كتب الأخ محمد شاكر من الجزائر يسأل عن حكم سرقة الآلات والأدوات المحرمة مثل: أشرطة الأغاني وغيرها؛ وذلك بقصد إتلافها.

حكم سرقة الآلات والأدوات المحرمة بقصد إتلافها

السرقة من حيث العموم محرمة؛ لما فيها من التعدي على حق الغير، واستلابه منه، سواء كان هذا الاستلاب سرا أو جهرا، وتحريم التعدي على المال مثل تحريم التعدي على الدم والعرض بدون خلاف في ذلك، والأصل في هذا الكتاب، والسنة، والمعقول.

أما الكتاب: فقول الله -تعالى-: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ} [المائدة:38]، وقد سماها الله فسادا في الأرض في قوله -عز وجل- على لسان إخوة يوسف: {مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِين} [يوسف:73].

أما السنة: فقول رسول الله -ﷺ- في خطبته الشهيرة في حجة الوداع: «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا»([1]).

وأما المعقول: فإن حصول الإنسان على المال يتأتى في الغالب الأعم من جهد يبذله فيه، وهذا الجهد يصبح من خصوصيته، وحقه المطلق فيه، والعقل يقتضي أن من بذل جهدا في أمر استحق نتيجته، ومن استباح هذا الجهد فقد أخذ ما لا يستحقه، والعقل يقتضي -أيضا- أن من لا يستحق شيئا يجب منعه منه، وإلا فسد التعامل بين الناس، وساءت أحوالهم، فأصبحوا فوضى لا سراة لهم.

هذا هو الأصل في السرقة، ويستثنى منه كل ما ليس له قيمة في ذاته كالشيء التافه، وكل ما كان منكرا في ذاته، أو كان وسيلة لبلوغ هذا المنكر، ومن ذلك: آلات اللهو، وقد انصبت أقوال الفقهاء -رحمهم الله- على عدم حرمتها لذاتها.

فعند الإمام أبي حنيفة: من كسر على إنسان بربطا أو طبلا ضَمِنَ قيمته خشبا منحوتا؛ لأنه كما يصلح للهو والفساد يصلح للانتفاع به من وجه آخر، فكان مالا متقوما، وعند صاحبيه: لا يضمن؛ لأن هذا آلة للهو والفساد، فلم يكن مالا متقوما كالخمر، ويدخل فيما ذكر المزمار والطنبور والدف، وما أشبه ذلك([2]).

وفي مذهب الإمام مالك: لا يضمن ما نقص من الملاهي بكسرها، وتغييرها عن حالها، ولا قطع على سارقها إلا أن يساوي بعد كسره تقديرا نصابا، فيقطع([3]).

وفي مذهب الإمام الشافعي: أن استعمال الطنبور والمزمار وسائر الملاهي واقتناءها محظور، فمن فصل مزمارا لم يلزمه شيء؛ لأن ما أزاله لا قيمة له؛ لما رواه جابر -رضي الله عنه- أن رسول الله -ﷺ- قال يوم فتح مكة: «إن الله ورسوله حرم بيع الخمر، والميتة، والخنزير، والأصنام»([4])، فدل على أنه لا قيمة له، وما لا قيمة له لا يضمن، فإن كسره نظر، فإن كان إذا فصله يصلح لمنفعة مباحة، وإذا كسره لم يصلح لزمه ما بين قيمته مفصلا ومكسورا؛ لأنه أتلف بالكسر ما له قيمة، فلزمه ضمانه، فإن كان لا يصلح لمنفعة مباحة لم يلزمه بشيء؛ لأنه لم يتلف ما له قيمة([5]).

وفي مذهب الإمام أحمد: لا يقطع في سرقة آلات اللهو كالمزمار والطبل (غير ما خصص للحرب)؛ لأن آلات اللهو معصية كالخمر، ولأن للسارق حقًّا في أخذها لكسرها، فهو شبهة، فكل ما هو محرم لا يقطع فيه وإن بلغت قيمته نصابا؛ لأنه آلة للمعصية، فأشبه الخمر، ولأن الشارع سلطه عليه، حيث جعل له إفساده، وذلك لأن النبي -ﷺ- أمر بكسر دنان الخمر، وشق زقاقه، مع أنه يمكن زوال المحرم وتبديده([6]).

وفي ذلك روي عن الإمام أحمد أنه سئل عن رجل كسر عودا كان مع أَمَةٍ لإنسان، فهل يغرمه أو يصلحه؟، قال: لا أرى عليه بأسا أن يكسره، ولا يغرمه، ولا يصلحه. كما سئل عن الرجل يرى الطنبور أو الطبل مغطى أيكسره؟، قال: إذا تبين أنه طنبور أو طبل فاكسره([7]).

ومن هذا يتبين أن من الفقهاء من يرى أن آلة اللهو لا تحترم فيما صنعت له، وهو اللهو والإفساد، كما أنها لا تحترم في ذاتها، فمن أتلفها لا يضمنها، ومن سرقها بقصد إتلافها لا يطبق عليه حكم السرقة ولو بلغت نصابا، ومنهم من يرى أنها لا تحترم فيما صنعت له، ولكن تبقى قيمتها في ذاتها إذا تحولت إلى آلة أخرى ينتفع بها في غير اللهو والإفساد، فمن أتلفها وهي في تلك الحال أصبح ضامنا لقيمتها، ويطبق عليه حكم السرقة إذا بلغت نصابا.

قلت: إن دين الإسلام يحرم كل لهو يصد عن ذكر الله، أو يضل عن سبيله، سواء كان هذا اللهو في صورة آلاتٍ أو في صورة أشرطة، أو رسوم، أو في أي صور أخرى مشابهة، والأصل في هذا الكتاب والسنة.

أما الكتاب: فقول الله -تعالى- في مخاطبة الشيطان: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} [الإسراء: 64]، وقوله -عز وجل-: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِين} [لقمان:6]، والمعنى في الآية الأولى: أن يستزل الشيطان من يستطيعه من بني الإنسان، فيصرفه عن الحق بما يدعوه إليه من معصية الله باللهو والغناء، والمعنى في الآية الثانية: الإنكار على كل من يشتري ما فيه لهو كآلات الغناء؛ ليضل بها عن سبيل الله، وقد استدل العلماء بهاتين الآيتين على تحريم الغناء وفساده، وما يجب من منعه، ولما سئل عبد الله بن مسعود عن المقصود بهذه الآية حلف بالله الذي لا إلـه إلا هو ثلاث مرات أنه الغناء([8]).

وأما السنة: فما روي عن رسول الله -ﷺ- أنه قال: «إن الله بعثني رحمة وهدى للعالمين، وأمرني ربي -عز وجل- بمحق المعازف، والمزامير، والأوثان، والصلب، وأمر الجاهلية»([9])، وقوله -عليه الصلاة والسلام-: ‏«‏إن الله -عز وجل- بعثني رحمة وهدى للعالمين، وأمرني أن أمحق المزامير، والكنّارات -يعني البرابط، والمعازف، والأوثان التي كانت تعبد في الجاهلية‏»‏‏([10])، وقوله -عليه أفضل الصلاة والسلام-: «إذا فعلت أمتي خمس عشرة خصلة حل بها البلاء» فذكر منها: «واتخذت القينات والمعازف»([11]).

وفي مسألة الغناء أقوال كثيرة، فمن الفقهاء من يراه محرما، ومنهم من يراه مكروها، ولكن مما لا خلاف فيه أنه يعد محرما إذا كان مما يصد عن ذكر الله، وعن سبيله، ويُبعد عن شرعه، ومن ذلك: ما تتضمنه العديد من كلمات الغناء من اللهو، والتحلل من القيم والأخلاق، وغرس الرذيلة في نفوس الناشئة، فهو إن كان وسيلة إلى محرم أصبح محرما؛ لأن الوسيلة تأخذ حكم الفعل الذي تؤدي إليه، وإن كان وسيلة إلى معصية أصبح معصية؛ لأن الوسيلة تأخذ كذلك حكم الفعل الذي تؤدي إليه، وهكذا.

قلت: وأما سؤال الأخ السائل عن سرقة آلات اللهو بقصد إتلافها فمع ما في الغناء من اللهو والعبث إلا أنه ليس من حق المرء أو من واجبه أن يعتدي على آلات غيره بالسرقة، سواء بقصد الإتلاف أو غيره؛ وذلك لأن فعل من لا يملك سلطة تجيز له هذا العمل يحدث فتنة وخللا في التعامل بين الناس، ومن المعلوم أن حفظ الأخلاق وإزالة المنكرات من حق ولي الأمر؛ لكونه يتولى أمور الأمة وشؤونها، ومن ذلك: دفع ما فيه ضرر أو خطر عليها، وهو بحسب هذه الولاية يُولي من يراه من أهل الحسبة، أو من في حكمهم للقيام بهذا العمل، ومن حق المرء أن يستعدي رجال الحسبة إذا رأى منكرا ينبغي إزالته، فيكون بذلك قد أبرأ نفسه في إزالة هذا المنكر.

وخلاصة المسألة: أن السرقة من حيث العموم محرمة؛ لما فيها من التعدي على حق الغير، واستلابه منه، وتحريم التعدي على المال مثل التعدي على الدم والعرض، وهي محرمة في الكتاب والسنة، ويستثنى من هذا التحريم كل ما ليس له قيمة في ذاته كالشيء التافه، وكل ما كان منكرا في ذاته، أو كان وسيلة لبلوغ هذا المنكر، ومن ذلك: آلات اللهو.

ومن الفقهاء من يرى أن هذه الآلات لا تحترم في ذاتها، فمن أتلفها لا يضمنها، ومن سرقها بقصد إتلافها لا يطبق عليه حكم السرقة ولو بلغت نصابا، ومنهم من يرى أنها لا تحترم فيما صنعت له، ولكن تبقى قيمتها في ذاتها إذا تحولت إلى آلة أخرى ينتفع بها في غير اللهو والإفساد، فمن أتلفها وهي في تلك الحال أصبح ضامنا لقيمتها، ويطبق عليه حكم السرقة إذا بلغت نصابا.

ولا شك أن دين الإسلام يحرم كل لهو يصد عن ذكر الله، أو يضل عن سبيله، سواء كان هذا اللهو في صورة آلات، أو في صورة أشرطة، أو رسوم، أو نحوها، والغناء إن كان وسيلة إلى محرم أصبح محرما، وإن كان وسيلة إلى معصية عُدَّ معصية؛ لأن الوسيلة تأخذ حكم الفعل الذي تؤدي إليه.

وأما سؤال الأخ عن سرقة آلات اللهو بقصد إتلافها فمع ما في الغناء من اللهو والعبث إلا أنه ليس من حق المرء أو من واجبه أن يعتدي على آلاته بالسرقة، سواء بقصد الإتلاف أو غيره؛ وذلك لأن فعل من لا يملك سلطة تجيز له هذا العمل يحدث فتنة، ومن المعلوم أن حفظ الأخلاق وإزالة المنكرات من ولاية ولي الأمر، وهو بحسب هذه الولاية يولي من يراه من أهل الحسبة أو من في حكمهم للقيام بهذا العمل، ومن حق المرء أن يستعدي هؤلاء إذا رأى منكرا ينبغي إزالته، فيكون بذلك قد أبرأ نفسه في إزالة المنكر.

والله -تعالى- أعلم.

([1]) أخرجه البخاري في كتاب العلم، باب «ليبلغ العلم الشاهدُ الغائبَ»، فتح الباري ج1 ص238، برقم (104)، وأخرجه مسلم في كتاب الحج، باب حجة النبي-ﷺ-، صحيح مسلم مع شرحه إكمال إكمال المعلم، ج4 ص254-255، برقم (147).

([2])   بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع للإمام الكاساني ج7 ص167-168، 67-68، وانظر: الفتاوى الهندية للشيخ نظام وجماعة من علماء الهند ج2 ص196، وحاشية رد المحتار على الدر المختار لابن عابدين ج6 ص211-212.

([3])   عقد الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة لابن شاس ج2 ص743، وانظر: حاشية الدسوقي على الشرح الكبير للدسوقي ج4 ص336، وشرح الخرشي على مختصر خليل ج8 ص96.

([4])    أخرجه البخاري في كتاب البيوع، باب بيع الميتة والأصنام، فتح الباري ج4 ص495، برقم (2236).

([5])  المهذب في فقه الإمام الشافعي للشيرازي ج1 ص374، ج2 ص281، وانظر: نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج للرملي ج7 ص442، ج5 ص167-196، وقليوبي وعميرة ج3 ص33، ج4 ص187، والحاوي الكبير للماوردي ج17 ص232-233.

([6])   شرح منتهى الإرادات للبهوتي ج3 ص364، وشرح الزركشي على مختصر الخرقي ج6 ص350- 352، وكشاف القناع عن متن الإقناع للبهوتي ج6 ص130-131، والمغني والشرح الكبير لابني قدامة ج5 ص445، وانظر: الطرق الحكمية في السياسة الشرعية لابن القيم ص271-272، والحسبة في الإسلام للإمام ابن تيمية ص30، والأحكام السلطانية للقاضي أبي يعلى الفراء ص268، والحديث أخرجه الترمذي في كتاب البيوع، باب ما جاء في بيع الخمر والنهي عن ذلك، سنن الترمذي ج3 ص588، برقم (1293).

([7])  الطرق الحكمية في السياسة الشرعية لابن القيم ص271.

([8])   تفسير القرآن العظيم لابن كثير ج3 ص426.

([9])  أخرجه الإمام أحمد في المسند ج5 ص286، ضعف إسناده الألباني في هداية الرواة، (٣٥٨٠).

([10])   أخرجه الإمام أحمد في المسند ج5 ص257، ضعفه الألباني في ضعيف الترغيب، (١٤٢١).

([11])  أخرجه الترمذي في كتاب الفتن، باب ما جاء في علامة حلول المسخ والخسف، سنن الترمذي ج4 ص428، برقم (428)، ضعفه السيوطي في الجامع الصغير، (٧٦٩).