مفاد المسألة: كتاب من الأخ محمود حامد الجبلاوي من جمهورية مصر العربية يسأل فيه عن البيع بالتقسيط، وما يجوز فيه وما لا يجوز.

البيع بالتقسيط، وما لا يجوز فيه

والجواب: أن البيع بالتقسيط بمثابة بيع بأَجَلٍ آجِلٍ معلوم، فهو بمثابة الدَّيْنِ.

والأصل في إباحته الكتاب والسنة، أما الكتاب: فقول الله -تعالى-: {وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275]، وقوله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282].

وأما السنة: فحديث عائشة -رضي الله عنها-: أنها أخبرت رسول الله -ﷺ-أن بريرة جاءت تستعينها في (كتابتها)، ولم تكن قضت من كتابتها شيئًا. قالت لها عائشة: “ارجعي إلى أهلك، فإن أحبوا أن أقضي عنك كتابتك، ويكون ولاؤك لي فعلتُ”، فذكرت ذلك بريرة إلى أهلها، فأبوا، وقالوا: إن شاءت أن تحتسب عليك فلتفعل، ويكون لنا ولاؤك، فذكرت ذلك لرسول الله -ﷺ-، فقال لها: (ابتاعي، فأعتقي، فإنما الولاء لمن اعتق)([1])، وفي لفظ آخر: أن رسول الله -ﷺ-قال: (ما بال أناس يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله، من اشترط شرطًا ليس في كتاب الله فليس له، وإن شرط مئة مرة، شرط الله أحق وأوثق)([2]).

ويفهم من قصة بريرة أنها كاتبت أهلها على تسع أواقٍ، في كل عام أوقية، فقالت لعائشة -رضي الله عنها-: أعينيني. فدلت القصة على إجازة رسول الله -ﷺ- للمكاتبة بالأجل، وهو ما يفيد جواز البيع بالتقسيط.

وللبيع بالتقسيط فوائد متبادلة للمتبايعين، فالمُقَسَّطُ له (المشتري) يحتاج إلى ما يسد حاجته العاجلة من الضروريات، كالطعام، واللباس، أو الحاجيات كالسيارة، والثلاجة، وأجهزة التكييف، وخلافها، والمُقَسِّطُ (البائع) يحتاج إلى بيع بضائعه على هذا النحو؛ مما يوفر له زيادة في قيمتها مقابل انتظاره بلوغ الأجل الآجل، ويوفر له ترويج بضاعته.

والتعامل بالبيع بالتقسيط لا يخلو من محاذير، إما لجهل بما يجب فيه من الضوابط الشرعية، أو ما يفعله بعض التجار من تجاهل هذه الضوابط.

ومن هذه المحاذير: بيع المبيع قبل حيازته، وصورة ذلك: أن يذهب المشتري إلى البائع؛ ليشتري منه طعامًا أو لباسًا أو سيارة، أو نحو ذلك، فيتفق معه على الثمن وعلى الأجل، ثم يذهب البائع، فيشتري المبيع من مكان آخر؛ لكي يسلمه إلى المشتري، أو يكون المبيع في ملك البائع، ولكنه لم يتمكن من قبضه بعد، كما لو كان موجودًا في السفينة، أو في المصنع، أو في الميناء، أو كان مغصوبًا لا يقدر على تسلمه، فهذا البيع محرمٌ؛ لِمَا رواه حكيم بن حزام قال: قلت: يا رسول الله! يأتيني الرجل، فيسألني عن البيع ليس عندي ما أبيعه منه، ثم أبتاعه من السوق. فقال رسول الله -ﷺ-: (لا تبع ما ليس عندك)([3])، وما رواه عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما-أن رسول الله -ﷺ-قال: (من ابتاع طعامًا فلا يَبِعْهُ حتى يقبضه). قال ابن عباس-رضي الله عنهما-: “فأحسب أن كل شيء بمنزلة الطعام”([4])، وما رواه -أيضًا- عبد الله بن عمر قال: “كنا في زمان رسول الله -ﷺ-نبتاع الطعام، فبعث علينا من يأمرنا بانتقاله من المكان الذي ابتعنا فيه إلى مكان سواه قبل أن نبيعه”. وفي لفظ آخر: “كانوا يبتاعون الطعام في أعلى السوق جزافًا، فنهاهم رسول الله -ﷺ- أن يبيعوه في مكانه حتى ينقلوه”([5]).

ومما يدخل في البيع المحرم من بيوع التقسيط: التحايل للحصول على النقد من البائع، ومثال ذلك: من يشتري بضاعة بالتقسيط، ثم يتفق على بيعها ممن اشتراها منه بأقلَّ من قيمتها، فهذا يسمى بيع (العينة)، وعامة الفقهاء على عدم جوازه خلافًا للإمام الشافعي الذي يرى أنه ثمن يجوز بيعها به من غير بائعها، فجاز من بائعها، كما لو باعها بمثل ثمنها([6])، والأساس في تحريم هذا البيع ما رواه عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله -ﷺ-يقول: (إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد؛ سلط الله عليكم ذلًّا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم)([7])، وما روي -أيضًا- عن أبي إسحاق السبيعي عن امرأته العالية بنت أيفع بن شرحبيل أنها قالت: دخلت أنا وأم ولد زيد بن أرقم وامرأته على عائشة، فقالت أم ولد زيد بن أرقم: إني بعتُ غلامًا من زيد بن أرقم بثمانمئة درهم إلى العطاء، ثم اشتريته بستمئة درهم، فقالت لها: “بئس ما شريت، وبئس ما اشتريت، أبلغي زيد بن أرقم أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله -ﷺ- إلا أن يتوب”([8]).

ومما يدخل في محاذير بيع التقسيط: أنه إذا حل أجل الأقساط، ولم يتمكن المشتري من السداد، طلب من البائع إمهاله، فيمهله في السداد مع الزيادة في الثمن، فهذا مما حرمه الله؛ لاشتماله على ربا النسيئة المحرم بنص الكتاب والسنة.

ومما يدخل في محاذير بيع التقسيط: استغلال التجار لحاجة ذوي الحاجات، ورفع أثمان السلع المقسطة عليهم، وعدم التسامح معهم في التقسيط؛ بحجة احتمال تأخرهم في القضاء، ونحو ذلك من الحجج؛ مما يتعارض مع حث النبي -ﷺ- على الرفق والتسامح في البيع والشراء بقوله -عليه الصلاة والسلام-: (خيار الناس أحسنهم قضاءً)([9])، وقوله -عليه الصلاة والسلام-: (إن الله يحب سمح البيع، سمح الشراء، سمح القضاء)([10])، وقوله -عليه الصلاة والسلام-: (غفر الله لرجل كان قبلكم، كان سهلًا إذا باع، سهلًا إذا اشترى، سهلًا إذا اقتضى)([11]).

وقد يلحق بهذه المحاذير تهافت المشترين على الشراء بالتقسيط، خاصة في الأمور الحاجية؛ مما يؤدي إلى تراكم الديون عليهم، وعجزهم عن وفائها، مخالفين في شرائهم للحاجيات أمر الله لهم بعدم الإسراف في طعامهم وشرابهم ومختلف حاجاتهم.

وخلاصة المسألة: جواز بيع التقسيط باعتباره بيعًا بالأجل، وله فوائد متبادلة بين المُقسِّطِ والمُقَسَّطِ له، ويجب أن يتوافر فيه عدد من الضوابط الشرعية، منها: أن يكون الثمن معلومًا، والأجل معلومًا، وأن يكون المبيع في حيازة البائع وقبضته، ويحرم في هذا البيع التحايل للحصول على النقد، كبيع البضاعة على من باعها، أو تأجيل دفع الأقساط مقابل الزيادة في الأجل والثمن؛ لما في ذلك من الربا.

والله -تعالى- أعلم.

 

([1]) صحيح البخاري ج3 ص248 .

([2]) صحيح مسلم بشرح النووي ج10 ص139-148، وانظر: سنن أبي داود ج4 ص21.

([3]) نيل الأوطار في باب النهي عن بيع ما لا يملكه؛ ليمضي فيشتريه ويسلمه ج5 ص252، صححه النووي في المجموع، (٩/٢٥٩).

([4]) أخرجه البخاري (٢١٣٥) بمعناه، ومسلم (١٥٢٥)، سنن النسائي في بيع الطعام قبل أن يستوفى ج7 ص285 وانظر: صحيح مسلم بشرح النووي كتاب البيوع، باب بطلان بيع المبيع قبل القبض ج10 ص168-170.

([5]) أخرجه البخاري، (٢١٦٧)، وأخرجه مسلم (١٥١٧) باختلاف يسير، سنن النسائي، بيع ما يشترى من الطعام جزافًا قبل أن ينقل من مكانه، ص287.

([6]) الشرح الكبير مع المغني لابن قدامة ج4 ص45، وانظر: نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار للإمام الشوكاني ج5 ص318-319.

([7]) نيل الأوطار، ج5 ص318-319، صححه الألباني في صحيح أبي داود، (٣٤٦٢).

([8]) نيل الأوطار، ج5 ص 317، قال ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، (١/٤٨٤): أثر مشهور.

([9]) وتمام الحديث: مارواه أبو رافع أن رسول الله-ﷺ-استسلف بكرًا بمثله، غير أنه قال: (فإن خير عباد الله أحسنهم قضاء)، وقد روي الحديث بعدة طرق، انظر: الجامع الصحيح للإمام مسلم ج5 ص54-55، باب من استسلف شيئًا، فقضى خيرًا منه، صححه الألباني في صحيح الترمذي، (١٣١٨).

([10]) سنن الترمذي ج2 ص390، صححه الألباني في صحيح الترمذي، (١٣١٩).

([11]) سنن الترمذي ج2 ص390، صححه الألباني في صحيح الترمذي، (4162)..