الأصل أن صلاة الجماعة لا تجب إلا على الرجال، فلا تجب إذًا على النساء، ولكن لا يمنعن من المساجد إذا أمنت عليهن الفتنة، فإن لم تؤمن فلا يجوز خروجهن إليها، وقد دلت الأحاديث المروية عن رسول الله ﷺ على ذلك، ومنها: ما رواه أبو هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله ﷺ قال: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله ولكن ليخرجن وهن تفلات) أي غير متطيبات([1]). وما رواه عبدالله بن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله ﷺ قال: (لا تمنعوا نساءكم المساجد وبيوتهنّ خير لهن)([2]). وما رواه أيضًا أن رسول الله -عليه الصلاة والسلام- قال: (ائذنوا للنساء إلى المساجد بالليل) فقال ابن له: والله لا نأذن لهن فيتخذنه دغلًا والله لا نأذن لهن. قال: فسبَّه وغضب وقال: أقول قال رسول الله ﷺ: (ائذنوا لهن) وتقول لا نأذن لهن([3]).
كما وردت أحاديث تحث على صلاة المرأة في بيتها، ومنها ما رواه أبو الأحوص عن عبد الله عن النبي ﷺ أنه قال: (صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها، وصلاتها في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها)([4]). ومن هذه الأحاديث ما رواه عبدالله بن سويد الأنصاري عن عمته أم حميد أنها جاءت النبي ﷺ فقالت: يا رسول الله إني أحب الصلاة معك. قال: فقال لها: (قد علمت أنك تحبين الصلاة معي وصلاتك في بيتك خير لك من صلاتك في حجرتك، وصلاتك في حجرتك خير من صلاتك في دارك، وصلاتك في دارك خير من صلاتك في مسجد قومك، وصلاتك في مسجد قومك خير لك من صلاتك في مسجدي). قال فأمرت فبني لها مسجدًا في أقصى شيء في بيتها وأظلمه فكانت تصلي فيه حتى لقيت الله([5]). ومن هذه الأحاديث ما روته أم سلمة -رضي الله عنها- أن رسول الله ﷺ قال: (خير مساجد النساء قعر بيوتهن)([6]).
فهذه الأحاديث متقاربة المعنى، وإن اختلفت في ألفاظها وفيها دليل على جواز خروج المرأة للمساجد مع الحث على صلاتها في بيتها حتى لا تتعرض للفتنة، وقد أشارت إلى هذا أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- حين قالت: (لو أدرك رسول الله ﷺ ما أحدث النساء لمنعهن المسجد كما منعت نساء بني إسرائيل)([7]).
وقد دلت آراء الأئمة على هذا المعنى:
ففي مذهب الإمام أبي حنيفة: لا تجب صلاة الجماعة على النساء؛ لأن في خروجهن إلى الجماعة فتنة، ولكن لا بأس للمرأة المسنة أن تخرج للصلاة في المغرب والعشاء والفجر، واختار المتأخرون كراهة خروجهن ليلًا أو نهارًا؛ لفساد الزمان([8]).
وفي مذهب الإمام مالك: يجوز خروج المرأة إلى المسجد لشهود صلاة العشاء بالليل وقد يدخل في ذلك كل صلاة؛ لعموم لفظ
الأحاديث في ذلك، ومنها حديث ابن عمر سالف الذكر وخلافه مع ابنه، ولكن الخروج إلى المسجد ليس بواجب عليهن؛ بل إن الآثار الثابتة تخبر أن الصلاة لهن في بيوتهن أفضل فصار الإذن لهن إلى المسجد إباحة([9]). وفي رواية ابن القاسم عن الإمام مالك أن النساء لا يمنعن من الخروج إلى المساجد فإذا جاء الاستسقاء والعيد فلا يرى بأسًا أن تخرج كل امرأة متجالة. وروى أشهب عنه أن المرأة تخرج إلى المسجد متجالة ولا تكثر التردد وتخرج الشابة مرة بعد مرة، وكذلك في الجنائز يختلف في ذلك أمر المسنة والشابة في جنائز أهلها وأقاربها([10]).
وفي مذهب الإمام الشافعي: ليس على النساء جماعة لا فرض عين ولا فرض كفاية ولكن يستحب لهن، وجماعتهن في البيوت أفضل فإن أردن حضور المسجد مع الرجال كره للشواب دون المسنات([11]).
وفي مذهب الإمام أحمد: أن صلاة الجماعة لا تجب على النساء، ولكن يستحب لهن صلاة الجماعة؛ فإذا اجتمعن يستحب لهن أن يصلين فرائضهن جماعة فأما صلاتهن مع الرجال جماعة فالمشهور في المذهب أنه يكره للشابة، وللعجوز والبرزة حضور جمع الرجال وفي كل حال فإن صلاة المرأة في بيتها أفضل بلا نزاع([12]).
وفي مذهب الإمام ابن حزم: لا يلزم النساء فرضًا حضور الصلاة المكتوبة في جماعة، فإن حضرت المرأة الصلاة مع الرجال فحسن؛ لما قد صح أنهن كن يشهدن الصلاة مع رسول الله ﷺ وهو عالم بذلك، وإن صلين جماعة وأمَّتْهُنَّ امرأة منهن فحسن؛ لأنه لم يأت نص يمنعهن من ذلك([13]).
قلت: وينبني على ما سبق أنه لا يجب على المرأة حضور الصلاة المكتوبة في المساجد فصلاتها في بيتها أفضل لها، كما دلت على ذك الآثار عن رسول الله ﷺ، ولكن لا يجوز منعها من الذهاب إليها على أن يتحقق في ذلك ثلاثة شروط: أولها: ألا تتعرض للفتنة كالخشية على نفسها أو عرضها، ولو كان ذلك مجرد احتمال وعلى هذا يحرم على المرأة الذهاب إلى المساجد إذا كان هناك شباب يعترضون الطريق كما ذكرت الأخت في السؤال.
وثانيها: أن تكون محتشمة في لباسها ومظهرها. وثالث الشروط: أن تكون صلاتها في مكان منعزل عن الرجال في المساجد.
والله تعالى أعلم
([1]) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب ما جاء في خروج النساء إلى المسجد، برقم (561)، عون المعبود شرح سنن أبي داود للعظيم آبادي ج2 ص192، قال الألباني في صحيح أبي داود، (٥٦٥): حسن صحيح.
([2]) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب ما جاء في خروج النساء إلى المسجد، برقم (563)، عون المعبود ج2 ص193، صححه الألباني في صحيح أبي داود، (٥٦٧).
([3]) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب ما جاء في خروج النساء إلى المسجد، برقم (564)، عون المعبود ج2 ص193، معنى دغلاً: الفساد والخداع والريبة، صححه الألباني في صحيح أبي داود، (٥٦٨).
([4]) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب ما جاء في خروج النساء إلى المسجد والتشديد في ذلك، برقم (566)، عون المعبود ج2 ص194-195، صححه السيوطي في الجامع الصغير، (٥٠٧٤).
([5]) أخرجه أحمد في المسند ج6 ص371 وابن خزيمة في صحيحه ج2 ص95، وأخرج أبو داود بمثله في كتاب الصلاة، باب ما جاء في خروج النساء إلى المسجد والتشديد في ذلك، برقم 566، عون المعبود ج2 ص194-195، حسنه الألباني في صحيح ابن خزيمة، (١٦٨٩).
([6]) أخرجه أحمد في مسنده ج6 ص197، 301، وابن خزيمة في صحيحه ج3 ص92، وابن الجوزي في أحكام النساء، باب في ذكر فضل البيت للمرأة ص69، صححه الألباني في صحيح الجامع، (٣٣٢٧).
([7]) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب انتظار الناس قيام الإمام العالم، برقم (869)، فتح الباري ج2 ص406. وأخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب خروج النساء إلى المساجد برقم (144)، وأخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب ما جاء في خروج النساء إلى المسجد والتشديد في ذلك، برقم (1244)، عون المعبود ج2 ص243.
([8])كتاب بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع للكاساني ج1 ص155، والبناية شرح الهداية لبدر الدين العيني الحنفي ج2 ص324، وإعلاء السنن للتهانوي ج4 ص242-244.
([9]) التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد لابن عبد البر النمري الأندلسي ج5 ص411-412.
([10]) التمهيد ج5 ص421، وانظر الاستذكار لابن عبد البر النمري ج7 ص243-249. وجامع الأحكام الفقهية للقرطبي من تفسيره ج1 ص150. ومعنى متجالة: متغطية. جلّلت الشيء إذا غطيته، المصباح المنير للفيومي، ج1 ص106.
([11]) روضة الطالبين للإمام النووي ج1 ص340، وقليوبي وعميرة ج1 ص221-222. والحاوي الكبير للإمام الماوردي، ج2 ص447.
([12]) الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام أحمد، ج2 ص211-213، وانظر الإقناع لطالب الانتفاع للحجاوي، ج1 ص245-246، والفروع لابن مفلح مع تصحيح الفروع للمرداوي ج1 ص601-602.