في هذه المسألة يسأل السائل عن أهمية النية في التصرف، ومفادها للمسلم وفعله، ومـا ترتبه من آثار وأحكام، وهل هي شرط في صحة الفعل أو التصرف ونحو ذلك؟.

أثر النية في العقود والأعمال

والجواب عن هذا: أن للنية أهميةً قصوى في تصرف المسلم وفعله، فهي إرادة باطنة لا يعلمها إلا الله، وفي ذلك قال-سبحانه وتعالى-: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُور} [غافر: 19]، وقال: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} [ق: 16]، ولما كان الإنسان هو مصدرَ هذه النيةِ فإن الله سوف يحاسبه عليها، سواءٌ فيما يتعلق بحقوقه، أو بحقوق خلقه، وفي ذلك قال رسول الله -ﷺ-: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه)([1]).

ففي حق الله -تعالى- يكون الجزاء على العبادة وفق نية العابد، فإن كان نيته من عبادته تحقيق غرض دنيوي فليس له منها إلا هذا الغرض، فمن يزكي -مثلًا-، ونيته غير خالصة لوجه الله، فليس له من عمله ما يستحق عليه الثواب، أو يسقط عنه العقاب.

ومن يجاهد دلالة على شجاعته فليس له من عمله ما يستحق عليه الأجر والثواب، وعندما سئل رسول الله -r- عن الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل رياء، أيُّ ذلك في سبيل الله؟، قال -عليه الصلاة والسلام-: (من قاتل لتكون كلمة الله هى العليا فهو في سبيل الله)([2])، وهكذا تحدد النية صحة العمل وفساده.

والأصل في مسائل العبادات أن محل النية القلب دون حاجة للتعبير عنها؛ لأن العبادة لله وحده، وهو المطلع العالم بما في نفس العابد، وعلمه بذلك مانعٌ ما سواه، ولهذا لا ينبغي التلفظ بها، إلا ما ورد من نصوص في الشريعة كَنِيَّةِ الإحرام، والنية عند ذبح الأضحية والهدي.

أما في مسائل المعاملات فإن النية لا تكفي وحدها لإنتاج أثر شرعي في العقود وسائر الأعمال، بل لا بد من وجود دلالة عليها، ففي المذهب الحنفي: لا تنعقد عقود البيع أو الاقالة أو الإجارة بالنية، بل لا بد من التعبير عنها بالقول أو الفعل([3])، وفي المذهب الشافعي: لا تعمل النية وحدها، وأن البيع لا يصح إلا بالإيجاب والقبول([4]).

وفي المذهب الحنبلي: لا تكفي النية وحدها لإحداث الأثر الشرعي، بل لا بد من التعبير عنها بما يدل عليها، وفي هذا قول جامع للإمام ابن القيم، فتحت عنوان “الألفاظ موضوعة للدلالة على ما في النفس”، قال -رحمه الله -: “إن الله -تعالى- وضـع الألفاظ بين عباده تعريفا ودلالة على ما في نفوسهم، فإذا أراد أحدهم من الآخر شيئا عرفه بمراده وما في نفسه بلفظه، ورتب على تلك الإرادات والمقاصد أحكامها بواسطة الألفاظ، ولم يرتب تلك الأحكام على مجرد ما في النفوس من غير دلالة فعل أو قول، ولا ألفاظ العلم بأن المتكلم بها لم يرد معانيها، ولم يحط بها علمًا، بل تجاوز للأمة عما حدثت بها أنفسها، ما لم تعمل به، أو تكلم به، وتجاوز لها عـمـا تكلمت به مخطئة، أو ناسية، أو مكرهة، وغير عالمة به، إذا لم تكن مريدة لمعنى مـا تكلمت به، أو قاصدة إليه”.

ثم قال: “فإذا اجـتـمـع القـصـد والدلالة القولية أو الفعلية ترتب الحكم، هذه قاعدة الشريعة، وهي من مقتضيات عمل الله وحكمته، فإن خواطر القلـوب وإرادة النفوس لا تدخل تحت الاختيار، فلو ترتبت عليها الأحكام لكان في ذلك أعظم حرج ومشقة على الأمة، ورحمة الله وحكمته تأبى ذلك”([5]).

هذه مجمل آراء العلماء، باستثناء ما ورد في المذهب المالكي من قول لبعض فقهائه بأن النية تحدث أثرًا شرعيًّا في بعض التصرفات، دون حاجة إلى وجود إرادة واضحة تدل عليها([6]).

ولكن عندما يُعَبَّرُ عن النية بإرادة ظاهرة هل يتطلب ذلك البحث عن الباعث الخفي لهذه الإرادة، ومدى مطابقة ظاهرها لباطـنهـا، أو يترتب الحكم بمجرد ظهور هذه الإرادة فحسب؟.

والجواب عن هذا يقتضي التفريق بين مسائل العبادات والمعاملات، ففي العبادات ينظر إلى عمل الإنسان من ظاهره دون حاجة للبحث عن دواخله وبواعثه؛ لأن العمل خاص بالله، وهو وحده المطلع عليه، وذلك-كما قلنا-مانع لدليل سواه، وقد استنكر رسول الله -ﷺ-فعل أسامة بن زيد حين قتل رجلا بعد نطقه بالشهادة ظنًّا من أسامة أنه قالها خوفا من القتل، فتساءل-عليه الصلاة والسلام-قائلًا: (أفلا شققت عن قلبه)؟([7]).

كما أكد-عليه الصلاة والسلام-على الأخذ بظاهر الرجل في عبادته، فقال في من يشهد جماعة المسلمين: (إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان)([8])، فدل ذلك في هاتين المسألتين على أن الأخذ بظاهر النية لا يتفق مع حقيقتها، فإذا ظهر أن الباعث لمن يشهد جماعة المسلمين هو التجسس عليهم، أو خدمة عدوهم، وجبت معاملة الفاعل على أساس بواعثه ومقاصده.

أما البحث عن الباعث في المعاملات فللفقهاء في ذلك عدة آراء، ففي المذهب الحنفي: ينبغي الأخذ بظاهر الإرادة دون البحث عن الباعث لها، فلو كان القصد من عقد الزواج هو التحليلَ فالنكاح صحيح، ما لم يتلفظ بالتحليل([9])، وما دامت شروط النكاح قد توافرت، وليس للبائع أن يتيقن من بيع عصيره بأن المشتري لن يستعمله خمرًا؛ لأن بيع العصير حلال في ذاته، وليس من واجب البائع أن يبحث عن قصد المشتري منه([10]).

وفي مذهب الإمام مالك: ينبغي معرفة الباعث، فإذا كان قصد المدين من هديته الدائن تأجيل دينه فذلك لا يجوز؛ لأنه من باب الربا، وإذا كان القصد من عقد الزواج التحليل فهذا العقد باطل([11]).

وفي مذهب الإمام الشافعي: أن المعول في العقد على الظاهر منه، وفي ذلك قال -رحمه الله -: “أصل ما أذهب إليه أن كل عقد كان صحيحًا في الظاهـر لم أبطله بتهمة، ولا بعادة بين المتبايعين، وأجـزته بصحة الظاهر، وأكره لهما النية إذا كانت النية لو أظهرت كانت تفسد البيع”([12]).

وفي المذهب الحنبلي: ينبغي النظر إلى الباعث، وقد لخص الإمام ابن القيم اتجاه المذهب في ذلك بقوله: “وقاعدة الشريعة التي لا يجوز هدمها: أن المقاصد والاعتقادات معتبرة في التصرفات والعادات، كما هي معتبرة في التقربـات والعبادات، فالقصد والنية والاعتقاد يجعل الشيء حلالًا أو حرامًا، وصحيحـًا أو فاسدًا، وطاعة أو معصية”([13])، ثم قال: “والنية روح العمل ولبه وقوامه، وهو تابع لها، يصح بصحتها، ويفسد بفسادها، والنبي -ﷺ- قد قال كلمتين كفتا وشفتا، وتحتهما كنوز العلم، وهما قوله: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)، فبين في الجملة الأولى أن العمل لا يقع الا بالنية، ولهذا لا يكون عمل إلا بنية، ثم بين في الجملة الثانية أن العامل ليس له من عمله إلا ما نواه، وهذا يعم العبادات، والمعاملات، والأيمان، والنذور، وسائر العقود والأفعال، وهذا دليل على أن من نوى بالبيع عقد الربا جعل له الربا، ولا يعصمه من ذلك صورة البيع، وأن من نوى بعقد النكاح التحليل كان محللًا، ولا يخرجه من ذلك صورة عقد النكاح؛ لأنه قد نوى ذلك”([14]).

قلت: ولعل هذا هو الرأي الأصح فإذا كانت البواعث والمقاصد في مسائل العبادات متروكة لعلم الله فإن مسائل المعاملات من شؤون الناس في حياتهم وتعاملهم، واستقصاؤهم لمقاصد التعامل يحفظ حقوقهم، فلو أجيز عقد النكاح في التحليل لكان في ذلك أشد الضرر لأحد طرفيه، أو كليهما حسني النية، ولو أجيز بيع العنب لمن يعصـره خمرًا لكان ذلك تشجيعا واستشراءً للمحرم، ولو أجيزت هدية المدين للدائن لكان ذلك ضربا من ضروب الربا، واستغلال المدين، وبقائه أسيرًا للدائن، ولو أجيز غسل أثمان المخدرات بأي صفة من صفات الغسل لكـان ذلك تحايلًا على حرمة الكسب من هذا التعامل المحرم، وهكذا تبقى المقاصد من المسائل المهمة التي تحرص قواعد الشريعة على اعتبارها في التعامل؛ لكي يكون هذا التعامل سليما من الآثام والأضرار.

والله أعلم.

([1]) اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان، كتاب الإمارة، باب قوله: “إنما الأعمال بالنية”، وأنه يدخل فيه الغزو وغيره من الأعمال، ج2 ص260-261.

([2]) اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان، كتاب الإمارة باب “من قاتل لتكون كلمة الله هى العليا فهو في سبيل الله”، ج2 ص260.

([3]) الأشباه والنظائر لابن نجيم الحنفي ص2٤،٤8،٤9، ورد المحتار ج1 ص 516.

([4]) المجموع للنووي 7/165.

([5]) إعلام الموقعين عن رب العالمين، ج3 ص105.

([6]) انظر: مواهب الجليل للحطاب، ج٤ ص۱۰۱، والتعبير عن الإرادة في الفقه الإسلامي، لوحيد       الدين سوار، ص37-38.

([7]) صحيح مسلم بشرح النوري، باب تحريم قتل الكافر بعد قوله: لا إله إلا الله، ج۲ – ۹۹.

([8]) مسند الإمام أحمد، في مسند أبي سعيد الخدري-رضي الله عنه-، ج۳ ص68، وأخرجه الترمذي في سننه، (٣٠٩٣) وقال: حسن غريب.

([9]) فتح القدير، ج4 ص 181-182.

([10]) حاشية رد المحتار، ج4 ص5۹۲.

([11]) المدونة الكبرى، ج2 ص 171.

([12]) الأم، ج3، ص 74.

([13]) اعلام الموقعين، ج3 ص 107- 108.

([14]) إعلام الموقعين، ج3 ص 123.