متى يجب الوفاء بالدين؟، ومتى يتأخر الحكم به؟.

متى يجب الوفاء بالدين، ومتى يتأخر الحكم به

يجب الوفاء بالدين عند حلول أجله، ويتأخر الوفاء به في حال الإعسار وفقًا لشروطه المعتبرة، والأساس الشرعي في الوفاء بالدين قول الله -تعالى-: {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 11]، وقوله -تعالى-: {مِّن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 12]، وقوله -تعالى-: {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 12]، وقد دلت هذه الآيات على أهمية الوفاء بالدين، وأنه مقدم على الوصية، وإن كانت متقدمة عليه في الذكر؛ لقصد الاهتمام بها، وقد روي عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-قوله: “إن النبي -ﷺ- قضى بالدين قبل الوصية، وأنتم تقرون الوصية قبل الدين”([1])، كما روي عن سعد بن الأطول قوله: إن أخاه مات، وترك ثلاثمئة درهم، وترك عيالًا، فأردت أن أنفقها على عياله، فقال النبي -ﷺ-: (إن أخاك محتبس بدينه، فاقض عنه)، فقال: يا رسول الله! قد أديت عنه إلا دينارين ادعتهما امرأة، وليس لها بينة، قال: (فأعطها، فإنها محقة)([2])، ولعظم الدين، وأهمية الوفاء به استعاذ منه رسول الله -ﷺ-، وقال: (اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم)([3])، وقال: (الدين هَمٌّ بالليل، ومذلة بالنهار)([4])، كما حذر-ﷺ-من التعامل بالدين ممن لا يقدر على الوفاء به، فقال: (من أخذ أموال الناس يريد إتلافها أتلفه الله)([5]).

وبهذا يجب على الموسر الوفاء بالدين عند حلول أجله، فإذا امتنع عن الوفاء فللدائن الحق في مطالبته بالقول، والمجادلة الحسنة، أو باستعداء السلطة عليه، وقد وردت في حق الموسر الممتنع عن الوفاء بالدين أحاديث مغلظة، منها: قول النبي -ﷺ-: (لَيُّ الواجد يحل عرضه وعقوبته)([6])، وفسر الفقهاء العقوبة بالحبس، والعرض بجواز وصفه كونه ظالمًا([7])، ومن هذه الأحاديث: قول رسول الله -ﷺ-: (مطل الغني ظلم)([8]).

وقد كان رسول الله -ﷺ-أول من يهتم بالوفاء بالدين، وقصته مع زيد بن سعنة اليهودي معروفة حين اغلظ هذا القولَ لرسول الله -ﷺ-؛ لأنه لم يؤد الدين الذي عليه، وعندما غضب عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-من غلظة ابن سعنة، وعدم أدبه، قال رسول الله -ﷺ-: (يا عمر! أنا وهو كنا أحوج إلى غير هذا، أن تأمرني بحسن الأداء، وتأمره بحسن اتباعه) (السلسلة الضعيفة: 1341).

ويتحدد الإيسار وفقًا لمعايير القضاء، وما تتطلبه ضرورات المدين في حياته من سكن وخلافه مما يعتبر في عرف الزمان والمكان، وللدائن منع من أحاط الدين بماله من تبرعه وسفره إن حل دينه بغيبته (إلا أن يوثق برهن أو كفيل)، وإعطاء غيره قبل أجله([9]).

ويتأخر الوفاء بالدين إذا أتى المدين ببينة تدل على إعساره؛ لقول الله -تعالى-: {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280]، “والعسرة: قلة ما في اليد، أو ضيق الحال”، وقوله -تعالى-: {لَا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، وقد روي أن رجلًا أصيب في عهد رسول الله -ﷺ- في ثمار ابتاعها، فكثر دينه، فقال رسول الله -ﷺ-: (تصدقوا عليه)، فتصدق الناس عليه، فلم يبلغ ذلك وفاءَ دينه، فقال -عليه الصلاة والسلام-لغرمائه: (خذوا ما وجدتم، وليس لكم إلا ذلك)([10]).

وقد وردت في إمهال المعسر فضائل كثيرة، منها: قول رسول الله -ﷺ-: (من نفس عن غريمه، أو محا عنه، كان في ظل العرش يوم القيامة)([11])، وقوله -عليه الصلاة والسلام-: (من أنظر معسرًا، أو وضع عنه، وقاه الله من فيح جهنم)([12]).

ولا يجوز حبس المعسر إذا كان معروفًا بالعسرة([13])، وتقبل بينته بشهادة عدول يعرفون حاله([14])، والعلة في عدم جواز حبس المعسر واضحة في أن عقابه لن يؤدي إلى قضاء دينه، بل سيسبب له أضرارًا كثيرة لا تطاله في نفسه فحسب، بل تمتد إلى أسرته، إضافة إلى أنه سيحرم من تصرف أو عمل يساعد في أداء دينه.

والإعسار ليس حالة دائمة، فإذا ظهر للمدين المعسر مال لاحِقٌ للحكم بإعساره، كاستحقاقه لوصية أو إرث، أو تعويض، أو نحو ذلك، فلدائنيه مطالبته بالوفاء، وإذا حصل له دخل من وظيفة، أو عمل، أو حرفة، فلدائنيه مطالبته بقدر ما يبقى لضرورات حياته، وفقًا لعرف الزمان والمكان.

والله أعلم.

 

([1]) السنن الكبرى للبيهقي، كتاب الوصايا، باب تأدية الدين على الوصية ج6 ص267-268.

([2]) أخرجه ابن ماجة في كتاب الصدقات، باب أداء الدين عن الميت، برقم (2433) سنن ابن ماجة، ج2 ص 813، صححه الألباني في صحيح ابن ماجه، (١٩٨٨).

([3]) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب الدعاء قبل السلام، اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان، ج1 ص117.

([4]) كنز العمال، ج6 ص 231، رقم الأثر 1547، قال الألباني في ضعيف الجامع، (٣٠٣٣): ضعيف جداً.

([5]) أخرجه ابن ماجة في كتاب الصدقات، باب من ادَّانَ دينًا لم ينو قضاءه، برقم (2411)، سنن ابن ماجة، ج2 ص 806، صححه الألباني في صحيح ابن ماجه، (١٩٧٠). وأخرجه البخاري (٢٣٨٧).

([6]) أخرجه البخاري بصيغة التمريض في كتاب الاستقراض، باب “لصاحب الحق مقال”، فتح الباري ج5 ص 75 – 76، وأخرجه أبو داود في كتاب الأقضية، باب في الحبس في الدين وغيره، برقم (3628) ج3 ص 314، وأخرجه ابن ماجة في كتاب الصدقات، باب الحبس في الدين والملازمة، برقم (2427)، قال ابن ماجة: “قال عليٌّ الطنافسي: يعني بعرضه شكايته، وعقوبته سجنه” سنن ابن ماجة ج2 ص 811.

([7]) ينظر: فتح الباري ج5 ص76، والمغني والشرح الكبير ج4 ص505.

([8]) أخرجه البخاري في كتاب الاستقراض، باب “مطل الغني ظلم”، برقم (2400)، فتح الباري ج5 ص 75.

([9]) منح الجليل شرح مختصر خليل، ج6 ص 3، 51، وانظر: المغني، ج4 ص 456.

([10]) أخرجه ابن ماجة في كتاب الأحكام، باب الحجر على من يفسد ماله، برقم (2355)، سنن ابن ماجة، ج2 ص 789، أخرجه مسلم (1556).

([11]) سنن الدارمي، باب فيمن أنظر معسرًا، ج2 ص 261 – 262، صححه الألباني، صحيح الترغيب، (٩١١).

([12]) أخرجه الإمام أحمد في المسند ج5 ص 10، قال المنذري في الترغيب والترهيب، (٢/٧٧): إسناده حسن.

([13]) رد المحتار على الدر المختار، ج5 ص 384.

([14]) نهاية المحتاج، ج4 ص 331 – 335، والأم 212 – 213.