سبق ‬أن سأل الأخ ز. ‬أ من ولاية الينوي ‬الأمريكية عن زواج وقع ‬من أجل تحقيق مصالح شخصية وجنسية، وأن هذا الزواج قد توافرت ‬فيه شروطه، ولكن لم تتوافر فيه مقاصده، وهي «‬النسل‮» ‬و«استمرار الزواج‮، ‬وذلك أن النية هي ‬الطلاق. ‬ثم سأل الأخ عن حكم هذا الزواج في ‬الإسلام، وهل هو حلال أم حرام؟‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

حكم الزواج لتحقيق مصالح شخصية مع نية الطلاق

بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبعد:

فقد ورد في جواب المسألة: أن هذا النكاح يختلف في صورته تلك عن نكاح المتعة ذلك أن النية في هذا النكاح (أي نكاح المتعة) مبنية أصلًا على الاستمتاع وحده.

وكان جواب المسألة: جواز هذا النكاح بغير شروط وبنية الطلاق([1])، وقد بنينا هذا الجواب على ما قاله جمهور العلماء بجوازه، وقد ذكر ذلك الزرقاني في شرحه على موطأ الإمام مالك بقوله: «وأجمعوا على أن من نكح نكاحًا مطلقًا، ونيته ألا يمكث معها إلا مدة نواها أنه جائز، وليس بنكاح متعة»([2])، كما ذكر ذلك الإمام ابن قدامة بقوله: «وإن تزوجها بغير شرط إلا أن في نيته طلاقها بعد شهر، أو إذا انقضت حاجته في البلد، فالنكاح صحيح في قول عامة أهل العلم، إلا الأوزاعي قال: هو نكاح متعة، والصحيح: أنه لا بأس به، ولا تضر نيته»([3]).

قلت: ولم يكن الإمام الأوزاعي هو الذي قال بعدم جوازه فحسب، بل إن الإمام مالكًا كرهه، فقد سئل -رحمه الله- عن الرجل يهوى المرأة، فيريد أن يتزوجها فيقضي منها لذته، وليس من شأنه أن يمسكها إذا قضى منها لذته، ويفارقها بعد أن يشتفي منها، قال: لا بأس بذلك، وليس هذا بجميل من أخلاق الناس، ولا أحسب أن من النساء من لو علمت بذلك لم ترض أن تتزوج مثل هذا، قال مالك: وهذا بالعراق النهارية، فقيل لمالك ما النهارية؟ قال: قوم يتزوجون على أن لا يأتيها إلا نهارًا، ولا يأتيها ليلًا، قلت له: ما سمعت بهذا، قال: بلى، هذا فيهم قديم، قيل لمالك: أفتكره ذلك؟ قال: نعم مكروه، ولا خير فيه، قال عيسى: فإن وقع، فُسخ قبل البناء وبعده»([4]).

أما في المذهب الحنبلي: فقد ذكر الإمام ابن مفلح أن القصد يؤثر في النكاح .. فإذا تزوج الغريب المرأة، بنية طلاقها إذا خرج من البلد لم يصح([5])، وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن رجل «ركاض» يسير في البلاد في كل مدينة شهرًا أو شهرين ويعزل عنها، ويخاف أن يقع في المعصية، فهل له أن يتزوج في مدة إقامته في تلك البلدة، وإذا سافر طلقها وأعطاها حقها أولا؟ وهل يصح النكاح أم لا؟ وقد أجاب -رحمه الله- بأن له أن يتزوج؛ لكن ينكح نكاحًا مطلقًا، لا يشترط فيه توقيتهًا، بحيث يكون إن شاء أمسكها وإن شاء طلقها، وإن نوى طلاقها حتمًا عند انقضاء سفره كره في مثل ذلك، وفي صحة النكاح نزاع([6]).

أما الإمام الأوزاعي: فرأى أن من نكح نكاحًا مطلقًا، وفي نيته ألا يمكث مع من تزوجها إلا مدة نواها فهو باطل، لأنه نكاح متعة([7]). وقد تبعه في ذلك الشيخ محمد رشيد رضا بقوله: «هذا وإن تشديد علماء السلف والخلف في منع المتعة، يقتضي منع النكاح بنية الطلاق، وإن كان الفقهاء يقولون: إن عقد النكاح يكون صحيحًا إذا نوى الزوج التوقيت، ولم يشترطه في صيغة العقد، ولكن كتمانه إياه يعد خداعًا وغشًا، وهو أجدر بالبطلان من العقد الذي يشترط فيه التوقيت، يكون بالتراضي بين الزوج والمرأة ووليها، ولا يكون فيه من المفسدة إلا العبث بهذه الرابطة العظيمة، التي هي أعظم الروابط البشرية، وإيثار التنقل في مراتع الشهوات بين الذواقين والذواقات، وما يترتب على ذلك من المنكرات، وما لا يشترط فيه ذلك يكون على اشتماله على ذلك غشًّا وخداعًا، يترتب عليه مفاسد أخرى من العداوة والبغضاء، وذهاب الثقة حتى بالصادقين، الذين يريدون بالزواج حقيقته، وهو إحصان كل من الزوجين للآخر، وإخلاصه له، وتعاونهما على تأسيس بيت صالح من بيوت الأمة»([8]).

قلت: وبتصور حالة النكاح بنية الطلاق في الوقت الذي قال فيه الفقهاء بجوازه، وحالة هذا النكاح في وقتنا الحاضر يتبين لنا ثلاث حقائق، أوجدها فارق الزمان:

الأولى: أن أفراد الأمة منذ انتشارها في الأمصار، كانوا يتنقلون من مكان إلى آخر دون حواجز تذكر: إما طلبًا للرزق أو طلبًا للعلم وكان هاجس المسلم آنذاك عصمة دينه من الزلل، خاصة وأنه لا يستطيع العودة إلى مكان إقامته إلا بعد سنوات أو على الأقل بعد شهور، فكانت هذه الرخصة له أن يتزوج ولو كان في نيته الطلاق، والتصور في هذه الحالة أنه في الغالب الأعم سيبقى على زواجه هذا خاصة، وأن إقامته الطويلة في مكانه تيسر له النسل، ومن ثم الاستقرار في مكانه مع زوجته وولده، والقاعدة الغالبة في هذا أنه لن يطلق أم ولده، ويؤيد هذا التصور أن كثيرًا من الذين انتقلوا من مغرب الأمة إلى مشرقها استقروا في هذا المشرق، والحال كذلك للذين انتقلوا من مشرقها إلى مغربها استقروا فيه، وأمسكوا بزوجاتهم وهكذا في الأماكن الأخرى للأمة.

الحقيقة الثانية: إننا في زمن يختلف عن سابقه فلم تعد المسافات كما كانت، ولم تكن حال الناس كحالهم من قبل؛ فالمسافر لم يعد يقيم في مكان سفره سوى شهر أو أيام قليلة، ثم يعود إلى مكان إقامته، والزواج لم يعد كحال سابقه، فإن كان للمسافر فيما مضى يعد «ضرورة» للعفاف، فهو له في الحاضر «استمتاع».

الحقيقة الثالثة: أن الزواج بنية الطلاق كان في الماضي حالة «استثنائية»، أما في هذا الزمان فقد كثرت وتعددت مسميات الزواج: منها ما سمي «زواج المسيار»، و«زواج المسفار»، وزواج «الصيف»، وزواج «الصداقة»، وربما نرى حالات مشابهة أخطر وأعظم من ذلك، والغالب في هذه الزيجات «الاستمتاع»، رغم توفر الشروط الظاهرة للزواج.

ولعمري أن الزواج بنية الطلاق في الحالات التي تُرْوى وتُشَاهد في هذا الزمان لشبيه بزواج المتعة، أو هي الرديف له، فاقتضى هذا مني البراءة من القول بجوازه، خلافًا لما ذكر في المسألة السابقة للأسباب المشار إليها آنفًا، وأيضًا للأسباب التالية:

أولها: أن أسس الزواج السكينة والمودة والرحمة والنسل، والأصل فيه قول الله عز وجل: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُون} [الروم: 12]. وقوله عز ذكره: {وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً} [النحل: 27]. وفي هذا الزواج تنتفي هذه الأسس كلها، فالسكينة فيه مؤقتة، والمودة والرحمة فيه غير متحققة، لأن القصد قضاء الوطر من الزوجة مدة معلومة، والنسل فيه غير متحقق، لأن من ينوي طلاق من تزوج بها لا يريد منها بنين وحفدة.

السبب الثاني: أن القصد أساس في التعامل بين عباد الله، وهو بالمعنى الآخر «النية»، والأصل في ذلك قول رسول الله ﷺ: (إنما الأعمال بالنيات، ولكل امرئ ما نوى)([9])، فمن ينوي الطلاق قبل الزواج يعد سيئ النية في تعامله، ويدخل في حكم الذواقين، ومع أن الطلاق أبغض الحلال إلى الله، فإن أحدًا لا ينكره، ولكن المشكلة في تبييته.

السبب الثالث: أن إخفاء نية الطلاق عن الزوجة، يعد غشًّا لها والأصل تحريم الغش، لقول رسول الله ﷺ: (من غشنا فليس منا)([10])، ولا يختلف الزوج في نيته هذه عن التاجر الذي يغش من يتعامل معه، وعدَّه رسول الله ﷺ من الفجار.

السبب الرابع: أن القول بأن الطلاق قد لا يتحقق رغم هذه النية، وأن النكاح قد يتحول إلى نكاح دائم، وأن المعاشرة بين الزوجين قد تجعل بينهما مودة ورحمة ونسلًا، وهذا وإن كان في ظاهره صحيحًا، إلا أنه احتمال، والاحتمال لا تبنى عليه الأحكام.

قلت: ولهذه الأسباب مجتمعة أرى أن هذا النكاح في هذا الزمان شبيه بنكاح المتعة.

والله أعلم بالصواب.

([1])  مجلة البحوث الفقهية المعاصرة العدد الثاني والخمسون، رجب – شعبان – رمضان 1422هـ، ص229-232.

([2])  شرح الزرقاني على موطأ الإمام مالك ج3 ص201.

([3])  المغني مع الشرح الكبير ج7 ص573.

([4])  البيان والتحصيل لأبي الوليد بن رشد القرطبي ج4 ص309.

([5])  كتاب الفروع ج5 ص216.

([6])  مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ج32 ص106 – 107.

([7])  فقه الإمام الأوزاعي للدكتور عبدالله الجبوري ج2 ص31.

([8])  تفسير القرآن الحكيم المشهور بتفسير المنار ج5 ص15.

([9])  أخرجه البخاري في كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله ﷺ، فتح الباري ج1 ص15، برقم (١).

([10])     أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب قول النبي ﷺ: »من غشَّنا فليس منَّا« صحيح مسلم بشرح النووي ج1 ص766، برقم (١٠١).