وفي الجواب على هذا السؤال أربع وقفات:
الوقفة الأولى: فرضية القصاص من الجاني، جزاء جنايته، خاصة القتل العمد في السؤال، والقصاص من: قَصَّ الأثر أي: اتَّبعه، كما قال: {فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا} [الكهف:64]، والقص يأتي بمعنى الجرح أو القطع، والأصل فيه الكتاب والسنة والإجماع والمعقول.
أما الكتاب: فقول الله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة:178]، والكتابة هنا بمعنى الفرض، وحقيقته أن من قتل غيره وجب عليه الاستسلام لما كتب الله عليه، وهو القصاص منه؛ لأن نفسه ليست أفضل من نفس مقتوله، كما قال: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة:45]، وكما يلزم القاتل الاستسلام لما فرض الله عليه من القصاص يلزم ولي المقتول الاستسلام كذلك لما فرض الله له، وهو القصاص من قاتل وليه بعينه، فلا يتعدى إلى قتل غيره، كما كان العرب في جاهليتهم يفعلون، فيقتلون غير القاتل، كقتل قريبه أو أحد عشيرته، أو عدم المماثلة فيه، فإذا قُتلت امرأة منهم لم يقبلوا إلا رجلًا، وإذا قُتل مملوكٌ لم يقبلوا كذلك إلا حرًّا.
وأما السنة: فالأحاديث كثيرة، منها: ما رواه أنس-رضى الله عنه-: كسرت الربيع -وهي عمة أنس رضى الله عنها- ثنية جارية من الأنصار، فطلب القوم القصاص، فأتوا النبي -ﷺ- ، فأمر بالقصاص، فقال أنس بن النضر: لا والله لا تكسر ثنيتها يا رسول الله! فقال رسول الله: «يا أنس! كتاب الله القصاص». فرضي القوم، وقبلوا الأرش، فقال رسول الله -ﷺ- : «إن من عباد الله من لو أقسم على الله لَأبَرَّهُ»([1]). ومنها: قول رسول الله -ﷺ- : «من قتل مؤمنًا متعمدًا دفع إلى أولياء القتيل، فإن شاؤوا قتلوه، وإن شاؤوا أخذوا الدية»([2]).
أما الإجماع: فقد أجمعت الأمة في سلفها وخلفها على أن القصاص من الجاني حكم من أحكام الله.
وأما المعقول: فإن الله ساوى بين عباده، فلم يجعل لأحد منهم فضلًا على الآخر، إلا بما يكون عليه أحدهم من التقوى. وهذه المسألة تقتضي حكما أن نفس كل واحد منهم مساوية لنفس الآخر، فمن تعدى منهم على هذه الأنفس وجب القصاص منه، وفي ذلك عمران الأرض وعدم فسادها، ولو لم يكن هذا الحكم الرباني لبغى القوي على الضعيف، والكبير على الصغير، وفي ذلك فساد الأرض التي حكم الله-وحكمه الحق-أنها صالحة لحياة عباده.
وقد اختلف الفقهاء في مسألة القصاص في القتل العمد:
ففي مذهب الإمام أبي حنيفة: أن ما يجب في قتل العمد هو القصاص عينا، فلا يجوز لولي الدم أن يأخذ الدية من القاتل دون رضاه([3]).
وهو -أيضًا- في مذهب الإمام مالك([4]): والحجة في ذلك قول الله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} وما كتبه الله ليس فيه تخيير، والحجة-أيضًا-سن الربيع، ففيه قال رسول الله -ﷺ- : «كتاب الله القصاص»، فدل هذا على أن الواجب في القتل العمد هو القصاص:
وفي مذهب الإمام الشافعي قولان، أظهرهما: أن في القتل العمد القصاص، وأن الدية بدل له إذا سقط، وأن للولي العفو عن القصاص على الدية دون رضا القاتل([5]).
وفي مذهب الإمام أحمد: أن الواجب في القتل العمد هو القصاص أو الدية، فللولي الخيار، فإن شاء أخذ بالقصاص، وإن شاء أخذ الدية، ولو لم يرض القاتل([6]). واستدلوا على ذلك بقول الله-تعالى-: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة:178]، وسيأتي بيان ذلك. وكذلك ما رواه أبو هريرة مرفوعًا: «من قتل له قتيل فهو بخير النظرين: إما أن يودي، وإما أن يقاد»([7]). وكذلك ما رواه أبو شريح الكعبي، قال: إن رسول الله -ﷺ- قال: «إنكم معشر خزاعة قتلتم هذا القتيل من هذيل، وإني عاقله، فمن قتل له بعد مقالتي هذه قتيل فأهله بين خيرتين: أن يأخذوا العقل، أو يقتلوا»([8]). وفي رواية أخرى عن أبي شريح: أن رسول الله -ﷺ- قال عام الفتح: «من قتل له قتيل فهو بخير النظرين، إن أحب أخذ العقل، وإن أحب فله القود»([9]). قال أبو حنيفة: قلت لابن أبي ذئب: أنأخذ بهذا يا أبا الحارث؟، فضرب صدري، وصاح صياحًا كثيرًا، ونال مني، وقال: أحدثك عن رسول الله -ﷺ- ، وتقول: نأخذ به؟! نعم آخذ به، وذلك الفرض عليّ وعلى من سمعه أن الله اختار محمدًا -ﷺ- من الناس، فهداهم به على يديه، واختار لهم ما اختاره له وعلى لسانه، فعلى الخلق أن يتبعوه طائعين وداخرين، لا مخرج لمسلم من ذلك، قال: وما سكت عني حتى تمنيت أن يسكت([10]).
والخلاف بين الفقهاء في مسألة القصاص والتخيير فيه ظاهر في المذهب الواحد، فمنهم من يرى القصاص دون الدية، ومنهم من يرى تخيير ولي الدم بين استيفاء القصاص أو أخذ الدية.
الوقفة الثانية: أن في القصاص حياةً للعباد: والأصل في ذلك قول الله-عز ذكره-: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون} [البقرة:179]، وفي هذا حكم من الله -وهو أحكم الحاكمين-، فقد كان العرب في جاهليتهم يحمون القاتل منهم، فتحمي القبيلة القاتل منها، ثم يحدث القتل بينها وبين قبيلة المقتول، فيقتل من هذه ومن تلك أناس أبرياء، فلما شرع الله القصاص من القاتل أحجم عن القتل؛ لأن القاتل أصبح يدرك أنه سيقتل بعينه، فكان في ذلك دفع لشره، ونفع عظيم لدفع ضرر كبير عن العباد، فهذا هو الحياة، وقد خاطب الله أصحاب العقول؛ لكي يدركوا هذه النعمة والحكمة الإلهية، فيمتنعوا عن القتل.
وقد عرف الإسلام في بداية عهده القصاص، سواءٌ أكان في القتل أم فيما دونه، وكان رسول الله -ﷺ- أول من قص من نفسه، فبينما كان يقسم شيئًا إذْ أكب عليه رجل، فطعنه بعرجون كان معه، فصاح الرجل، فقال رسول الله -ﷺ- : «تعال فاستقد»، فقال الرجل: لقد عفوت يا رسول الله، وكما فعل، فعل أصحابه، فقد توعد عمر بن الخطاب -رضى الله عنه- عماله إذا ظلموا بقوله: “إني لم أبعث عمالي ليضربوا أبشاركم، أو ليأخذوا أموالكم، فمن فعل ذلك فليرفعه إليَّ أقصه منه”([11])، والقصص في هذا كثيرة.
الوقفة الثالثة: العفو عن القصاص: والدليل فيه عند من يقول به قول الله: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة:178]، وقد اختلف المفسرون في تأويل هذه الآية، فأحد تأويلاتها: قول ابن عباس وجماعة من المفسرين: إن (مَنْ) يراد به القاتل، و(عفي) يراد منها ولي الدم، و(أخيه) يراد به المقتول، و(شيء) هو الدم المعفو عنه، ويرجع إلى أخذ الدية([12])، والمعنى -كما يقول الإمام القرطبي-: أن القاتل إذا عفا عنه ولي المقتول عن دم مقتوله، وأسقط القصاص، فإنه يأخذ الدية، ويتبع بالمعروف، ويؤدي إليه القتل بإحسان([13]) {ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ}، وفي هذا منة من الله على أهل هذا الدين في عدم التعسير عليهم، فقد كان أهل التوراة يقتصون، ولم يكن لهم أخذ الدية وكان لأهل الإنجيل العفو، وليس لهم غيره من قود أو دية([14]). ويستدل -أيضًا- من قال بالعفو بقول الله-تعالى-: {فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ} [المائدة:45]، وأن رسول الله -ﷺ- ما رفع إليه شيء فيه قصاص إلا أمر فيه بالعفو([15]).
الوقفة الرابعة: الشبه المصاحبة للقصاص: دل ما سبق على أن القصاص في القتل العمد حكم من أحكام الله التي شرعها لعباده لنفعهم ودفع الضر عنهم، كما دل على أن العفو عن القصاص من شرع الله، فمن أراد أن يقتص من القاتل فله ذلك، ومن أراد أن يعفو عنه، ويأخذ البدل فله ذلك، وما ورد في السؤال عن دفع ذوي القاتل ملايين الدراهم لقاء العفو عن القاتل يثير فعلًا الشبه والشكوك حول حقيقة هذا العفو.
ومن هذه الشبه: الإغراء بالمال، حتى يظن أن هذا الإغراء أصبح متاجرة بالدم، فالمراد من العفو الصدقة، أي: أن المجروح عندما يعفو عن قاتل وليه، فإنه يتصدق عليه، وفي هذا قال الله: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ } [المائدة:45]، وفيه قال رسول الله -ﷺ- : «ما من مسلم يصاب بشيء من جسده، فيتصدق به، إلا رفعه الله به درجة، وحط عنه به خطيئة»([16]).
إن العفو في معناه ومبناه أكبر من أن يكون تجارة تُسترخص بها النفس، فيعلم المجرمون أنهم سينجون من القصاص بفعل ما يبذله ذووهم من المال، فلا يبالون حينئذ بما يفعلون من القتل والعدوان، فمن عفا، وأخذ البدل فله الحق في ذلك، والبدل معلوم من دية النفس وقدرها، مما جاءت به الأحكام في أزمنتها وأمكنتها.
ومن الشبه: الدفع النفسي للورثة للعفو عن القصاص، هذا مما يقوم به أولياء القاتل أو وسطاؤهم، فيأتون بالحجج للتأثير عليهم، ودفعهم للعفو، ونحو ذلك مما قد يحدث لهم إذا عفوا عن القاتل، فيقع الورثة عندئذ بين الترغيب والترهيب، فيعفون عنه وهم كارهون.
ومن الشبه: إغراء بعض الورثة للعفو (كالزوجة)، فمن المعلوم أن أحد المستحقين من الورثة إذا أسقط حقه في القصاص يسقط حق الباقين منهم؛ لأن القصاص حق واحد لا يتجزأ، والخشية في هذا أن بعض الورثة ممن لم يوافق على العفو، قد يثأر من القاتل فيقتص منه، فيستمر التقاتل بين ذوي الفريقين، ويقتل أناس أبرياء. ومن الشبه: استغلال ذوي القاتل أو وسطائهم لطول مدة التحقيق مع القاتل، وما يتبع ذلك من الإجراءات الضرورية لبقائه في السجن، مما يؤثر على الورثة أو بعضهم للعفو، رغبة في إنهاء معاناتهم مما حدث لقتيلهم.
قلت: والقتل العمد أمر عظيم، والعفو كذلك، والأعمال بالنيات، فمن عفا بقصد الحصول على ملايين الدراهم عن قتل موليه، فعفوه مردود عليه، ومن كان يريد ابتغاء الأجر (ولو أخذ البدل) فأجره على الله، ولكل امرئ ما نوى، كما قال رسول الله -ﷺ- : «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى»([17]).
وخلاصة المسألة:
أن القتل العمد أمر عظيم، وجزاؤه في الدنيا القصاص من صاحبه، كما كتبه الله وفرضه على عباده، وأخذ البدل أمر مشروع، والعفو عنه أمر مشروع -أيضًا-، ولكن ينبغي أن يكون هذا العفو حرًّا، يقصد به صاحبه الصدقة على القاتل، وابتغاء المثوبة من الله، (حتى لو أخذ البدل عنه)، وألا يكون مشوبًا بشيء من الشبه، كالإغراء بالمال، أو دفع الورثة نفسًا للعفو عن القاتل، كما يفعل ذلك أولياء القاتل أو وسطاؤهم ممن يتقاضون أجرًا عن وساطتهم.
ومن هذه الشبه: إغراء بعض الورثة كالزوجة للعفو حتى يسقط حق الباقين منهم، مما قد ينتج عنه ثأر أحدهم لمورثه، فيستمر القتل بين الفريقين، فيقتل بسبب ذلك أناس أبرياء.
ومن هذه الشبه: استغلال أولياء القاتل أو وسطائهم لطول مدة التحقيق، وما يتبع ذلك من الإجراءات الضرورية لبقائه في السجن، مما يؤثر على الورثة أو بعضهم للعفو؛ رغبة في إنهاء معاناتهم مما حدث لمورثهم.
والجواب على السؤال: أن من عفا بقصد الحصول على ملايين الدراهم عن قتل موليه فعفوه مردود عليه، ومن كان يريد ابتغاء الأجر-ولو أخذ البدل-، فأجره على الله، ولكل امرئ ما نوى، كما قال رسول الله -ﷺ- : «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى»([18]).
([1]) أخرجه البخاري في كتاب الصلح، باب الصلح في الدية، برقم (2703).
([2]) أخرجه أبو داود في كتاب الديات، باب ولي العمد يأخذ الدية، برقم (4508)، حسنه الألباني في صحيح الترمذي، (١٣٨٧).
([3]) بدائع الصنائع، للكاساني ج 7ص241، وأحكام القرآن، للجصاص ج 1ص 186.
([4]) حاشية الدسوقي ج4ص 260، وبداية المجتهد ج 2 ص 393.
([5]) روضة الطالبين ج 9ص 239، ومغني المحتاج ج 4ص 48.
([6]) المغني ج 8 ص 336، وكشاف القناع ج 5ص 543.
([7]) أخرجه البخاري في كتاب الديات، باب من قتل له قتيل فهو بخير النظرين، برقم (6880).
([8]) أخرجه أبو داود في كتاب الديات، باب ولي العمد يأخذ الدية، برقم (4506)، صححه الألباني في صحيح أبي داود، (٤٥٠٤).
([9]) أخرجه البيهقي في معرفة السنن والآثار ج1 ص 131، والشافعي في مسنده ج1ص 243، صحح إسناده شعيب الأرنؤوط في تخريج سير أعلام النبلاء، (٧/١٤٢).
([10]) أخرجه البيهقي في معرفة السنن والآثار ج1 ص 131، والشافعي في مسنده ج1ص 243.
([11]) أخرجه أبو داود في كتاب الديات، باب القود من الضربة وقص الأمير من نفسه، برقم (4539)، حسن إسناده شعيب الأرنؤوط في تخريج سنن أبي داود، (٤٥٣٧).
([12]) الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي ج2ص 253.
([13]) الجامع لأحكام القرآن ج2ص254.
([14]) الجامع لأحكام القرآن ج2 ص 254.
([15]) أخرجه أبو داود في كتاب الديات، باب الإمام يأمر بالعفو في الدم ج2 ص 478، صححه الألباني في صحيح أبي داود، (٤٤٩٧).
([16]) أخرجه الإمام أحمد في مسنده ج6ص 448، ضعفه الألباني في ضعيف الترمذي، (١٣٩٣). وقال شعيب الأرنؤوط في تخريج المسند لشعيب، (٢٧٥٣٤): المرفوع منه صحيح لغيره.
([17]) أخرجه البخاري في كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله، برقم (1).
([18]) أخرجه البخاري في كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله؟، برقم (1).