شهادة الزور من أعظم المحرمات؛ لما تنطوي عليه من الكذب الذي حرمه الله على عباده، وما تنطوي عليه -أيضًا- من تعمد الإضرار بالمشهود عليه في نفسه أو ماله أو عرضه، فهي لا تنطوي على فعل واحد، بل على فعلين آثمين. والأصل في تحريمها الكتاب والسنة والإجماع والمعقول.
أما الكتاب: فقد نهى الله نَهْيَ تحريمٍ عن هذه الشهادة بقوله -عز وجل-: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّور} [الحج: 30]، فدل هذا على أن هذه الشهادة تعادل الشرك بالله، وقوله -عز ذكره- في وصف المؤمنين، وثنائه عليهم: {وَالَّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} [الفرقان:72]، فدل على أن شاهد الزور ليس من المؤمنين، وقوله -جل ثناؤه-: {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَرًا مِّنَ الْقَوْلِ وَزُورًا} [المجادلة:2].
وأما السنة: فقول رسول الله -ﷺ- فيما رواه ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله -ﷺ- قال: «لن تزول قدما شاهد الزور حتى يوجب الله له النار»([1])، وفي حديث خريم بن فاتك الأسدي أن رسول الله -ﷺ- صلى صلاة الصبح، فلما انصرف قام قائمًا، فقال: «عدلت شهادة الزور الإشراك بالله» (ثلاث مرات)، ثم تلا الآية: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّور}([2])، وفي حديث أبي بكرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -ﷺ- قال: «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟» قلنا: بلى يا رسول الله!، قال -ثلاثًا-: «الإشراك بالله، وعقوق الوالدين»، وكان متكئًا، فقال: ألا وقول الزور، وشهادة الزور، فما زال يكررها حتى قلنا: لا يسكت([3]).
وأما الإجماع: فقد اجتمعت الأمة في سلفها وخلفها على تحريم شهادة الزور؛ لما تقوم عليه من نفي الحق وإحقاق الباطل.
وأما المعقول: فإن المراد من الشهادة بيان الحق وإظهاره، وقد أمر الله -عز وجل- عباده بالصدق، وحرم عليهم الكذب، فلما كانت شهادة الزور كذبًا كان صاحبها حينئذ من المفسدين في الأرض، المنكرين لأمر الله لعباده ببيان الحق ونفي الباطل؛ فيحق عليه ما يحق عليهم من الإثم والخطيئة والعقاب، هذا في جانب الله.
أما في جانب العباد فإن قواعد العلاقة في المعاملات بينهم تقتضي أن تكون الشهادة في خصوماتهم مبنية على الصدق ونفي الكذب بينهم؛ لما فيه من إفساد معاملاتهم وعلاقتهم، وهذا مناف لعقولهم ولفطرتهم التي فطرهم الله عليها، فاقتضى ما ذكر أن العقل ينفي هذه الشهادة، ويدحضها.
هذا في عموم المسألة، أما في الحكم فيضمن شاهد الزور ما أصاب المشهود عليه من ضرر، وقد بيَّن الفقهاء حكم هذا الضرر.
ففي مذهب الإمام أبي حنيفة: على شاهد الزور أن يتدارك ما أتلف بالزور، ويرجع إليه في أمرين: في ماله، وفي نفسه، حسب واقع الضرر الذي أحدثه([4]).
وفي مذهب الإمام مالك: يضمن شاهد الزور ما سببه من ضرر للمشهود عليه، فلو شهد شاهدا الزور بجرح أو قتل أو ما يوجب رجمًا، فقتل بشهادتهما، ثم اعترفا بالزور، اقتص منهما، وكل من أتلف شهادته شيئًا من الأموال، ثم رجع عن شهادته ضمن ما أتلف([5]).
وفي مذهب الإمام الشافعي: إذا شهد شهود الزور بالقتل، فاقتُصَّ من المشهود عليه، ثم رجعوا، وقالوا: (تعمدنا قتله)، فعليهم القصاص، أو الدية المغلظة، موزعة على عدد رؤوسهم…، فلو قالوا: أخطأنا، وكان الجاني أو الزاني غير الذي شهدوا عليه، فلا قصاص، وتجب الدية مخففة، وتكون في مالهم؛ لأن إقرارهم لا يلزم عاقلتهم([6]).
وفي مذهب الإمام أحمد: لا يخلو الأمر من ثلاثة أحوال:
الحال الأول: إذا رجع الشهود عن شهادتهم (قبل الحكم بها)، فلا يجوز الحكم بها، وهذا قول عامة أهل العلم، باستثناء الإمام أبي ثور، حيث قال: يحكم بها؛ لأن الشهادة قد أديت، فلا تبطل برجوع من شهد بها.
الحال الثاني: إذا رجع الشاهدان عن شهادتهما (بعد الحكم بها)، وقبل الاسيتفاء، فينظر، فإن كان المحكوم به عقوبة كالحد والقصاص، لم يجز استيفاؤه؛ لأن الحدود تدرأ بالشبهات، ورجوعهما من أعظم الشبهات؛ ولأن المحكوم به عقوبة، ولم يتعين استحقاقها، ولا سبيل إلى جبرها، فلم يجز استيفاؤها، كما لو رجعا قبل الحكم، وفارق المال، فإنه يمكن جبره بإلزامهما عوضه، والحد والقصاص لا ينجبر بإيجاب مثله على الشاهدين؛ لأن ذلك ليس بجبر.
الحال الثالث: إن رجعا (بعد الاستيفاء) فلا يبطل الحكم، ولا يلزم المشهودَ له شيء، سواءٌ كان المشهود به مالًا أم عقوبة؛ لأن الحكم قد تم باستيفاء المحكوم به، ووصول الحق إلى مستحقه، ويرجع به إلى الشاهدين، ثم ينظر، فإن كان المشهود به إتلافًا في مثله القصاص كالقتل والجرح نظر في رجوعهما، فإن قالا: تعمدنا الشهادة عليه بالزور ليقتل أو يقطع، فعليهما القصاص([7]).
وتثبت شهادة الزور إما بالإقرار، أو يتبين من الشهادة استحالة صدقها، كما لو شهد على آخر بأنه قد سرق مالًا من آخر في مكان معين، بينما المشهود عليه لم يكن موجودًا أو معروفًا أصلًا في ذلك المكان، وإذا حكم الحاكم بشهادة الزور نفذت قضاء، ولا تنفذ ديانة، فيأثم شاهد الزور والمشهود له به إذا كان يعلم بذلك؛ لأنه ليس للحاكم إلا ما ظهر له، والأصل في ذلك قول رسول الله -ﷺ- : «إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إليَّ، ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئًا، فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار، فلا يأخذها»([8]).
وتجب معاقبة شاهد الزور بسبب شهادته، وقد اختلف الفقهاء في كيفيتها، فمنهم من قال: يعزر، ومنهم من قال: يشهر به في الأسواق حتى يعرفه الناس، ومنهم من قال: يسجن ويضرب، وقد نصت الأنظمة الحديثة على جعل شهادة الزور من الجرائم، ومعاقبة أصحابها، وتتفاوت هذه العقوبة حسب أنظمة البلدان، ونظرتها لهذه الجريمة وأضرارها.
ويعد شاهد الزور فاسقًا، ولا تقبل شهادته حتى يتوب إلى الله، فإذا تاب، ومضت مدة معقولة على توبته، قبلت شهادته، والأصل في ذلك قول الله -عز وجل-: {فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيم} [المائدة:39]، وقوله -عز ذكره-: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيم} [آل عمران:89].
وخلاصة المسألة: أن شهادة الزور من أكبر الكبائر، وأعظم المحرمات؛ لما تنطوي عليه من الكذب والظلم، ويضمن شاهد الزور ما ترتب على شهادته من الضرر، وتثبت شهادته أنها زور إما بإقراره، وإما بما يتبين من استحالة صدقها، فإذا رجع عن شهادته، فإن كانت قبل الحكم بها فلا يجب الحكم بها، وإن كان الرجوع بعد الحكم بها وقبل الاستيفاء، فان كان المحكوم به عقوبة كالحد أو القصاص لم يجز استيفاء؛ لأن الحدود تدرأ بالشبهات.
أما إن كان الرجوع بعد الاستيفاء فلا يبطل الحكم، ولا يلزم المشهود له بشيء، سواء كان المشهود به مالًا أم عقوبة؛ لأن الحكم قد تم باستيفاء المحكوم به. فإن كان المشهود به إتلافا لمال ونحوه فيضمنه، وإن كان المشهود به إتلافًا لنفس، وقال الشاهد: إنه تعمد الشهادة عليه ليقتل، فعليه حينئذ القصاص، ويعاقب شاهد الزور إما بتعزيره، وإما بالعقوبة التي تضعها الأنظمة في البلد الذي تقع فيه هذه الجريمة.
ويعد شاهد الزور فاسقًا، ولا تقبل شهادته إلا بعد أن يتوب إلى الله.
والله تعالى أعلم.
([1]) أخرجه ابن ماجة في كتاب الأحكام، باب شهادة الزور، برقم (2373) ج2 ص794، قال الألباني في ضعيف ابن ماجه، (٤٧٠): موضوع .
([2]) أخرجه الترمذي في كتاب الشهادات، باب ما جاء في شهادة الزور، برقم (2299) ج4 ص474، صححه ابن تيمية في مجموع الفتاوى، (٢٧/٣٥٠).
([3]) أخرجه البخاري في كتاب الأدب، باب عقوق الوالدين من الكبائر، برقم (5976) فتح الباري ج1ص419.
([4]) البحر الرائق شرح كنز الدقائق للإمام زين الدين بن إبراهيم بن محمد المعروف بابن نجيم المصري الحنفي ج7 ص214، وكتاب بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع للكاساني ج6 ص285.
([5]) الكافي في فقه أهل المدينة المالكي، للإمام النمري القرطبي ص476-477.
([6]) روضة الطالبين وعمدة المفتين، للإمام النووي ج1 ص296-301، والمهذب في فقه الإمام الشافعي للفيروزآبادي الشيرازي ج2 ص340-343.
([7]) المغني مع الشرح الكبير للإمام ابن قدامة ج12 ص137-138.
([8]) أخرجه البخاري في كتاب الشهادات، باب من أقام البينة بعد اليمين، برقم (2680)، فتح الباري ج5 ص340.