الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين محمد، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فالجواب: أن الله-عز وجل-بَيَّنَ في كتابه كفارة اليمين بقوله: ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ ٱللَّهُ بِٱللَّغْوِ فِىٓ أَيْمَٰنِكُمْ وَلَٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ ٱلْأَيْمَٰنَ ۖ فَكَفَّٰرَتُهُۥٓ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَٰكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍۢ ۖ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَٰثَةِ أَيَّامٍۢ ۚ ذَٰلِكَ كَفَّٰرَةُ أَيْمَٰنِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ ۚ وَٱحْفَظُوٓاْ أَيْمَٰنَكُمْ ۚ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمْ ءَايَٰتِهِۦ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ (المائدة:89)، فدل هذا على أن كفارة اليمين: الإطعام، أو الكسوة، أو تحرير رقبة، ثم بين -عز وجل- أن للمكلف أن يصوم ثلاثة أيام إذا كان غير قادر، وبيان الله للكفارة حكم يقتضي الوجوب، ورأفةً منه -عز وجل- بمن لا يستطيع الإطعام، أو الكساء، أو تحرير الرقبة أن يصوم ثلاثة أيام.
وقد اختلف العلماء في إخراج الكفارة بالنقد، فالجمهور من المالكية([1]) والشافعية([2]) والحنابلة([3]) قالوا: لا يجوز إخراج القيمة في كفارة اليمين، قال ابن قدامة في المغني: “لا يجزئ في الكفارة إخراج قيمة الطعام ولا الكسوة، ولو أعطاهم مكان الطعام أضعاف قيمته وَرِقًا لم يُجْزِئْهُ”، وجملته: أنه لا يجزئ في الكفارة إخراج قيمة الطعام ، ولا الكسوة ، في قول إمامنا ومالكٍ، والشافعيِّ، وابنِ المنذر، وهو ظاهر قول من سمينا قولهم في تفسير الآية في المسألة التي قبلها، وهو ظاهر من قول عمر بن الخطاب وابن عباس ، وعطاء ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، والنخعي”([4]).
وحجة من قال بعدم أخذ القيمة: أنه لا يصح التكفير بالقيمة؛ لأن الله أمر بالإطعام؛ ولأن الله خَيَّرَ بين ثلاثة أشياء، ولو جازت القيمة لم ينحصر التخيير في الثلاثة ، ولأنه لو أُريدت القيمة لم يكن للتخيير معنى([5]).
وأجاز إخراجَ القيمة الإمامُ الأوزاعيُّ والحنفية([6])، كما أجازه من المالكية الحطاب([7]).
وحجة من قال بهذا: أن المراد من الكفارة دفع حاجة المسكين، وهو يحصل بالقيمة.
قلت: والأصل في الكفارة التكفير عن يمينٍ ما كان لصاحبها أن يفعلها، وهي في الوقت ذاته سَدٌّ لحاجة فقير أو مسكين محتاج للطعام والكساء، وهذه الحاجة قد تختلف من زمان إلى زمان، ومن مكان إلى مكان، فقد يكون الفقير في زمان غير محتاج للطعام على نحو معين، ولكنه أشدُّ حاجةً لقيمته، وهذا مشاهَدٌ ومحسوس في الوقت الراهن، ففي زكاة الفطر يجوز إخراج الأرز والشعير، ولكن من يعيش -مثلًا- في بلد من بلدان الغرب لن يجد من يقبل هذه الزكاة، ولكنه يقبل النقد؛ لشدة الحاجة للنقد..، وهكذا في كفارة اليمين، فإن المكفر عن يمينه قد يكون مضطرًّا لإخراج كفارته فلا يجد من يطعمه أو يكسوه لأسباب متعددة، منها: أن جيرانه مثلًا لا يرغبون في الاجتماع من أجل إطعامهم أو كسوتهم؛ لأنهم غير محتاجين لهذا الطعام، وقد يكون المكفر مسافرًا، لا يعرف عادات أهل البلد، وقبولهم للطعام والكساء على نحو معين، فالأصل سد حاجة الفقير والمسكين على النحو الذي ينفعهما، ويبرئ ذمة المكفِّرِ يمينَه.
فاقتضى ما ذُكِرَ جوابًا لسؤال الأخت أن الصواب -والله أعلم- أن يكون هناك خياران للمكفر: فإن وجد من يقبل الطعام والكساء فليكفر بالإطعام أو الكساء، فهذا هو الأصل، أما إذا لم يجد أحدًا يقبل هذا النوع من الكفارة فليكفر بالقيمة. والله -تعالى- أعلم.
[1] الكافي لابن عبد البر (1/453)، ومواهب الجليل للحَطَّاب (4/416).
[2] روضة الطالبين وعمدة المفتين (11/21)، ويُنظر: الحاوي الكبير للماوَرْدي (15/301).
[3] الإقناع للحَجَّاوي (4/94)، وكشاف القناع للبُهُوتي (5/388).
[4] المغني لابن قدامة 6/10.
[5] المغني لابن قدامة 6/10.
[6] كتاب المبسوط (5/56)، وشرح فتح القدير على الهداية شرح بداية المبتدي (2/10)
[7] مواهب الجليل (3/272).