عمدًا أن يقضيها، ويبادر بالفائت استحبابًا لبراءة ذمته إن فات بعذر كنوم ونسيان، ووجوبًا إن فات بغير عذر وذلك تعجيلًا لبراءة ذمته استدلالًا بقول النبي ﷺ: (إذا نام أحدكم عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها)([14])، والمستحب أن يكون قضاء الفائت من الصلاة على الترتيب استدلالًا بأن النبي ﷺ قضى ما فاته من الصلاة يوم الخندق على الترتيب، فإن قضاها من غير ترتيب جاز([15]).

وفي مذهب الإمام أحمد: من فاتته صلوات لزمه قضاؤها على الفور. هذا هو المذهب وعليه جماهير الأصحاب.. وقيل لا يجب القضاء على الفور مطلقًا، وقيل يجب على الفور في خمس صلوات فقط، واختار الشيخ تقي الدين من أئمة المذهب أن تارك الصلاة عمدًا، إذا تاب لا يشرع له قضاؤه، ولا تصح منه بل عليه الإكثار من التطوع وكذا الصوم..

وإذا كثرت الفوائت عليه فيتشاغل بالقضاء ما لم يلحقه من ذلك مشقة في بدنه بأن يضعف، أو يخاف المرض. وما لم يلحقه كذلك مشقة في ماله بأن ينقطع عن التصرف فيه، بحيث ينقطع عن معاشه أو يستضر بذلك([16]).

وعند الإمام ابن حزم: أن من تعمد ترك الصلاة حتى خرج وقتها فهذا لايقدر على قضائها أبدًا، فليكثر من فعل الخير، وصلاة التطوع ليثقل ميزانه يوم القيامة، وليتب ويستغفر الله عزوجل.

وقال أبو محمد: (فإن الله تعالى جعل لكل صلاةِ فرضٍ وقتًا محدود الطرفين، يدخل في حين محدود؛ ويبطل في وقت محدود فلا فرق بين من صلاها قبل وقتها، وبين من صلاها بعد وقتها؛ لأن كليهما صلى في غير الوقت وليس هذا قياسًا لأحدهما على الآخر، بل هما سواء في تعدي حدود الله تعالى..) إلى أن قال: (فإن كل عمل علق بوقت محدود فإنه لا يصح في غير وقته، ولو صح في غير ذلك الوقت لما كان ذلك الوقت وقتًا له)([17]).

ومما سبق ذكره يتبين أن جمعًا من الفقهاء قال بوجوب قضاء الفوائت من الصلاة استدلالًا بحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي ﷺ أمر المجامع في نهار رمضان أن يصوم يومًا مع الكفارة أي بدل اليوم الذي أفسده بالجماع عمدًا واستدلالًا بالحديث المتقدم ذكره بأن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: (من نام عن صلاة أونسيها فليصلها إذا ذكرها)([18])، وما دام الأمر بوجوب القضاء على الناسي فإن العامد أولى بالقضاء.

وقد خالف في ذلك بعض أئمة المذهب الحنبلي فقالوا لا يشرع القضاء لتارك الصلاة عمدًا كما خالف في ذلك الإمام بن حزم على مامر ذكره وقد أخذ على رأيه مخالفته للإجماع وبطلانه من جهة الدليل([19]).

قلت: لا خلاف في أن تارك الصلاة عمدًا، قد ارتكب كبيرة من الكبائر. وتلزمه التوبة بشروطها الثلاثة رجاء وطمعًا في رحمة الله ومغفرته. ولكن الخلاف فيما إذا كان يجب عليه القضاء، ولعل الصواب أنه إذا كان الفائت من الصلاة فروضًا قليلة كالخمسة، أو العشرة، أو العشرين فيجب القضاء، ولكن الإشكال يثور إذا كان عدد الفوائت كثيرًا كما هو الحال في المسألة، فالذي ترك الصلاة عشر سنوات يلزمه أن يصلي ثمانية عشر ألف صلاة، إذا قيل بوجوب القضاء عليه. والقول بهذا قد يؤدي إلى المشقة، والله أرحم وأرأف من أن يشق بعباده حيث قال تعالى في محكم كتابه: {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا}([20]). وقال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}([21]).

ومن رحمته بعباده أن جعل سيئاتهم حسنات؛ إذا تابوا وأصلحوا فبعد ما توعد بالعذاب من ارتكب الكبائر، استثنى التائبين فجعل سيئاتهم حسنات، فقال تعالى في محكم التنزيل: {وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا}([22])، {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا}([23])، {إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا}([24]).

إن ترك الصلاة كبيرة من الكبائر كالشرك والزنى، فإذا تاب العبد وأصلح العمل لله، فحري أن يبدل الله سيئاته حسنات، والله أغنى من أن يشق على عبده فيلزمه بقضاء صلوات كثيرة لا يستطيع قضاءها.

لهذا؛ فلعل الأحرى بالصواب ما قاله بعض أئمة المذهب الحنبلي والإمام ابن حزم من الاكتفاء بالتوبة، والإكثار من الاستغفار، وعمل الخير ممن ترك الصلاة، وهو غير جاحد لوجوبها.

وخلاصة ما سبق: أن الصلاة تجب على المسلم وجوب عين من وقت بلوغه الحلم. وحينئذٍ لا يجوز له تركها، أو تأخيرها عن أوقاتها فإن تركها تهاونًا وجبت عليه التوبة بشروطها وهي: الإقلاع عن المعصية، والندم عليها، والعزم على عدم العودة إليها.

أما قضاء ما فاته منها فإن جمعًا من الفقهاء يقول بوجوب قضاء الفوائت، وخالف في ذلك بعض من أئمة المذهب الحنبلي والإمام ابن حزم.. ولعل الصواب أن القضاء يكون لازمًا إذا كان الفائت من الصلاة فروضًا قليلة كالخمسة أو العشرة، أما إذا كان كثيرًا كما هو الحال في المسألة، فالأولى ألا يجب القضاء؛ لأن من ترك الصلاة عشر سنوات يلزمه أن يصلي ثمانية عشر ألف صلاة والقول بهذا قد يؤدي إلى المشقة، والله أرحم من أن يشق على عبده فإذا تاب العبد، وأصلح العمل له فحري أن يبدل الله سيئاته حسنات.

والله أعلم.

 

 

([1]) سورة البقرة من الآية 43.

([2]) سورة النساء الآية 103.

([3]) سورة البينة من الآية 5.

([4]) أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب دعاؤكم إيمانكم، برقم (8)، فتح الباري، ج1 ص64، بترقيم محمد فؤاد عبد الباقي.

([5]) أخرجه ابن ماجة في كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما جاء فيمن ترك الصلاة، برقم (1079)، ج1 ص342، ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي، والإمام أحمد في المسند، ج5 ص346، صححه الألباني في صحيح الترمذي، (٢٦٢١)..

([6]) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب إطلاق الكفر على تارك الصلاة، صحيح مسلم بشرح النووي، ج2 ص70.

([7]) أخرجه الإمام أحمد في المسند، ج1 ص140، وأخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجة والخطيب التبريزي في المشكاة برقم (3287)، تحقيق الألباني، وقال الألباني: (وهو حديث صحيح)، ج2 ص980.

([8]) أخرجه الإمام أحمد في مسنده، ج2 ص180-187، صححه الألباني في إرواء الغليل، (٢٤٧).

([9]) سورة النساء من الآية 103.

([10]) سورة الإسراء الآية 78.

([11]) انظر حاشية رد المحتار على الدر المختار لابن عابدين، ج1 ص352.

([12]) انظر حاشية رد المحتار على الدر المختار لابن عابدين، ج2 ص62-63، وانظر شرح فتح القدير لابن الهمام على الهداية: شرح بداية المبتدي للمرغيناني، ج1 ص485-489. قلت: ولعل معنى هذا أن يعفو الله عن مرتكب الكبيرة بما يعمل من عمل صالح كالحج المبرور، ولكن ليس هذا حجة بأن يتهاون المسلم بالصلاة ويؤخرها عن وقتها ثم يدعي أن حجه سيكون بديلاً للتوبة فليعلم هذا.

([13]) المدونة الكبرى للإمام مالك برواية الإمام سحنون، ج1 ص123، وانظر مواهب الجليل للحطاب، ج1، ص420، وشرح منح الجليل على مختصر خليل لعليش، ج1، ص189، وبداية المجتهد ونهاية المقتصد لابن رشد، ج1، ص90-91.

([14]) أخرجه الترمذي في أبواب الصلاة، باب ما جاء في النوم عن الصلاة، برقم (177)، ج1 ص334، وابن ماجة في كتاب الصلاة، باب من نام عن الصلاة أو نسيها برقم (697)، ج1 ص227-228، صححه الألباني في صحيح الجامع، (٨٠٧).

([15]) المجموع شرح المهذب للنووي، ج3، ص71، وانظر نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج للرملي، ج1، ص381، والمهذب في فقه الإمام الشافعي للشيرازي، ج1، ص54.

([16]) انظر في هذا على الترتيب الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام أحمد بن حنبل للمرداوي، ج1، ص442-443، وانظر المغني والشرح الكبير لابن قدامة، ج1، ص646، وكشاف القناع عن متن الإقناع للبهوتي، ج1، ص260-261، ومجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، ج22، ص18-21.

([17]) المحلى بالآثار لابن حزم، ج2، ص10-11.

([18]) أخرجه الترمذي في أبواب الصلاة، باب ما جاء في النوم عن الصلاة، برقم (177)، صححه الألباني في صحيح الجامع، (٨٠٧).

([19]) انظر المجموع شرح المهذب للنووي، ج3 ص71.

([20]) سورة البقرة من الآية 286.

([21]) سورة التغابن من الآية 16.

([22]) سورة الفرقان الآية 68.

([23]) سورة الفرقان الآية 69.

([24]) سورة الفرقان الآية 70.