كتب الأخ بشير علي‮ ‬ب‮… ‬من الجزائر‮ ‬يسأل عن حكم رجل‮ ‬يستهزئ بأحكام الله وآياته‮ .. ‬كما‮ ‬يسأل أيضًا‮ ‬عن حكم رجل‮ ‬ينسب نفسه إلى الكفر والنفاق، ويدعي‮ ‬أنه مغلوب على أمره.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

حكم من‮ ‬يستهزئ بأحكام الله وآياته‬، ومن ينسب نفسه إلى الكفر والنفاق

وجواب هذه المسألة من وجهين:

أولهما: حكم الاستهزاء بأحكام الله وآياته . الهزء بالشيء السخرية منه فمن استهزأ بفعل فقد سخر منه، ومن استهزأ بأحكام الله وآياته فقد سخر منها. والهزء بأحكام الله من صفات المنافقين، وأول من فعل ذلك في الإسلام منافقو المدينة([1])، فقد كانوا يظهرون موالاة رسول الله ومحبته، ويخفون في أنفسهم غير ذلك؛ فبينما كان عليه الصلاة والسلام يسير في غزوة تبوك كان يسير معه بعض المنافقين، وكانوا يتحدثون بينهم مستهزئين، فبعضهم يقول: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء، أرغب بطونًا، وأكذب ألسنًا، وأجبن عند اللقاء. وبعضهم يقول: أيظن هذا أنه يفتح قصور الشام، ويأخذ حصون بني الأصفر!!

ولما أوحى الله إلى رسوله بما هم عليه من النفاق، أمر عليه الصلاة والسلام بحبس الركب فاستدعاهم وواجههم بما كانوا يقولون فأخذ رئيسهم (وديعة بن ثابت) يلحق رسول الله، ويعتذر بأنهم كانوا يتلهون بالحديث ويلعبون به، وفي هذا قال الله تعالى عنهم في كتابه العزيز: {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِؤُواْ إِنَّ اللّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُون * وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُون} [التوبة: 64-65]. وقد أكد الله كفرهم في قوله -عز وجل-: {لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِين} [التوبة: 66].

قال الإمام ابن العربي: «لا يخلو أن يكون ما قالوه من ذلك جدًّا أو هزلًا وهو كيفما كان كفر؛ فإن الهزل بالكفر كفر لا خلاف فيه بين الأمة، فإن التحقيق أخو الحق والعلم، والهزل أخو الباطل والجهل»([2]).

قلت: ويكون الاستهزاء بأحكام الله أو آياته أو أسمائه وصفاته أو بأنبيائه ورسله بمجرد اللفظ فحسب، ولا عبرة فيه للنية والقصد، وذلك للأسباب التالية: أولها: أن النية مستترة، والأحكام تبنى على الاقرار بما ينطق به اللسان.

وثانيها: أن الله أنزل هذه الأحكام لعباده، فأصبحت لزامًا عليهم بحكم الخلق والفطرة، وما أخذه عليهم من الميثاق؛ فاقتضى هذا منهم تعظيم الخالق وتقديسه، ومن المحال عقلًا أن يجتمع التعظيم والاستهزاء.

السبب الثالث: أن هذه الأحكام جاءت لصالحهم، فالله حرم القتل بغير حق حفظًا لكيان الإنسان، وحرم الزنى حفظًا لنسبه وشرفه، وحرم الخمر حفظًا لعقله، وأوجب القصاص لردع القتلة والمجرمين. ويفترض في العاقل ألا يستهزئ بما له مصلحة فيه، فإن فعل ذلك وجبت مؤاخذته ولو بمجرد لفظه.

السبب الرابع: وهو مشتق من السبب الأول، وذلك أن الله كما يجازي عباده بصالح أفعالهم وأقوالهم يجازيهم بسيئها، وشاهد هذا من كتاب الله في قوله تعالى: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُون} [النور: 42]. وقوله -عز وجل-: {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيد} [ق: 81]. وشاهد هذا أيضًا قول رسول الله r: (وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم)([3]).

والاستهزاء بأحكام الله له صور عديدة، منها: صور المنافقين، وصور الذين يحرمون ما أحل الله، أو يحللون ما حرم الله؛ فمن يقول -مثلًا- بحل الربا بحجة أن هذا التحريم لا يتفق مع ضرورات العصر، فقد استهزأ بأحكام الله؛ لأن الله حرم الربا تحريمًا قطعيًّا. ومن يبيح الفواحش بحجة حماية حرية الإنسان وحقوقه فقد استهزأ بأحكام الله؛ لأن الله حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن. ومن يشك أو ينكر أو يبدل أي حكم نزل به كتاب الله، أو ورد في سنة رسوله r، أو فعله خلفاؤه الراشدون، أو أجمع عليه علماء الأمة، أو ينفي وجوب ما أجمع على وجوبه، أو يقول بوجوب ما ليس بواجب ونحو ذلك مما هو معروف من الدين بالضرورة، فقد استهزأ بأحكام الله.وهذا الفعل يعد من الكفر الصريح، ولا يقبل من فاعله عذر، بل عليه التوبة بشروطها، أو يطبق عليه حكم الكفر،عملًا بقول الله -عز وجل-: {لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة: 66].

الوجه الثاني: حكم من ينسب إلى نفسه الكفر والنفاق ويدعي أنه مغلوب على أمره .

إذا أقر المسلم العاقل على نفسه بالكفر أصبح بذلك مرتدًا، والردة بهذا المعنى قطع الإسلام بالخروج منه بالقول أو الفعل. والأصل فيها الكتاب والسنة والمعقول. أما الكتاب، فقول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِين} [آل عمران: 001].([4])، وقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِين} [المائدة: 45]. وقوله تعالى: {وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَـئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُون} [البقرة: 712]. وأما السنة، فقول رسول اللهr : (من بدل دينه فاقتلوه)([5])، وقوله عليه الصلاة والسلام: (لا يحل دم رجل مسلم يشهد ألا إله إلا الله وأني رسول الله، إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة)([6]). وفي لفظ آخر عند ابن ماجة: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا في إحدى ثلاث: رجل زنى وهو محصن فرُجم، أو قتل نفسًا بغير نفس، أو رجل ارتدّ بعد إسلامه)([7]).

وأما المعقول، فإن للمسلم دينًا واحدًا هو الإسلام، وهو بحكم انتسابه إليه يرتبط بأحكامه، تجب له الحقوق التي أقرها له كالحفاظ على نفسه، وماله وعقله، وعرضه. وفي المقابل فرض الإسلام عليه الالتزام بأحكامه، فإذا ارتضى دينًا آخر فقد نبذ هذه الأحكام، ومن ثم تسقط عنه حقوق الإسلام، ويصبح في حكم المحارب له.

وقد تعرض الفقهاء لأحكام الردة بكثير من التفصيل، يحسن هنا إيجازها.

ففي مذهب الإمام أبي حنيفة: الردة إجراء كلمة الكفر على اللسان بعد وجود الإيمان، وشروط صحتها العقل، فلا تقع ردة المجنون والصبي الذي لا يعقل؛ لأن العقل من شروط الأهلية، وعلى الأخص في الاعتقادات، فإن كان الرجل ممن يصاب بالجنون ثم يفيق، فإن ارتد حال جنونه لم تقع ردته، وإن ارتد حال إفاقته وقعت، لوجود دليل الرجوع في إحدى الحالتين دون الأخرى، ومثله السكران الذي ذهب عقله لا تقع ردته استحسانًا، والقياس أن تقع في حق الأحكام، ولا تقع كذلك ردة المكره على الردة إذا كان قلبه مطمئنًا بالإيمان والقياس أن تقع في أحكام الدنيا([8]).

وفي مذهب الإمام مالك: الردة كفر المسلم الذي تقرر إسلامه بالنطق بالشهادتين مختارًا، وتكون بأحد أمور ثلاثة (صريح القول كالتلفظ بالكفر أو الشرك، أو لفظ أي قول يقتضيه)، كجحده حكمًا عُلِمَ من الدين بالضرورة (أو فعل يتضمنه)، أي يقتضي الكفر، ويستلزمه استلزامًا بينًا كامتهان المصحف وأسماء الله وأسماء الأنبياء([9]).

وفي مذهب الإمام الشافعي:  تحصل الردة بالقول الذي هو كفر، سواء صدر عن اعتقاد أو استهزاء أو عناد، كما تحصل بالفعل، والأفعال الموجبة للكفر هي التي تصدر عن تعمد واستهزاء صريح بالدين، ولا تقع ردة الصبي والمجنون والمكره، وتقع ردة السكران وإسلامه ([10]).

وفي مذهب الإمام أحمد: المرتد هو من يكفر بعد إسلامه ولو هازلًا، فكل من أشرك بالله أو جحد ربوبيته أو وحدانيته أو صفة من صفاته.. أو أتى بقول يخرجه عن الإسلام، كقوله: إنه برئ من الإسلام أو القرآن أو النبي عليه الصلاة والسلام أو نحو ذلك، فهو كافر. ولا تقع ردة الطفل الذي لا يعقل، وكذلك المجنون، ومن زال عقله بنوم أو إغماء أو شرب دواء مباح؛ لأنه لا حكم لكلامه، وإذا عقل الصبي وقعت ردته إذا كان مميزًا([11]).

وعقوبة المرتد القتل بالاتفاق بين الفقهاء، ولم يعرف أن أحدًا منهم خالف في ذلك ما عدا أن الإمام أبا حنيفة قال بعدم قتل المرأة إذا ارتدت، بل تحبس وتستتاب، ويعرض عليها الإسلام، وتبقى على تلك الحال حتى تسلم أو تموت، والحجة في ذلك أن رسول الله r نهى عن قتل النساء([12]). وقد خالف جمهور العلماء في ذلك، وقالوا بقتلها إذا ارتدت؛ لأن الحكم في ذلك سواء بين الرجل والمرأة([13]).

ولا توقع العقوبة على المرتد إلا بعد استتابته، وقد اختلف في كيفية الاستتابة؛ ففي المذهب الظاهري يُستتاب، فإن لم يتب توقع عليه العقوبة حالًا ولا يمهل([14])، وقال به آخرون قياسًا على الحربي الذي بلغته الدعوة، وقال الجمهور:  يستتاب ثلاثة أيام، استدلالًا بما فعله عمر ابن الخطاب في مسألة المرتد، فعندما قدم عليه رجل من قبل أبي موسى الأشعري سأله: هل كان فيكم من مَغْرُبةٍ خبر؟ فقال الرجل: نعم رجل كفر بعد إسلامه فقتلناه، فقال عمر: «هلا حبستموه ثلاثًا، وأطعمتموه في كل يوم رغيفًا، واستتبتموه لعله يتوب، اللهم لم أحضر، ولم آمر، ولم أرض إذ بلغني، اللهم إني أبرأ إليك من دمه»([15]). ولما لم ينكر ذلك أحد من الصحابة كان ذلك إجماعًا سكوتيًّا، واستدلالًا أيضًا بما روي أن ابن مسعود كتب إلى عثمان -رضي الله عنهما- في قوم ارتدّوا، فكتب إليه عثمان: ادعهم إلى دين الحق، وشهادة ألا إله إلا الله، فإن أجابوا فخل سبيلهم، وإن امتنعوا فاقتلهم([16]).

قلت: ولا يمنع أن تكون مدة الاستتابة أكثر من ثلاثة أيام؛ لأن دين الإسلام دين يؤلف القلوب، ويدعو إلى الموعظة والمجادلة بالحسنى، ودحض الشبه بالحجة البالغة، ومنح المذنب فرصة للتوبة، عسى أن يكون في ذلك مخرج له من مأزق نفسي أو فكري حرفه عن الحق، وحاد به عن الصواب، ذلك هو قول الله -عز وجل-: {فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيم} [التوبة: 5]. وذلكم هو قول رسول الهدى عليه الصلاة والسلام: (لئن يخطأ الإمام في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة)([17]).

ومبادئ الإسلام هذه تجعل فقهاءنا يبحثون عن مخرج يتيح للمنحرف العودة عن انحرافه والمرتد عن ارتداده، ففي حاشية رد المحتار قال: «وفي الفتح: فإن ارتد بعد إسلامه ثانيًا قبلنا توبته أيضًا، وكذا ثالثًا ورابعًا إلا أن الكرخي قال: فإن عاد بعد الثالثة يقتل إن لم يتب في الحال ولا يؤجل، فإن تاب ضربه ضربًا وجيعًا، ولا يبلغ به الحد ثم يحبسه ولا يخرجه حتى يرى عليه خشوع التوبة وحال المخلص، فحينئذٍ يخلى سبيله، فإن عاد بعد ذلك فعل به كذلك أبدًا ما دام يرجع إلى الإسلام. قال الكرخي: هذا قول أصحابنا جميعًا أن المرتد يستتاب أبدًا، وما ذكره الكرخي مروي في النوادر، قال: إذا تكرر ذلك منه يضرب ضربًا مبرحًا، ثم يحبس إلى أن تظهر توبته ورجوعه، وذلك لإطلاق قوله تعالى: {فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ} الآية»([18]).

قلت: وترد على عقوبة المرتد أقوال ترى فيها خروجًا على حق الإنسان في اختيار الدين الذي يرغب فيه، وكثيرًا ما سمعنا هذه المقولة في هذا العصر، الذي يتكلم فيه المتكلمون عن حقوق الإنسان وحريته.

والجواب على هذا: أن الإسلام دين فطري، وليس فيه ما يتعارض مع فطرة الإنسان وعقله، وليس فيه ما يتعارض مع الحقائق الكونية ولا مع العلائق الإنسانية؛ لأنه سنة الله الثابتة، وهذه السنة لا تتبدل ولا تتغير ولا تتحول تبعًا لمنهج عابر أو سلوك طارئ؛ والإسلام لا يجبر أحدًا على اعتناقه؛ فإذا اعتنقه أحد وجب عليه الالتزام به، فإن خرج منه أصبح في حكم العدو الذي يحاربه، وعقوبة العداوة أمر مسلم به في كل شريعة سماوية وأنظمة وضعية؛ لهذا فمن حق الإسلام- وهو دين الفطرة- أن يحمي مبادئه وأسسه بعقوبة ترد الخارج عليه، وتردع المحارب له.

هذا من حيث العموم، أما بخصوص سؤال الأخ السائل (الشق الثاني من المسألة)، فإن كان المتكلم بالكفر مقرًّا به على نفسه عالمًا بما يقر به دون تأويل، فيجب استتابته المدة اللازمة التي يتم التيقن فيها أنه قد خرج من الإسلام، وانشرح صدره بغيره، وحينئذٍ توقع عليه العقوبة. أما إن كان مغلوبًا على أمره كحال من فقد عقله بجنون أو نحوه، أو كان مريضًا بالوساوس مرضًا لا يستطيع معه التحكم في عقله، وعرف ذلك عنه بِعِلْمٍ يقين، فعندئذٍ يجب انتظاره حتى شفائه.

وخلاصة المسألة: أن الاستهزاء بأحكام الله كفر صريح، ولا يقبل من فاعله عذر، بل عليه التوبة بشروطها، أو يطبق عليه حكم الكفر. وإذا أقر المسلم العاقل على نفسه بالكفر أصبح بذلك مرتدًا، فإن كان المتكلم بالكفر في المسألة مقرًا به على نفسه، عالمًا بما يقر به دون تأويل، فيجب استتابته المدة اللازمة، التي يتم التيقن فيها أنه قد خرج من ملة الإسلام وانشرح صدره بغيره، وحينئذٍ توقع عليه عقوبة الردة، وإن كان مغلوبًا على أمره كفاقد العقل أو المريض بالوساوس مرضًا لا يستطيع معه التحكم في عقله، وعرف ذلك بعلم يقين، فعندئذٍ يجب انتظاره حتى شفائه.

([1]) ذكر ابن عباس -رضي الله عنهما- أنهم كانوا سبعين رجلاً، وقد أنزل الله أسماءهم، ثم نسخها من القرآن رحمة منه، ورأفة بأولادهم المسلمين، الجامع لأحكام القرآن، للإمام القرطبي، ج٨ ص٦٩١.

([2]) أحكام القرآن، ج٢ ص٦٧٩.

([3]) أخرجه الترمذي في كتاب الإيمان، باب ما جاء في حرمة الصلاة برقم (٦١٦٢)، سنن الترمذي ج٥ ص٣١، وابن ماجة في كتاب الفتن، باب كف اللسان في الفتنة برقم (٣٧٩٣)، سنن ابن ماجة ج٢ ص٤١٣١، و٥١٣١، صححه الألباني في صحيح الجامع (٥١٣٦).

([4]) وقد نزلت هذه الآية في شاس بن قيس اليهودي، فقد أفتن الأنصار حين ذكرهم بما كانوا عليه من الحروب، فاقتتلوا بينهم، فأتاهم رسول الله فوعظهم وذكرهم بما هم عليه من الإسلام والتآخي، فعرفوا أن ما أصابهم كان بسبب تلك الفتنة فتعانقوا وتآلفوا، فنزلت هذه الآية، انظر: تفسير القرطبي ج4 ص155.

([5]) أخرجه البخاري في كتاب استتابة المرتدين، باب حكم المرتد والمرتدة واستتابتهم برقم (٢٢٩٦)، فتح الباري، ج٢١ ص٩٧٢-٠٨٢، وابن ماجة في كتاب الحدود، باب المرتد عن دينه برقم ٥٣٥٢، سنن ابن ماجة ج٢ ص٨٤٨. (من بدل دينه) المراد بـ«من»: المسلم. والمراد بدينه: الدين الحق وهو الإسلام.

([6]) أخرجه مسلم (1676)، وأخرجه ابن ماجة في كتاب الحدود، باب لا يحل دم امرئ مسلم إلا في ثلاث برقم (٤٣٥٢)، سنن ابن ماجة ج٢ ص٧٤٨، ومعنى (التارك لدينه) أي دين الإسلام، و(المفارق للجماعة) أي جماعة المسلمين.

([7]) أخرجه ابن ماجة في كتاب الحدود، باب لا يحل دم امرئ مسلم إلا في ثلاث برقم (٣٣٥٢)، سنن ابن ماجة ج٢ ص٧٤٨، ومعنى: (بغير نفس) أي بغير حق، لأن الغالب في القتل بغير نفس هو أن يكون بغير حق، فعبّر عنه بذلك، صححه الألباني، في صحيح ابن ماجه (٢٠٦٨).

([8]) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، للإمام الكاساني، ج٧ ص٤٣١-٨٣١ وحاشية رد المحتار على الدر المختار، لابن عابدين، ج٤ ص١٢٢-٠٣٢.

([9]) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير، للشيخ محمد عرفة الدسوقي على الشرح الكبير لأحمد الدردير، ج٤ ص١٠٣-٤٠٣، وانظر شرح الخرشي على مختصر خليل مع حاشية العدوي، ج١ ص٢٦-٤٧، وبداية المجتهد ونهاية المقتصد، لابن رشد، ج٢ ص٩٥٤.

([10])     روضة الطالبين وعمدة المتقين، للإمام النووي، ج٠١ ص٤٦-٢٨، وانظر مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج، للشيخ الشربيني الخطيب، ج٤ ص٤٣١-٢٤١، والحاوي الكبير، للماوردي، ج٦١ ص٦٠٤-٢٢٤، وقليوبي وعميرة، ج٤ ص٤٧١-٨٧١.

([11])     الاقناع لطالب الانتفاع، للحجاوي المقدسي، ج٤ ص٥٨٢-٧٩٢، وانظر: الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، للمرداوي، ج٠١ ص٦٢٣-٥٣٣.

([12])     انظر: بدائع الصنائع ج٧ ص٤٣١، والحديث أخرجه الإمام مالك في الموطأ ج٢ ص٦، والبخاري في كتاب الجهاد برقم (٤١٠٣)، ومسلم في الجهاد برقم ٤٤٧١، وأخرجه ابن ماجة في كتاب الجهاد، باب الغارة والبيات وقتل النساء والصبيان برقم (١٤٨٢)، سنن ابن ماجة ج٢ ص٧٤٩.

([13])     انظر: بدائع الصنائع ج٧ ص٤٣١-٨٣١، وحاشية الدسوقي ج٤ ص١٠٣-٤٠٣، وروضة الطالبين ج٠١ ص٤٦٤٨، والإقناع ج٤ ص٥٨٢- ٧٩٢

([14])     راجع المحلى بالآثار، لابن حزم، ج٢١ ص٨٠١-٨١١.

([15])     الحاوي الكبير، للماوردي، ج٦١ ص٥١٤، ومعنى مَغْرُبة: خبر السؤال إذا كان لدى الرجل خبر من بلاد بعيدة، والأثر أخرجه الإمام مالك في الموطأ في كتاب الأقضية، باب القضاء فيمن ارتد عن الإسلام، والبيهقي في كتاب المرتد، باب من قال يحبس ثلاثة أيام، السنن الكبرى ٨/٦٠٢، ٧٠٢، وابن أبي شيبة في مصنفه في كتاب الحدود، باب المرتد عن الإسلام برقم (٤٣٠٩)، والطحاوي في شرح معاني الآثار ٣/١١٢، وقد علل هذا الأثر بأنه منقطع، (ينظر: السنن الكبرى للبيهقي ٨/٧٠٢، والتلخيص الحبير ٤/٠٥، وقال ابن التركماني بأن له طريقاً مستقلاً (الجوهر النقي ٨/٧٠٢)، وقال الشيخ الألباني إن رواية الطحاوي متصلة، ولكنه في نهاية تعليقه على الأثر قال: «وعلى كل، فإنه فرض ثبوت اتصال الإسناد، فإنه معلول بمحمد بن عبدالله، فإنه لم يوثقه غير ابن حبان، فهو في حكم مجهول الحال». إرواء الغليل ٨/١٣١.

([16])     الحاوي الكبير ج٦١ ص٥١٤.

([17])     انظر حاشية رد المحتار، لابن عابدين على الدر المختار في فقه مذهب الإمام أبي حنيفة ج٤ ص٥٢٢ والحديث أخرجه الترمذي في كتاب الحدود، باب ما جاء في درء الحدود، برقم (٤٢٤١)، سنن الترمذي ج٤ ص٥٢.

([18])     حاشية رد المحتار على الدر المختار، ج٤ ص٥٢٢.