والجواب على ذلك: جواز هذا الشرط.
فمن حيث العموم: يحق للعاقد عند عقده اشتراط ما يراه في مصلحته، أو مصلحة من ينوب عنه، على ألا يكون في هذا الشرط ما ينافي الأحكام الشرعية؛ استدلالًا بقول رسول الله ﷺ: ‹‹المسلمـون على شروطهم إلا شرطـًا حـرم حلالًا أو أحـل حرامًا››([1]).
ومن حيث الخصوص: يحق لأب المرأة أو وليها اشتراط ما يراه لـ‹‹منفعتها›› عند عقد زواجها، ما لم يكن في ذلك أيضًا مخالفة للأحكام الشرعية، استدلالًا بقول رسول الله ﷺ فيما رواه عقبة بن عامر أنه قال: ‹‹أحق الشروط أن توفوا بها ما استحللتم به الفروج››([2]).
والشروط لمنفعة الزوجة على ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: أن يشترط الأب أو الولي على الزوج شرطًا يتنافى مع الأحكام الشرعية، كاشتراطه أن يطلق زوجته الأخرى، فهذا لا يجوز لقول رسول الله ﷺ: ‹‹لا يحل لامرأة تسأل طلاق أختها لتستفرغ صحفتها فإنما لها ما قدر لها››([3])، وكاشتراطه أن يفضلها عليها في المبيت أو النفقة أو غيرها، لما في ذلك من مخالفة لما أمر الله به من العدل بين النساء في قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً} [النساء:3]، وكاشتراطه على الزوج فراق والديه أو خصها بجزء من إرثه لا تستحقه شرعًا، أو نحو ذلك من الشروط المخالفة للأحكام أو المقاصد الشرعية.
الوجه الثاني: أن يشترط عليه عبئًا معينًا كزيادة مهرها أو نفقتها، أو يشترط عليه ما يقيد حريته في أمور محددة، كشرطه عليه ألا يتزوج على ابنته، أو لا ينقلها من بلدها إلى غيره، فهذه الشروط مما اختلف العلماء في لزومها أو عدمه:
فالإمام مالك يرى: أنه إن اشترط ذلك لم يلزم إلا أن يكون في ذلك يمين بطلاق أو عتق، فإن ذلك يلزمه إلا أن يطلق أو يعتق من أقسم عليه فلا يلزم الشرط الأول أيضًا، وبهذا قال الإمام أبو حنيفة والشافعي وأبو يوسف ودليلهم في ذلك حديث عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله ﷺ قال: ‹‹كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل ولو كان مائة شرط››([4]).
وفي المذهب الحنبلي: يلزم الوفاء بهذه الشروط للحديث السابق: ‹‹أحق الشروط أن توفوا بها ما استحللتم به الفروج››. ولما روي أن رجلًا تزوج امرأة وشرط لها دارها ثم أراد نقلها، فخاصموه إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: لها شرطها، فقال الرجل: هلك الرجالُ إذ لا تشاءُ امرأةٌ أن تُطلِّقَ زوجَها إلا طلَّقتْ، فقال عمر: ‹‹مقاطع الحقوق عند الشروط››([5]). وبهذا أيضًا قال عدد من الصحابة -رضوان الله عليهم- منهم سعد بن أبي وقاص ومعاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص، كما قال به عمر بن عبد العزيز وطاووس والأوزاعي([6])، وسبب الاختلاف كما يقول الإمام ابن رشد معارضة العموم للخصوص، فحديث عائشة في بطلان الشروط التي ليست في كتاب الله حكم عام، وحديث عقبة بن عامر في وجوب الوفاء بالشروط التي تستحل بها الفروج حكم خاص، والمشهور عند الأصوليين القضاء بالخصوص على العموم، وهو لزوم الشرط([7]).
الوجه الثالث: أن يشترط الأب عليه ما فيه دفع ضرر محتمل عنها؛ مثل معرفة قدرته على إنجاب الولد أو سلامته من الأمراض، مثل الجذام أو نقص المناعة محل السؤال، أو أي مرض آخر ينتقل إليها منه فيعرض حياتها للخطر؛ وذلك أن الأصل دفع الضرر متى كان من الممكن دفعه، فالأب ومن في حكمه أمين على موليته فإذا خشي عليها من احتمال انتقال العدوى إليها من الزوج، وجب عليه الاحتراز من ذلك ابتداء بالتثبت من سلامة الزوج، ولما كانت بعض الأمراض-كما هو الحال في مرض نقص المناعة- من الأمراض المعدية، ولا تظهر آثاره إلا بعد مدة من الزمن، ولما كان وجوده من عدمه يتطلب فحص الدم، وتحليله حق للأب ومن في حكمه، أن يشترط على من يريد الزواج من ابنته سلامته منه، بل الواجب على طالب الزواج أن يكشف ما قد يكون لديه من الأمراض أو العيوب، فقد روي أن عمر -رضي الله عنه- بعث رجلًا على بعض السعاية فتزوج من امرأة وهو عقيم، فقال له عمر: هل أعلمتها أنك عقيم؟ قال: لا، قال: فاعلمها ثم خيرها([8]).
وقال محمد بن الحسن صاحب الإمام أبي حنيفة: ينبغي خلو الزوج من كل عيب لا يمكن الزوجة المقام معه إلا بضرر كالجنون والجذام والبرص، وجعل الشرط لها في ذلك أوجب من شرط الزوج له؛ وذلك أن هذا يمكنه دفع الضرر عن نفسه بالطلاق؛ لأنه بيده والمرأة لا يمكنها ذلك؛ لأنها لا تملك الطلاق([9]).
ويرى الإمام ابن تيمية: أن الأصل في الشروط الصحة واللزوم، إلا ما دل الدليل على خلافه، وذكر ما قيل بأن الأصل في الشروط عدم الصحة، إلا ما دل الدليل على صحته، ورأى أن القول الأول هو الصحيح، إذا لم يكن المشروط مخالفًا لكتاب الله وشرطه([10]).
وخلاصة المسألة: أن شرط الأب ومن في حكمه على طالب الزواج من ابنته إثبات سلامته من مرض نقص المناعة شرط صحيح، وإذا ثبت بعد الزواج أن الزوج مصاب بهذا المرض أو أي مرض آخر معدٍ، حق للزوجة فسخ النكاح. . . أما إذا كان المرض عضالًا غير معدٍ، فلها الخيار، وللزوج كذلك عندما تكون هي المريضة.
فإن قيل فما الحكم إذا طلب راغب الزواج إثبات سلامة الزوجة من هذا المرض خاصة إذا كانت مطلقة؟ فالجواب يجوز له ذلك، فالحكم في كلتا الحالتين واحد طالما أن المقصود هو التحرز من مرض عضال ينتقل بالعدوى، ويؤدي للضرر بأحد الزوجين.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
([1]) أخرجه البخاري في كتاب الإجارة باب أجر السمسرة ورقمه (14) ج4 ص 527-528.
([2]) أخرجه البخاري في كتاب الشروط باب الشروط في المهر عند عقدة النكاح برقم (2721) فتح الباري ج5 ص380.
([3]) أخرجه البخاري في كتاب النكاح باب الشروط التي لا تحل في النكاح، برقم (5152)، فتح الباري ج9 ص126.
([4]) بداية المجتهد ونهاية المقتصد لابن رشد، ج2 ص59، وانظر منح الجليل للشيخ عليش، ج3 ص471-472 في جواز الشرط على الزوج بألا يضر بها في المعاشرة أو الكسوة أو نحوهما من كل ما يقتضيه العقد ولا ينافيه، وانظر بدائع الصنائع للكاساني، ج2 ص326-327. وتخريج الحديث: فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ج5 ص385 ورقمه (2729) كتاب الشروط، باب الشروط في الولاء، وصححه الألباني في صحيح الجامع، (٤٥٣٠).
([5]) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ج9 ص 125 ـ 126، قال الألباني في إرواء الغليل، (٦/٣٠٤): إسناده صحيح على شرط الشيخين.
([6]) المغني والشرح الكبير، ج7 ص448-449، وكشاف القناع عن متن الإقناع، ج5 ص90-92.
([7]) انظر بداية المجتهد، ج2 ص 59.
([8]) مصنف عبد الرزاق، ج6 ص162، قال ابن حزم: رواه عن سعيد عن ابن عوف عن ابن سيرين عن أنس عن عمر، فإن يكن هذا محفوظا فإسناده صحيح. ينظر: كتاب التكميل لما فات تخريجه من إرواء الغليل – أعلمها ثم خيرها ص133.
([9]) بدائع الصنائع، ج2 ص 327، وانظر أيضاً نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج، ج6 ص256، 308، 312، وفيه تفصيل لمسألة الخيار في النكاح.
([10]) انظر مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية جمع عبد الرحمن بن قاسم، ج29 ص346-347، وانظر زاد المعاد في هدي خير العباد لابن القيم، ج4 ص4-5.